لا يشتاق كبار السن في مدينتي لأبنائهم كما نشتاق نحن، ولا يعبّرون عن فرحهم وسعادتهم إلّا لماماً، إلّا أن رغبتهم بكسر روتين حياتهم اليومية زادت من حرارة استقبالهم لي، أنا الوافدة الجديدة من ضفة الحياة إلى ضفة الموت. استلم والدي زمام المبادرة بأسئلة كثيرة وجهها لي عن حياتي وعملي ودراستي وأحوال أخوتي والنازحين هناك، بدا وكأنه لا يريد إجابات محددة ولعلّه كان يهرب من الأسئلة التي يعرف أني سألقيها عليه، هو يعلم مطلقاً أن لا مفرّ من الإجابة ولكنه حاول تأجيلها بقدر ما استطاع قبل أن أطلق عليه سؤال “كيف تعيشون؟”
أطرق والدي برأسه أرضاً، دقائق من الصمت مرّت أردفها بتنهيدة طويلة رافقتها عبارة “الحمد لله إلى الآن عايشين”، عرفت من ملامح وجهه ويديه المرتبكتين بعد أن شابك إحداهما بالأخرى لضمان ثباتهما أن ما عناه بالعيش غير ذلك المعنى القديم الذي ألفناه معه سابقاً، فلجمت فضولي تجنباً لإثارة شجون العجائز.
كعادة الأمهات اختبأت والدتي خلف طعام الغداء المكون من (اللحم والبصل) الذي وضعته في صدر البيت لتثبت أن الديار ما زالت عامرة، ولتتهرب هي الأخرى من البكاء كردّ طبيعي عن صعوبة فراقها لأولادها الذين تركوا هذا الجحيم للنجاة بأطفالهم، قال والدي إن اللحم والدجاج أكثر طعام من تبقى في المدينة بعد أن حال القصف وارتفاع أسعار التنقل وغلاء الإيجارات من نقل أصحاب المواشي لمواشيهم، فراحوا يبيعونها لدكاكين الجزارة كيفما اتفق وبأسعار زهيدة.