فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

مشاهد من الحب على وقع القذائف والنزوح

سيرين مصطفى

أمضت سلمى ليلتها بالبكاء والدعاء وهي تقلب رسالة الواتس آب التي وصلتها من حبيبها كرم، جملة وحيدة مختصرة وصورة له بزي عسكري حاملاً بندقيته، ووعد بالعودة وعدم النسيان، بينما انقطع […]

أمضت سلمى ليلتها بالبكاء والدعاء وهي تقلب رسالة الواتس آب التي وصلتها من حبيبها كرم، جملة وحيدة مختصرة وصورة له بزي عسكري حاملاً بندقيته، ووعد بالعودة وعدم النسيان، بينما انقطع التواصل بين نهلة وعامر وأفسح المجال أمام أسئلة كثيرة عن مصير كل منهما، تقول نهلة إنها لا تعرف أين حطّ به المقام وهي تحاول في كل مرة أن تحدق في هاتفها لتجد أن آخر ظهور له كان منذ أيام، أما ردينة فوجدت في بقائها مع جدتها بعد نزوح أهلها حجة لتبقى بجوار خطيبها أنس، لا تريد أن يفارق نظرها، وإن كان لا بدّ من الموت فعليه أن يخطفهما معاً. على أبواب المغارة التي أصبحت ملجأ لكثير من العائلات يقف محمد وهو يراقب الطائرة التي تقصف المكان، يقول إنه يختلس النظر لدقيقة في وجه مرام المبتسمة دائماً لحضوره، وهو ما يخفف عنه وطأة الحياة في هذه الظروف.

ليست تلك المشاهد سيناريو لفيلم أو مسلسل متخيل، وليست أيضاً خيالاً لأبطال من حلم روائي، هي مشاعر حقيقية نمت في ظل الحرب وساهمت ظروفها في إضفاء جمالية على تلك الأيام التي وصفها من تكلمنا معهم بـ “المنكوبة”.

يبحث الشبان الذين التقيناهم عن “وجه جميل” ينسيهم بشاعة النزوح والقصف، ويقربهم من الحياة التي يئسوا من استمراراها، وترى الفتاة في الحب “سنداً روحياً ونفسياً” تتمسك به للبقاء، بعد أن حوّلت الحرب الفتيات إلى وجوه شاحبة باكية وأفقدتهن ما كان يمكن أن يعشنه في ظروف أكثر طبيعية من أحلام.

جميع الأسماء التي التقيناها فضلت عدم ذكر كنيتها، يقولون إنهم حريصون على أحبتهم وعلاقتهم لتستمر، ويدافعون عن مشاعرهم في وجه من يرى في الحب ترفاً زائداً وقت الحرب، يعتقدون أن المجتمع سيرفض ظهور هذه المشاعر إلى العلن، مع يقينهم بأن منتقديهم أيضاً يشعرون به ويحتاجونه، ويخفون ما يحسون به بغرض المكابرة والخوف.

يقول شادي (من ريف إدلب) والذي فقد اثنين من أخوته خلال المعارك إنه أمضى عامين كاملين بمعمل للحديد في تركيا التي دخلها عن طريق التهريب، قبل أن يعود أدراجه ببعض من النقود اللازمة لتأمين حياة مقبولة لخطيبته التي تنتظره، يريد الشاب تجنيب خطيبته عدم الاستقرار الذي رافقها وعائلتها منذ سنوات، ويبحث عن منزل آمن على الشريط الحدودي لإتمام مراسم زفافه، على حدّ قوله.

أما فاطمة (طالبة جامعية من إدلب -23 عاماً) فتنتظر أن تكتمل الأوراق لتسافر إلى خطيبها اللاجئ في أوروبا، تقول إنها حرصت على إكمال دراستها الجامعية وعدم الرسوب رغم الظروف القاسية والطرقات المقطعة، تخبرنا أنها تريد أن تكون “لائقة” في المكان الذي ستذهب عليها، كذلك لتحمل مسؤولياتها مع خطيبها في بلاد الغربة.

لم يدفن النزوح والقتل قصص الحب، يقول بعض الذين التقيناهم إنها زادت خلال هذه الفترة، ويعزون السبب لحاجة الشباب إلى الراحة النفسية، كذلك حالة الطهر التي تفرضها الحرب والتقرب من الله، إضافة إلى التعلق بـ “ما يدفعهم إلى النجاة” في مكان تنتشر فيه رائحة الموت بكل زواياه.

زينب الفتاة الثلاثينية التي وجدت نفسها نازحة إلى معرة مصرين بالقرب من إدلب، قالت إنها كانت تهرب من نظرات واحد من الشبان المقابلين لنزوحها في الشقة المستأجرة التي تعيش فيها تقول إنها انتبهت لوجوده وهي تستريح على شرفة المنزل بعد إعيائها من عملية التنظيف، لتختلي بنفسها وهي تقارن بين منزلها القديم ومكان نزوحها.

تكرر الموقف لمرات عديدة وفي كل مرة كانت تهرب من النظر إلى وجه من شعرت أنه يراقبها، تقول إنها تفاجأت بعد أيام بخطبة والدة الشاب لها، تضحك وهي تخبرنا عن التناقض الذي عاشته خلال هذه الزيارة، فالفتاة التي أمضت خمسة وعشرين عاماً في قريتها لم يكتب لها النصيب بالزواج، إضافة لخمس سنوات أمضتها في تركيا دون أن تحب أو تتزوج، لتبتدئ حياتها في أخطر حملة تعيشها المنطقة، وفي رحلة نزوحها ومن شاب لا تعرفه من قبل، تقول إن ذلك كان حلماً لم يخطر في بالها يوماً.

يولد الحب سريعاً في النزوح تقول خزامى إنها لم تتخيل أن “يدق قلبها” في هذا المكان، إلّا أن زيارة واحدة من أحد أقربائها لوالدتها المريضة كانت كفيلة بذلك، لا تعرف إن كان ما يحدث هروباً أو تخفيفاً من العناء، إلّا أنها أقنعت نفسها بقبول عرضه، بحسب قولها، تصمت قليلاً قبل أن تكمل “هو يستحق الحب”.

فتحي (25عاماً) والذي نزح من قريته بفعل القصف منذ ما يزيد عن خمسة أشهر يقول إن حديثه مع “خطيبته التي يحبها” يحيي قلبه من جديد، يضحك وهو يخبرنا إنها “تحميه من الجلطة” في كل مرة تضيق به ظروف الحياة، وتهوّن عليه مصائبها.

يحاول السكان أن يعيشون حياتهم الطبيعية بأقصى جهدهم، مع كل ما عانوه من ألم ودمار وفقدان وموت، تقول أم عمران (50عاماً) إن الحياة يجب أن تستمر، بينما يرى أبو أحمد (55 عاماً) إن فكرة الحب والزواج باتت ضرورة ملحة للتخفيف من اليأس والإحباط الذي يعيشه الجيل الشاب، ما يدفعهم للمغامرة بحياتهم أحياناً، كذلك أدى لهجرة مئات الآلاف منهم، يصف أبو أحمد المنطقة بشبه الخالية من فئة الشباب مع تزايد عدد النساء فـ “معظمهم قتل في الحرب أو هاجر إلى بلاد أخرى”، ويرى في ارتباطهم جزء من الحلّ، خاصة مع المسؤولية التي تلقى على عاتقهم من الزوجة والأطفال.

“طالما هناك فرصة للحياة والحب علينا أن نستغلها” يقول الشاب زكريا (18 عاماً) والذي يصف نفسه بـ “الباحث عن الفرح”، يكمل أنه سينجب أطفالاً كثر من الفتاة التي يحبها والتي يأمل أن تغدو زوجته المستقبلية، ويرى صديقه سامي إنه من غير المنطقي أن تلغي الحرب وظروف النزوح “فطرة الحياة”، يقول إن انتظار المجهول في سوريا والذي ما يزال حاضراً منذ تسع سنوات أثقل كاهل الجميع، وكان لا بدّ من خلق مناخ مناسب للحياة بحلوها ومرها، ناهيك عن فكرة “الوجود” والتي ترتبط غالباً بديمومة النسل، يقول إن عدداً كبيراً من الناس قتلوا في سوريا خلال تلك السنوات، وعلينا أن نفكر بالمستقبل.

لم تعد الفتيات ولا عائلاتهن يحلمون بطقوس فرح وزواج معتادة، من حفلات ومهور غالية، تقول ميسم إنها وكغيرها من الفتيات تحلم بفستان أبيض ومظاهر احتفالية، إلّا أن الظروف تحول دون ذلك، في كل بيت مفقود أو شهيد أو نازح، وهو ما دفعها مع خطيبها الذي نزح ايضاً إلى التفكير بـ “جَمعة صغيرة” من الأهل، وإكمال الزفاف، حالهم كحال معظم السكان، إذ غابت عن المنطقة تلك المظاهر الاحتفالية والأعراس، وبدت الأمور أكثر يسراً وسلاسة.

بالقرب من واحد من المخيمات في الشمال السوري، كانت أصوات غناء وفرح تصدر من خيمة قريبة، تقول سناء إن هذا المشهد كان منذ سنتين، وأثار دهشتها عن فرح في مخيم، هي الآن مخطوبة بعد أن نزحت هي الأخرى، والمفارقة أن خطبتها تمت في خيمتها الجديدة، تبدي استغرابها وهي تخبرنا “أعرف الآن أن الفرح يعيش حتى لو كان في خيمة نازحة”.