فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

اللحم والبصل ووجه والديّ كل ما بقي في المدينة

ريتا خليل

لا يشتاق كبار السن في مدينتي لأبنائهم كما نشتاق نحن، ولا يعبّرون عن فرحهم وسعادتهم إلّا لماماً، إلّا أن رغبتهم بكسر روتين حياتهم اليومية زادت من حرارة استقبالهم لي، أنا الوافدة الجديدة من ضفة الحياة إلى ضفة الموت. استلم والدي زمام المبادرة بأسئلة كثيرة وجهها لي عن حياتي وعملي ودراستي وأحوال أخوتي والنازحين هناك، بدا وكأنه لا يريد إجابات محددة ولعلّه كان يهرب من الأسئلة التي يعرف أني سألقيها عليه، هو يعلم مطلقاً أن لا مفرّ من الإجابة ولكنه حاول تأجيلها بقدر ما استطاع قبل أن أطلق عليه سؤال “كيف تعيشون؟”
أطرق والدي برأسه أرضاً، دقائق من الصمت مرّت أردفها بتنهيدة طويلة رافقتها عبارة “الحمد لله إلى الآن عايشين”، عرفت من ملامح وجهه ويديه المرتبكتين بعد أن شابك إحداهما بالأخرى لضمان ثباتهما أن ما عناه بالعيش غير ذلك المعنى القديم الذي ألفناه معه سابقاً، فلجمت فضولي تجنباً لإثارة شجون العجائز.

كعادة الأمهات اختبأت والدتي خلف طعام الغداء المكون من (اللحم والبصل) الذي وضعته في صدر البيت لتثبت أن الديار ما زالت عامرة، ولتتهرب هي الأخرى من البكاء كردّ طبيعي عن صعوبة فراقها لأولادها الذين تركوا هذا الجحيم للنجاة بأطفالهم، قال والدي إن اللحم والدجاج أكثر طعام من تبقى في المدينة بعد أن حال القصف وارتفاع أسعار التنقل وغلاء الإيجارات من نقل أصحاب المواشي لمواشيهم، فراحوا يبيعونها لدكاكين الجزارة كيفما اتفق وبأسعار زهيدة.

حين قررت العودة إلى كفرنبل (مسقط رأسي) بعد شهرين من تركي للمدينة، كانت آلاف الهواجس تأخذ مكانها في روحي التي أتعبتها رؤية معاناة النازحين في المخيمات وتحت أشجار الزيتون، عملي في الصحافة أتاح لي إعادة ترتيب ذاكرة المكان وشخوصه طبقاً للصور القادمة من هناك، وقوائم الشهداء الذين وزعتهم على ما أعرف من بيوتها.

رسمت في الطريق خارطة المدينة التي أعرف شوارعها عن ظهر قلب، واخترت أن أتجه إلى بيتي من أقصر الطرق التي ما زالت جدران منازلها قائمة حتى اللحظة، وتعمّدت أن أبتعد عن الأسواق التي خلت من روّادها، تلك سمة قديمة لم أستطع حلّها يوماً فأنا أعاني فوبيا الصمت، أعتاش على الحياة والازدحام وتطربني أصوات الباعة وضحكات الأطفال ولعبهم أمام بيتنا، بيتنا الذي نزح معظم سكانه باستثناء والدي ووالدتي اللذين آثرا البقاء فيه رغم الموت المحيط بكل شبر في محيطهما، حالهم حال معظم كبار السن في قرانا، حجتهم بذلك “صعوبة الانسلاخ ومفارقة الديار التي ألفوها على مدار عقود من الزمن، وعشقهم لتفاصيل حياتهم فيها”، سبب آخر كنت أعيده على نفسي بعد الانتهاء من مكالمة الواتس آب اليومية التي كنت أطمئن بها عليهم دون أن أجرؤ على مصارحتهم به “مسقط الرأس، حين تصبح الحياة في النزوح ألماً لا يملك آباؤنا جلد الصبر عليه، يختارون موتهم في المكان الذي يضمن كرامتهم على الأقل”.

رائحة البارود كانت أول ما استقبلتني به مدينتي بعد غياب، استرقت النظر إلى مشاهد الدمار المتوزع على جنبات الطريق الرئيسي، وأدركت أن لا مهرب من الصمت الثقيل، فالمدينة شبه خالية من أي مظهر بشري سوى بعض المارة الراكضين على عجل لقضاء حوائجهم أو البحث عن ما يسدّ الرمق.

لا يشتاق كبار السن في مدينتي لأبنائهم كما نشتاق نحن، ولا يعبّرون عن فرحهم وسعادتهم إلّا لماماً، إلّا أن رغبتهم بكسر روتين حياتهم اليومية زادت من حرارة استقبالهم لي، أنا الوافدة الجديدة من ضفة الحياة إلى ضفة الموت. استلم والدي زمام المبادرة بأسئلة كثيرة وجهها لي عن حياتي وعملي ودراستي وأحوال أخوتي والنازحين هناك، بدا وكأنه لا يريد إجابات محددة ولعلّه كان يهرب من الأسئلة التي يعرف أني سألقيها عليه، هو يعلم مطلقاً أن لا مفرّ من الإجابة ولكنه حاول تأجيلها بقدر ما استطاع قبل أن أطلق عليه سؤال “كيف تعيشون؟”

أطرق والدي برأسه أرضاً، دقائق من الصمت مرّت أردفها بتنهيدة طويلة رافقتها عبارة “الحمد لله إلى الآن عايشين”، عرفت من ملامح وجهه ويديه المرتبكتين بعد أن شابك إحداهما بالأخرى لضمان ثباتهما أن ما عناه بالعيش غير ذلك المعنى القديم الذي ألفناه معه سابقاً، فلجمت فضولي تجنباً لإثارة شجون العجائز.

كعادة الأمهات اختبأت والدتي خلف طعام الغداء المكون من (اللحم والبصل) الذي وضعته في صدر البيت لتثبت أن الديار ما زالت عامرة، ولتتهرب هي الأخرى من البكاء كردّ طبيعي عن صعوبة فراقها لأولادها الذين تركوا هذا الجحيم للنجاة بأطفالهم، قال والدي إن اللحم والدجاج أكثر طعام من تبقى في المدينة بعد أن حال القصف وارتفاع أسعار التنقل وغلاء الإيجارات من نقل أصحاب المواشي لمواشيهم، فراحوا يبيعونها لدكاكين الجزارة كيفما اتفق وبأسعار زهيدة.

لا أنكر أني تلذذت بالطعام، كان شهياً عكّر مذاقه صوت مروحية أكملت دورتها في سماء المدينة لتلقي براميلها على قرية حاس الملاصقة لمدينتي، دون تفكير اتجهنا إلى حمام المنزل لنحشر ثلاثتنا فيه، المكان الذي ظنناه آمناً لتوسطه البيت، إضافة لوجود “صبتين من البيتون المسلح فوقه”، غريزة الحياة التي أوحت لنا باختيار أكثر الأماكن أمناً في المنزل، أمان غير حقيقي بالأصل، فكل ما عرفناه سابقاً يخبرنا أن القصف لا يبقي ولا يذر.

صوت الانفجار أوحى لنا بعودة الأمن إلى غرفة المعيشة التي عدنا إليها وكأن شيئاً لم يحدث، لنكمل متابعة خط سير المروحية عبر الجهاز اللاسلكي، كلمات محددة يطلقها رجال المراصد “إقلاع، تجهيز، انتباه، تنفيذ..”، غاب تركيزي وأنا أسقط هذه الكلمات على ما أعرفه من صور ومقاطع فيديو لبيوت مهدمة وأطفال تحت الأنقاض، قلت بصوت عالي “انتباه.. الإنسان هو الهدف القادم”.

على شرفة المنزل الجنوبية وبرفقة كأس شاي “العصرية” كما جرت عادة أهل بيتي كان الهواء ثقيلاً، شعرت بصعوبة في التنفس وأنا أراقب سكون أغصان شجرة الزنزلخت أما شرفتنا، كل شيء كان في مكانه، بيوت حارتنا، دالية العنب، الصخور التي تحيط بالأراضي الجبلية في الأفق والتي كنت أعدّها دائماً كي أقتل الوقت بانتظار من يشاركني حديثاً طويلاً، كل ذلك كان مغلفاً بالخوف والوحشة، من يدري لعلها حزينة على من فارقتهم كوالديّ.

زيارة جارنا “أبو حاتم” كسرت حاجز الصمت الذي فرض نفسه مع حلول المساء، سألني عن دراستي وعملي، وسرد لي ما يجول في خاطره، وكيف أرسل أفراد أسرته إلى الشمال خوفاً عليهم من الموت، بينما بقي هو وحيداً يرعى أبقاره ويحافظ عليها، واسترسل بقصص طويلة رغبت أن تستمر حتى الصباح إلى أن قاطعه صوت الزنانة “نوع من طائرات الاستطلاع”. أعادنا فجأة لحالة الصمت والسكون، فالاستطلاع بات يعني أن هناك موجة قصف قادمة تطال الأماكن التي تدور الزنانة بأجوائها. “الله يستر من هالليلة” قالها أبو حاتم ليتبعها بعبارة ساخرة كعادته “سهرتنا أنيسة يا أبو محمد”. ضحك الجميع لكن حتى ضحكهم كان لا يشابه الضحك المعروف.

حين غادر جارنا استسلم والديّ للنوم، بينما كنت أتقلب في فراشي، يسيطر علي سؤال واحد بإجابات متعددة أعيد تشكيلها وتحويرها وبناءها دون جدوى، إلى متى سيستمر هذا العقاب الجماعي، والهرب من جحيم القصف وتدمير كل شيء بوحشية؟

كلمات قرأتها في مقالة للكاتب الكبير حازم صاغية عن اللاجئين زادت من تأزمي وطردت كل أملٍ بالاستسلام للنوم “مأساة هؤلاء، على ما كتب بعض ألمع مثقّفي عصرنا، أنّهم حالة استثناء وسكّان مخيّمات. الحقوق الإنسانيّة، بوصفها تعني حصراً وتعريفاً مواطني الدول، لا تسري عليهم. ولأنّهم محرومون من حقوقهم القانونيّة والسياسيّة، وشرطُها المواطنيّة، فإنّهم يغدون «لا أشخاصاً». «قتلُهم» يصبح ممكناً من دون سفك دمهم بالضرورة. إرجاعهم إلى وجود أوّلي وعارٍ هو الممكن دوماً. همّهم ليس التحسّن الاقتصادي أو تعليم الأبناء أو غير ذلك مما يُعنى به مواطنو الدول. همّهم، في المقابل: هل يعيشون. قضيّتهم ليست حقوقهم، بل حقّهم في أن تكون لهم حقوق! إنّ ما يصدر عن هؤلاء ليس «لغة»، بل أصوات مبعثرة تعلن أنّهم… يتألّمون”.

ينطبق الأمر علينا أيضاً لا على اللاجئين فقط، نحن الذي بقينا في ديارنا دون التفكير بمغادرتها كل ما نريده حرفياً أن نعيش، كل ما نحلم به أن نرتمي في أحضان عائلاتنا صيف كل عام، نقطف التين من على الشجرة ونستظل بفيء دالية العنب، نتجهز لمؤونة الشتاء (مكدوس وأجبان ومربيات)، أن نستقبل الغائبين الذين ابتلعتهم المدن الكبيرة ونفرح بأعراسهم، أن نعاود سهرات الضحك والمرح، الشبان على دراجاتهم النارية يزعجون المساء يحاولون لفت انتباه حبيباتهم والفتيات العائدات من سهرات مليئة بالألغاز والحكايا، والأطفال المتسخون بالتراب يركضون في “حاكورة البيت” ويلاحقون كرتهم وسط قبلات أمهاتهم وكيد الحموات ودعائهم.

حين أشرقت الشمس كنت قد وضبت حقيبتي للمغادرة من جديد، اختزنت ما استطعت من صور للمكان ولوجه والديّ، طلبت منهم الالتحاق بنا للخروج من هذا الجحيم، لوحت لهم وأنا أستقل السيارة التي رافقاني للوصل إليها، كان صوت والدتي يصدح من بعيد “الفرج قريب بإذن الله”، وأنا أحاول تذكر كل تفاصيل المكان الذي لا أدري إن كنت سأعود إليه مرة أخرى، أم أن طائرة ستنهي ما تبقى لنا من جذور في المدينة.