تخلت زكية عن عملها بـ “السخرة” داخل المهجع قبل يومين، والذي كانت تتقاضى عليه مبلغاً لا يزيد عن ألف وخمسمائة ليرة، فهي من “المحرومات من الزيارة” لوجود اسمها ضمن لوائح المحاكمة الميدانية العسكرية.
باتت كثيرة الكلام والضحك، قلما أفرجت زكية سابقاً عن ابتسامة، رأيناها تدندن ببعض الأغنيات وتتمايل معها بما يشبه الرقص. في الصباح سرّحت شعرها، ارتدت ثوباً أنيقاً على غير عادتها، خاصة وأن عملها السابق في السخرة كان يزيد من عزلتها ولا مبالاتها.
جميع نزيلات المهجع، وأنا أولهن، شعرنا بالدهشة لما يحدث، لم يكن الأمر مفهوماً. هناك تغير طرأ على حياتها في الأيام الثلاثة الأخيرة لوجودها بيننا، كثيراً ما كانت المعتقلات يتبدلن بحسب الظروف والحنين والذاكرة والألم، إلّا أن زكية وطيلة فترة اعتقالنا كانت تتمتع برتابة لا تحيد عنها، كلمات ضنينة تتبادلها مع الجميع، هدوء (كنا نظن أنها تبالغ في افتعاله)، عمل دؤوب تؤديه دون امتعاض، رغبة بالعزلة لم تفلح جميع محاولاتنا بكسرها، والأهم من ذلك ارتباط بأطفالها الذين كانوا محور يومها وجملها القليلة.