فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

72 ساعة أخيرة من حياة زكية المعتقلة في سجون الأسد

تخلت زكية عن عملها بـ “السخرة” داخل المهجع قبل يومين، والذي كانت تتقاضى عليه مبلغاً لا يزيد عن ألف وخمسمائة ليرة، فهي من “المحرومات من الزيارة” لوجود اسمها ضمن لوائح المحاكمة الميدانية العسكرية.

باتت كثيرة الكلام والضحك، قلما أفرجت زكية سابقاً عن ابتسامة، رأيناها تدندن ببعض الأغنيات وتتمايل معها بما يشبه الرقص. في الصباح سرّحت شعرها، ارتدت ثوباً أنيقاً على غير عادتها، خاصة وأن عملها السابق في السخرة كان يزيد من عزلتها ولا مبالاتها.

جميع نزيلات المهجع، وأنا أولهن، شعرنا بالدهشة لما يحدث، لم يكن الأمر مفهوماً. هناك تغير طرأ على حياتها في الأيام الثلاثة الأخيرة لوجودها بيننا، كثيراً ما كانت المعتقلات يتبدلن بحسب الظروف والحنين والذاكرة والألم، إلّا أن زكية وطيلة فترة اعتقالنا كانت تتمتع برتابة لا تحيد عنها، كلمات ضنينة تتبادلها مع الجميع، هدوء (كنا نظن أنها تبالغ في افتعاله)، عمل دؤوب تؤديه دون امتعاض، رغبة بالعزلة لم تفلح جميع محاولاتنا بكسرها، والأهم من ذلك ارتباط بأطفالها الذين كانوا محور يومها وجملها القليلة.

 

المهجع السادس: سجن عدرا، أيار 2015

“ساعة الشمس” التي كانت تزورنا كل يوم من فتحة التهوية الممتدة على طول المهجع من الجهة الشرقية، كانت تنبهنا بدخول وقت الظهيرة، في ذلك المكان المعتم ذي الجدران المرتفعة.

دائماً ما كنا “ننحشر” في المهجع الذي لا يتجاوز طوله أربع عشرة خطوة من خطواتي الصغيرة، وثماني خطوات عرضاً، لا يقل عددنا عن أربعين معتقلة ولا يزيد عن ذلك، جدرانه قاتمة رمادية يفصلها عن الممر باب حديدي سميك بفتحتين “علوية وسفلية”، الهواء القادم منها يعدّل رائحة العفونة والرطوبة، ويزيد من برودة أجسادنا الضعيفة.

ملصقة بالجدران كانت هناك عشرة أسرة عسكرية حديدية، وضعت بشكل طابقي، تحظى بها المعتقلات الأقدم في المهجع، أما من تبقى منا فكنّ يفترشن “اليطق” وهو (غطاء صوفي رقيق يحجب لون الأرضيات ولا يقي عظامنا من برودة الطقس).

في هذا المكان أمضيت أنا وزكية جزء من فترة اعتقالي، كنا نفترش “يطقينا” متجاورتين، لنبدأ حديثاً طويلاً في كل ليلة، لا نعرف متى ينتهي، هي تكتفي بالصمت وأنا أكمل الثرثرة.

اليوم الأخير منتصف أيار

تخلت زكية عن عملها بـ “السخرة” داخل المهجع قبل يومين، والذي كانت تتقاضى عليه مبلغاً لا يزيد عن ألف وخمسمائة ليرة، فهي من “المحرومات من الزيارة” لوجود اسمها ضمن لوائح المحاكمة الميدانية العسكرية.

باتت كثيرة الكلام والضحك، قلما أفرجت زكية سابقاً عن ابتسامة، رأيناها تدندن ببعض الأغنيات وتتمايل معها بما يشبه الرقص. في الصباح سرّحت شعرها، ارتدت ثوباً أنيقاً على غير عادتها، خاصة وأن عملها السابق في السخرة كان يزيد من عزلتها ولا مبالاتها.

جميع نزيلات المهجع، وأنا أولهن، شعرنا بالدهشة لما يحدث، لم يكن الأمر مفهوماً. هناك تغير طرأ على حياتها في الأيام الثلاثة الأخيرة لوجودها بيننا، كثيراً ما كانت المعتقلات يتبدلن بحسب الظروف والحنين والذاكرة والألم، إلّا أن زكية وطيلة فترة اعتقالنا كانت تتمتع برتابة لا تحيد عنها، كلمات ضنينة تتبادلها مع الجميع، هدوء (كنا نظن أنها تبالغ في افتعاله)، عمل دؤوب تؤديه دون امتعاض، رغبة بالعزلة لم تفلح جميع محاولاتنا بكسرها، والأهم من ذلك ارتباط بأطفالها الذين كانوا محور يومها وجملها القليلة.

إحدانا خاطبتها وهي تدندن بالأغنيات “والله يا زكية اليوم لانتبهت أنك موجودة بيننا”، أخرى سألت “وين كنتي مخبية كل هالمواهب”، صوت نزيلة من بعيد “يمكن قلبا دليلا وقرب الفرج علينا وعليها”، بصوت خافت رددت المعتقلات “آمين”.

لم أسأل زكية تفسير ما يحدث، كنت سعيدة بالتغيرات التي طرأت عليها، وانتظرت حتى تبدأ هي بالكلام. في الليل اقتربت مني، حدثتني عن أطفالها وأملها بلقائهم القريب، عن شوقها لاحتضانهم ورؤية وجوههم، أمسكت يدي طوال حديثها، آثار الجنزير كانت قد تركت على معصمها ما يشبه القلادة، نامت وما زالت ممسكة بيدي وشعرت أن دفء قلبها بدأ يسري في داخلي فغلبني النوم.

قبل ذلك

في كل يوم، وبعد أن تنهي زكية شطف أرضية السجن وممراته ونقل الفضلات خارج البناء خلال عملها بـ “السخرة”، تحمل في كيس لها ما اشترته لأطفالها، وتدعونا جميعاً (تعالوا شوفوا شو اشتريت لولادي ليشوفوهن بس اطلع من هون، حمودي يا عين امو بيحب اللون الأخضر كتير). كنا نفرح لفرحها ونعاتبها على صرف أجرها الضئيل في شراء ألعاب من الخرز وبعض المنتجات التي تقوم السجينات بصنعها، في الوقت الذي تبتعد فيه عن إسعاد نفسها بطعام أو شراب، كغيرها من النزيلات.

لا تخاطبك زكية إلّا أن توجهت بسؤالها، نادراً ما كانت تستفيض بجواب عن سؤال معين، وقليلاً ما كنت تلاحظ وجودها، هي لا تترك أثراً ولا تصدر أي صوت من شأنه أن يلفت النظر إليها، دائمة الشرود بوجه يميل إلى الصفرة، وملامح جاذبة اختفت خلف قصص وحكايات دفينة لم تبح بها، معظم نزيلات المهجع كنّ يتبادلن قصصهن فيما بينهن، بتنا نعرف عن كل واحدة كل شيء، أسماء العائلة والأولاد، أسباب الاعتقال، طريقة التفكير، الطرف المضحكة، قصص المراهقة والشباب، الأحلام والكوابيس الليلية، الأطعمة المحببة وطرائق تصنيعها، اللكنات واللهجات والتندر بها، أما زكية فقد كانت وحدها صندوقاً أسود من الصمت.

زكية أو أم محمد امرأة في العقد الثالث من عمرها، من أبناء ريف دمشق، سجينة ومعتقلة ضمن المئات من نزيلات سجن عدرا المركزي، اعتقلت منذ عام 2013، لم يكن جرمها، بحسب ما روت قصتها، سوى أنها كانت في منزلها أثناء مداهمة عناصر الأمن والشبيحة للحي الذي تقطن فيه برفقة أسرتها وزوجها الذي كان أوفر حظاً منها لغيابه عن المنزل وقتها، وكحال جميع المعتقلات، مرّت بذات فصول التحقيق وما يتخللها من عذابات وتعنيف لتكون المرحلة الأخيرة هي المهجع السادس من سجن عدرا.

في الصباح

طلب السجان من زكية، بصوته الأجش، أن تجمع حاجياتها وتهيأ نفسها، لم يكشف عن الوجهة التي سيتم نقلها إليها، رغم سؤالنا له، أطبق الصمت على نزيلات المهجع. تسارعت أنفاس زكية واختنق وجهها، صار أقرب إلى اللون الأسود، وظهرت ملامح من الرعب على جسدها الذي بدأ يرتجف وهي تودعنا بنظراتها.

لمعرفتنا بقصص مشابهة عن المحكومات ميدانياً، سرى بيننا، بعد خروج زكية من المهجع، خوف وهلع من مصير قادم، جميعنا كان يعرف أن زكية سيحكم عليها بالموت، في المساء طلب السجان إلينا إتلاف ما تبقى من أغراضها.

وحدها زكية كانت تستشعر اقتراب أجلها، ربما بات تغير سلوكها الأخير مفهوماً الآن، لعلها أرادت أن تموت سعيدة ودافئة، ولا يزال كيس ألعاب الخرز الذي اشترته لأطفالها مركوناً في زاوية المهجع السادس من الجناح الخامس في سجن عدرا، حتى لحظة خروجي من المعتقل في عام 2016.