لطالما أثارت فضولي تلك الصرّة القماشيّة القديمة التي تحتوي على عدة أحجار كانت تحتفظ بها جدتي في خزنتها الصغيرة ذات المفتاح المربوط بخيط يلازم رقبتها، لم أتخيل يوماً أن حرصها على تفقدهن بشكلٍ دائم ليس مادياً، فالكثير من كبيرات السنّ اللواتي أعرفهن كُنّ يحتفظن بصرّة مشابهة، تنتظرن اكتمال المبلغ الذي تدخرنه منذ فترة لصياغة خاتم أو طوق ذهبيّ تزينه إحدى تلك الأحجار التي علِمت لاحقاً أنها كريمة.
اهتمام بعض من أعرفهنّ من النساء باقتناء أحجار كريمة أشهرها العقيق اليماني والفيروزي والجزع لا يقلّ شأناً عن اهتمام جدتي التي لم يسعفها الوضع المادي بالتزيّن بتلك الأحجار، و باعتقادي مهما تعددت أسباب اقتناء الأحجار الكريمة فأهم الأهداف “الزينة والجمال” لأنها فطرة جُبلت عليها النساء، وللرجال نصيب منها، فمعظم زبائن محلات الفضة في سوق الصاغة بإدلب هم من الرجال بحسب من سألناهم من الصاغة هناك.
على واجهات تلك المحال عُرضت قطع مختلفة من المصوغات المرصعة بأحجار لامعة ومتعددة الألوان، معظمها أحجار صناعية غرضها جماليّ فحسب، ولها زبائنها، إلا أن للأحجار الكريمة زبائنها أيضاً، معظمهم رجال لا يغريهم لمعان وصفاء ألوان الأحجار الصناعية.
ولأن هؤلاء الزبائن مميزون فإن طلبهم يكون محفوظاً في إحدى الزوايا، ولا يخرج إلا حين الطلب، أما أنا فكلما نظرت إلى واجهات المحال ورأيت قطع الزينة المحلاة بالأحجار، عادت إلى ذاكرتي أحجار جدتي المخبأة والتي أجهل مصيرها، وأغلب الظن أن الركام ابتلعها مع أثاث البيت بعد تعرضه للقصف والدمار.
ظلّت صرّة جدتي القماشية ذات قيمة عالية عندها إلى أن جاءت الثورة السورية، وتعالت فيما بعد أصوات تنادي بالالتزام الديني والكف عن اتباع البدع ومنها لبس التمائم، حينها لم يعد أحد يجرؤ على الإفصاح عن سبب لبس قطعة زينة تدخلها أحجار، حتى جدتي صارت تواري الصرة عن الأنظار إلى أن اختفى ذكرها مع الأيام.
استمرّ هذا الفضول بتحريض ذاكرتي على سؤال بعض من أقابلهنّ من النساء اللواتي يلبسن قطعة زينة محلاة بحجر، عن نوعه وسبب لبسه، زاد من يقيني أنّ الأمر ليس مادياً حديث سمعته عند وفاة أحد المقربين عام 2013 حين دار جدل بين النسوة (كبيرات السن) عن ضرورة إيجاد حجر عقيق ليُدسّ معه في القبر.
لم تجهل مَن طرحت الفكرة حينها حساسية هذا الطلب، فراحت عيناها تتفحصان مَن حولها بعد أن عضت بعض قريناتها على شفاههنّ تنبيهاً لها، إلى أن أجابتني إحدى من قابلتهن “أم خالد” 57 عاماً عن السبب، وهو أنّ المعتقد السائد سابقاً أن حجر العقيق في القبر يدفع البلاء عن المتوفى، تحكي ذلك بصوت منخفض وتقول هامسةً “كنّا جاهلات”.
ليست الصرّة الطريقة الوحيدة للاحتفاظ بالأحجار الكريمة، بل تذكر “جميلة” (25عاماً) أنّ زوجة عم والدتها كانت تحتفظ بطوقِ من الأحجار وظلت توصي به لتوريثه لأم جميلة بعد وفاتها، كونها أكثر من اهتمّ بها قبل وفاتها منذ نحو 10 سنوات، وظلت أم جميلة محتفظة به كذكرى لا غير، إلى أن تحول للعبة لأطفالها، ثم تناثرت حبّاته وضاعت.
تقول أم جميلة إنّها أخبرتها حين أوصت بتوريثها الطوق أنّ أحجار العقيق اليمنيّ المكونة له تجلب الرزق والبركة وتطرد الحسد والعين، لكن أم جميلة التي كانت ترتاح نفسيّاً عند النظر إليه أو حمله لم يكن لإيمانها بهذا المعتقد، إنما لأن الحجاج دائماً يحضرون معهم العقيق من الحج في السعودية وباعتقادها أنه ربما يكون مباركاً لهذا السبب.
تظن أم جميلة أن هذه المعتقدات اندثرت، يؤكد صاحب محلٍ لبيع مصوغات فضّة في إدلب أنّها مازالت موجودة، فمعظم من يطلبون منه صياغة خاتمٍ مُطعّم بحجر كريم يلبسونه لغاية لا يصرّحون بها، كونهم يؤمنون أنّ الفضة لما لبست له، “فكيف إذا اجتمعت مع حجر كريم له تأثير على النفس والجسد؟”، يقول صاحب المحل.
في إحدى جولاتي على الأسواق الشعبية بريف حلب الغربي، قابلت العم أبو محمد، وقد افترش الأرض بأدواته القديمة، فتحلق حوله عدد من الشبان والرجال فور توزيعه لبعض القطع منها الساعات والخواتم وقطع الأنتيكا وبعض الأحجار التي شغلت إحدى الزوايا على القطعة القماشية البيضاء. يظنّ بعض الزبائن المتحلقين أنه يستطيع إيجاد قطعة أثرية أو نوع من المجوهرات بسعر زهيد، فتكون القطعة التي سيحصل عليها صيدة العمر، بحسب أحمد العلي (29عاماً)، أحد الشبان المجتمعين حول البسطة.
لم أكن أعلم أن سؤالي عن بعض القطع إن كانت أحجارها كريمة أم صناعية، سيكون سبباً في استبدال نظرته الحادة التي تتفحص الزبائن بابتسامة لطيفة توارت خلف تجاعيد وجهه الأسمر. مدّ أبو محمد يده اليسرى إلى جيبه وأخرج خيطاً طويلاً فيه عدد كبير من الأحجار، ثم قال لي بعد أن طلب مني بصوته الأجش الاقتراب: “عادة لا أخرج هذه القلادة إلا لمن أشعر أنهم جادّون و يقدرون قيمة هذه الأحجار” وبدأ يعدد أنواعها.
في القلادة قسم صغير مخصص للمجوهرات قال ان منها “الياقوت والزمرد والزفير الأزرق وتخلو هذه القلادة من الألماس فهو نادر وغالي الثمن” بحسب أبو محمد. نسيَ أبو محمد زبائنه واستغرق في الشرح، كان يفصل الأنواع بشغف وكأن في جعبته الكثير من الكلام، وراح يعدد أنواع بعض الأحجار وفوائدها، إحداها كان حجراً أبيض اللون مخططاً بخطوط زرقاء، قال إنه حجر الحليب، و”هو مفيد للمرأة المرضع لأنه يدرّ الحليب”.
معظم الأحجار الأخرى هي للعقيق بأنواعه وألوانه القاتمة والمخططة بخطوط ملونة، منها البيضاء أو الرمادية أو السوداء والبعض خطوطها حمراء باهتة أو صفراء أو زرقاء.
تناول إحدى الأحجار وراح يشرح تفاصيل خطوطها المتوازية على السطح المستوي للحجر، وكان هذا الحجر هو العقيق اليماني المشهور، أما الخطوط المتشكلة على شكل دوائر تنتشر من المركز إلى الخارج فهي للعقيق العيني، يقول إن أجود أنواع العقيق ما اشتدت حمرته وأفضله يعرف بالجزع اليماني.
لا يقصد العم أبو محمد وأقرانه ممن التقيناهم من أصحاب البسطات المشابهة الزبائن الراغبين بالشراء فقط، إنما يزورهم أشخاص يرغبون بالبيع أو الاستفسار عن أحجار حصلوا عليها خلال بحثهم عن الآثار، “بعض هؤلاء المنقِّبين لا يعلمون قيمة ما يجدون، ومعظم الأحجار النفيسة يعثرون عليها إذا حالفهم الحظ بفتح قبرٍ أثريٍ”، يوضح أبو محمد.
يستطيع ابراهيم أبو حمزة القلعة، من قلعة المضيق بريف حماة الغربي تمييز الأحجار اعتماداً على الخبرة والتداول الدائم للأحجار الكريمة بيعاً وشراءً، الأمر الثاني صفاء ونقاء الأحجار وتميزها بالألوان عن بعضها البعض وخاصة الحجر الداكن العادي وبعض أحجار الصوان القاسية وشبيهاتها.
أما أنواع الأحجار الكريمة التي تُعرض عليه كونه خبير فيها فيعددها على أنها “حجر الماس وهو مستورد أو محلي شائب، والياقوت المحلي والزمرد المحلي، والزفير المحلي لكنه نادر، والحجر السليماني، وبريج محلي، وكونسيدون أحجار نيزك، وأحجار فيروز محلي، وأحجار بنفسج محلي، وحجر الكريستال المحلي”.
ويقول عن حجر العقيق إنه متوفر بكثرة بكل ألوانه، وهو كثير الاستعمال للزينة والمسبحة بين الرجال وأحجار لخواتم الفضة والأطواق، وخاصة اللون الأحمر أو مايسمى بالعامية (بدم الرعاف) فهذا “غالباً استعمله شيعة أهل الشام منذ سبعة قرون حتى العصر الحالي لأسباب تتعلق بمعتقدهم”، ويؤكد أن هناك أنواع متداخلة بين مسميات الأحجار الكريمة.
وبحسب أبو حمزة فإن المعتقدات التي كانت سائدة بين الناس، خاصة في القرنين التاسع عشر و القرن العشرين، هي أن بعض الأحجار تدفع البلاء وتصرف عين الحسودين، “فتلبس الفضة على نيتها وشأنها، وبالمقابل تلبس الأحجار على نوايا أخرى مثل صرف الجن وطرد الحسد ونية الشفاء من الأسقام والأمراض والعلل، وبعضها لأسباب صحية، فالياقوت مثلاً ينظم دقات القلب”.
يرفض أبو حمزة تحديد سعر للأحجار المتوفرة في الشمال السوري لأن ذلك يتبع لحجم الحجر ونوعه ودرجة صفائه من الشوائب وندرته، لكنه رتب لنا أنواعها من الأكثر إلى الأقل سعراً، “الألماس، الزفير، الزمرد، الياقوت، البنفسج، الكريستال، الفيروز، السليماني، حجر النيزك، العقيق وأخيراً البريج (بالمصطلح المحلي)”.
لا يثق خبير الأحجار الكريمة الحافظ أبو أمين بما يعرض في السوق حالياً معتبراً أنها ليست أحجاراً كريمة أصلية، فمثلاً الياقوت المنتشر في الخواتم هو ياقوت صناعيّ معالج ليزرياً وغالبه من منشأ أسترالي أو فرنسي وهذا ما يفسر رخص أسعاره، فثمن الخاتم مع خرزته 30 دولاراً في حين يعتبر الياقوت الأحمر الأصلي أغلى أنواع الأحجار الكريمة وقد يصل ثمن القيراط الواحد لمليون دولار أو أكثر، “وبالنسبة للزمرد أيضاً الأصناف المنتشرة والمستعملة في سوقنا هي زمرد صناعي ليس له قيمة أبداً”.
مؤخراً، وبعد هذه الجولة مع باعة وهواة جمع الأحجار الكريمة، بدأت أشعر أن تلك الأحجار ليست مجرد أحجار، وأنّ تلك المحال التجارية المتخصصة ببيعها هي عالمٌ خاصٌ له تقاليده وأسراره، فعند تعمقي بطرح أسئلة على بعض الصياغ في مدينتي إدلب وسرمدا كان أصحابها يوجهوني إلى أشخاص محددين متخصصين بالأنتيكا وأحياناً بنوع محدد من الأحجار الكريمة، وغالباً ما يكون صاحبها كبيراً في السن. من يدري قد تكون بين أصحاب المحال وهذه الحجارة صلة أبعد من التجارة فقط، فإن لم تجلب لهم المال، قد تجلب لهم شعوراً بالراحة النفسية.