فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

ثلاث خياطات منزليات في إدلب: “عشرة عمر” مع الإبرة والخيط

مرام حمزة

نساء يبدعن في مهنة الخياطة ويتحدين سوق الألبسة الجاهزة

بظهور منحنية وراء آلات الخياطة، وعيون مرهقة، وأفكار تضج بالإبداع والتحدي، تروي لنا نساء خياطات من مدينة إدلب، كيف استمرين في هذه المهنة أمام زحمة الألبسة الجاهزة في الأسواق، واستطعن أن يحجزن من منازلهن مكاناً مميزاً لهن في عالم الخياطة.

لم يكن تفصيل فستان لدى إحدى الخياطات في مدينة إدلب خياراً مطروحاً للشابة جود 23 عاماً، ولكنها لم تجد في سوق الألبسة الجاهزة فستاناً يعجبها ترتديه في العيد. أما الموديلات التي كانت تعجبها فقد كانت باهظة الثمن، فسعر أقل فستان يعادل ألف ليرة تركية (قرابة 50 دولاراً)، وهو تقريباً يعادل ثلث راتب زوجها المدرس، بحسب وصفها. لذا لجأت إلى الخِياطة بعد نصيحة من إحدى صديقاتها التي ترتدي معظم ملابسها من تصاميم تختارها بنفسها وتفصلها عند الخياطة.

في أول زيارة إلى الخياطة حنان جريّد، تفاجأت جود بكمية طلبات الزبائن المعلقة على لوح خصصته حنان لتسجيل طلبات زبائنها، ما يوحي أن هناك الكثير من النساء يفضلن ملابس الخياطة على الألبسة الجاهزة. تُعتبر جود محظوظة لأن حنان قبلت باستقبال طلبيتها، إذ توقفت الخَياطة عن استقبال طلبيات جديدة منذ العاشر من رمضان، بسبب كثرتها وحرصها على تسليم القطع للزبائن بالوقت المحدد. ويبدو ذلك واضحاً من كثرة فناجين القهوة التي لفتت انتباه جود في الورشة، والتي كانت قد احتستها الزبونات أثناء جلسات المقاسات في ذاك اليوم.

أخذت حنان مقاسات الشابة، بعد أن أطلعتها على صورة تصميم معين عن طريق النت، لتفصّل لها مثله تماماً. كما نصحتها بنوع القماش الذي يناسب هذا التصميم ويسمى (برادا)، وطلبت منها شراء مترين ونصف منه، وحددت لها موعداً بعد ستة أيام لاستلام فستانها، كونها قد استلمت طلبات كثيرة هذا الموسم، تعمل على تجهيزها، كما روت لنا جود.

في غرفة صغيرة من منزلها تغص بأكوام القماش والكلف الملونة والأزرار والخيطان والسحابات، وضعت حنان، 40 عاماً، ثلاث ماكينات للخياطة، منها القديمة والحديثة، ولكل واحدة مهمة معينة في إنجاز مراحل العمل.

تفضل شريحة كبيرة من السيدات الذهاب للخياطات في مدينة إدلب لتفصيل ملابسهن رغم كثرة الملابس الجاهزة المحلية والمستوردة في الأسواق، حسب رأي عدة نساء في المدينة تحدثنا إليهن. فعلى سبيل المثال تقصد النساء والفتيات حنان، التي تعد إحدى أشهر الخياطات في مدينة إدلب، بسبب تفرد موديلاتها عن باقي قطع الملابس في الأسواق، فضلاً عن جودة الأقمشة ومتانة الصنع ومهارة التصميم.

الصورة من ورشة الخياطة حنان جريد- فوكس حلب
الصورة من ورشة الخياطة حنان جريّد- فوكس حلب

لمهنة الخياطة جوانب مظلمة

يعود إتقان حنان لمهنتها إلى سنوات الخبرة الطويلة في هذا المجال، إضافة إلى شغفها وحبها للخياطة والتفصيل، “فمنذ نعومة أظافري كنت أحيك ملابس لألعابي، وفساتين صغيرة للدمى بقصاصات الأقمشة الزائدة من الزبائن”، تقول حنان ذلك، والفرحة تلمع في عينها، كأنها عادت طفلة تصنع الفساتين الملونة لألعابها.

غير أن لمهنة الخياطة تكلفة باهظة، ففي مواسم الأعياد، وتحت ضغط العمل، تنعزل حنان عن عائلتها، وتصبح، كما عبرت لنا، “ضيفة” لا تخرج من غرفة الخياطة إلا في أوقات قليلة، لكي تلتزم بإنهاء القطع لزبوناتها في الوقت المحدد، تقول: “إن احترام العمل والاهتمام بموعد التسليم وإتقان الصنع هو رأس مال الخَياطة. وأما علاقتي بالمهنة فهي غير عادية، فأنا أهتم بكل التفاصيل الصغيرة، ولو على حساب صحتي ووقتي وأسرتي”.

ليس هذا فحسب، بل إن هذه المهنة تنهك صحة صاحبها، فبعد أكثر من خمس وعشرين سنة وراء ماكينات الخياطة، أصيبت حنان، كأغلب الخياطات بعدة أمراض نتيجة الجلوس لساعات طويلة وراء آلات الخياطة، وهي مقوسة الظهر، ما تسبب لها بمرض الانزلاق الغضروفي (الديسك) في عمودها الفقري، ومناقير في رقبتها، وضعف في بصرها بسبب السهر والإرهاق والعمل لساعات متأخرة من الليل.

كل ذلك لم يثنِ حنان عن الاستمرار في المهنة، فالعلاقة بينها وبين الأقمشة والخيوط والماكينات، عميقة ومتينة لخصتها بجملة “عشرة عمر”، كما تجمعها مع الزبونات علاقة صداقة ومحبة وثقة، فخلال السنوات الماضية حاكت للأمهات والأطفال والعرائس وطالبات التخرج، والمدارس وغيرهن، كما تذكر. تقول لنا: “لما بشوف الصبية لابسة من خياطتي وشايفة حالها قدام رفاقتها، بنسى تعبي، وبحس حقي وصلني، وفرحتي بتكبر لما يقولولا هي القطعة فيها نفس حنان ولمستها”.

الخياطة فداء جمالي، 38 عاماً، من سكان مدينة إدلب، أصبحت اليوم واحدة من معلمات الخياطة، اللواتي يستقبلن في منازلهن فتيات يافعات لتعليمهن مبادئ الخياطة. لكن طيلة أيام رمضان يزدحم صالون منزلها بزبونات من مختلف الأعمار يرغبن بالحصول على قطعة مميزة مصنوعة خصيصاً لهن، وبسعر منافس لأسعار الملابس الموجودة في الأسواق يصل إلى النصف.

لم يكن نجاح فداء في مهنتها مفروشاً بالورد. تتنهد وهي تخبرنا عن الصعوبات التي واجهتها في عملها سواء من الناحية المادية من حيث تأمين آلات الخياطة الحديثة، ومنها ماكينة الدرزة الصناعية نوعية (جاك) والتي اشترتها بـ 300 دولار، ناهيك عن باقي الآلات وعدة الخياطة. أما عن الصعوبات الأخرى، تقول إن المهنة بقدر ماهي ممتعة فإنها متعبة، وتسبب على المدى الطويل لصاحبتها أمراضاً في العمود الفقري والبصر والرقبة، “وها أنا اليوم أعاني من أوجاعها، بسبب العمل المتواصل لساعات طويلة يومياً”.

الصورة من ورشة الخياطة حنان جريد- فوكس حلب
الصورة من ورشة الخياطة فداء جمالي- فوكس حلب

ما السر وراء ازدهار الخياطة المنزلية؟

تفتقر مدينة إدلب إلى ورشات الخياطة الكبيرة أو المعامل الخاصة بتصنيع الملابس، التي تغطي حاجة السوق على مستوى المنطقة، باستثناء عدد قليل من الورش الصغيرة، يعمل بها عدد قليل من الأيادي العاملة، فيما تعتمد المحلات التجارية في الأسواق على الألبسة المستوردة من تركيا أو من مناطق النظام.

وقد سنحت هذه القلة في عدد ورش الخياطة، بازدهار الخياطة المنزلية في مدينة إدلب، إذ خصص الرجال محلات خاصة بهم في الأسواق، بينما اكتفت النساء بتخصيص غرفة داخل المنزل لممارسة مهنة الخياطة كحال الخياطة هنادي عاقل، أم حسن، 51 عاماً، والتي تختلف عن الخياطتين فداء وحنان، بأنها تعلمت المهنة عن طريق الدراسة، فهي خريجة معهد فنون من عام 1993، وتمارس الخياطة منذ أكثر من 25 عاماً، كما أخبرتنا.

تقول إن السنوات الأخيرة، ووجود مزيج سكاني كثيف من جميع المحافظات في مدينة إدلب، ساهم في عودة النساء إلى الخياطة والتفصيل، خاصة وأن غلاء الأسعار في السوق، ورداءة بعض أنواع الأقمشة الموجودة، جعلت الكثير من النساء يفضلن شراء الأقمشة بأنفسهن واختيار التصميم المناسب لهن، بعيداً عن التصاميم المتسلسلة الموجودة في السوق بكثرة.

فضلاً عن تميز ملابس السهرة والحفلات والأعراس التي يتم خياطتها وتفصيلها يدوياً، وتمتاز بجودة أقمشتها، وتميز موديلاتها وزينتها، إذ تُصنع بأدق التفاصيل وتأخذ وقتاً وجهداً أكثر من باقي الملابس الأخرى. وكلما كانت القطعة مميزة، كانت بمثابة إعلان مجاني ومتنقل لعمل الخياطة، وبالتالي يجذب مزيداً من الزبونات.

كما ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من الخياطات في التسويق لأعمالهن ونشر صور تصاميمهن ضمن مجموعات نسائية في ذات المنطقة، ما ساهم في توسيع دائرة عملهن على مستوى أوسع، ولاسيما في مواسم معينة.

الصورة من ورشة الخياطة حنان جريد- فوكس حلب
الصورة من ورشة الخياطة فداء جمالي- فوكس حلب

نهاية سعيدة بعد الترقب

تتفق الخياطات الثلاث على أن فرحة الزبونة وقت استلامها الملابس الخاصة بها، تنسيهن تعبهن وساعات العمل الطويلة. وبالرغم من أن الخياطة حنان واثقة من قدراتها، إلا أنه ينتابها اليوم حالة من الترقب، فبعد أن مرّ أسبوع من زيارة جود، وأصبح فستانها جاهزاً ومعلقاً على (المانيكان)، ستأتي لترى الفستان لأول مرة.

وصلت جود في الموعد المحدد إلى الورشة. ارتدت الفستان وهي تتأمل تفاصيله عليها أمام المرآة. وبغض النظر عن التكلفة التي لم تتجاوز نصف تكلفة الفستان الجاهز، إذ دفعت جود أجرة التفصيل وثمن القماش 450 ليرة تركية أي ما يعادل 23 دولاراً تقريباً، تقول جود وعيون حنان تلمع فرحة: “كنت خائفة من النتيجة، لم أتوقع أن يكون بهذا الجمال والإتقان، إنه كالصورة تماماً، بل أجمل”، وأنها لم تندم على سماع نصيحة صديقتها، بل العكس.