بُنيت بلدة باريشا والتي تقع شمالي غربي إدلب، على أنقاض موقع أثري قديم، تعاقبت عليه حضارات متعددة، بدء من الرومانية وانتهاءً بالحضارة الإسلامية، ممثلة بالسيطرة العثمانية، فالمساجد والعمران ذي الطابع الهندسي العثماني مايزال قسم منه حاضراً إلى الآن.
البلدة التي تسمى باللغة الآرامية “بيت وريشا”، وتعني “قصر الرأس” أُدرِجت ضمن قائمة “المدن المنسية” من قبل منظمة اليونسكو في عام 2011، كواحدة من أهم المواقع الأثرية في العالم. لكن في عام 2013، وبعد ثلاث سنوات من الثورة السورية، نُهبت معظم القطع الأثرية في المنطقة، وهُرِّبت خارج سوريا، بعد سلسلة من عمليات الحفر والتنقيب، لتعود اليونسكو مرة أخرى وتُدرج البلدة ضمن قائمة التراث المهددة بالزوال.
باريشا اليوم أقرب ما تكون لبلدة حديثة منها كموقع أثري، تأمل الكنيسة الموجودة فيها، والتي تحمل اسم” كنيسة البلدة” ينبهك لما بقي من جدرانها، التي يزيد عمرها عن ألف وأربعمائة سنة، وما أضيف عليها من جدران حديثة، إضافة إلى إغلاق بوابتها الرئيسية بقطع أسمنتية، وتحويلها فيما بعد إلى منزل للإيجار.
بالقرب من باريشا، تقع قرية بافتين ذات الاكتظاظ العمراني الأثري، المميز بنقوشه الحجرية والقناطر المرتفعة والأقواس المنحوتة، التي تحولت مؤخراً إلى مقاسم للبناء، خُصصت للنازحين في المخيمات، وهي عبارة عن منازل صغيرة، يبلغ مساحة المنزل الواحد فيها بين 30 إلى 40 متراً مربعاً، واستحدثت هذه المنازل بعد أن شُقَّت الطرقات وسط الأبنية الأثرية وتوغلت عشرات المساكن داخل أسوارها، سبقها حملات تنقيب طالت معظم أرجائها بما فيها المقابر.
في حي باب أعيان المجاور للبلدة كان يوجد المشفى الروماني ومجموعة مبان حكومية محيطة به، يعد لها أي أثر يذكر اليوم، بعد أن حول مجمل “البارك الأثري” الموجود فيها إلى مقلع لقطع الحجارة وسلسلة من الشقق السكنية الحديثة.
ويطلق وصف “البارك الأثري” على مجموعة المعالم الأثرية التي تنتمي إلى البلدة، والتي بدورها تعتبر جزء من سلسلة الجبال المنسية المعروفة بكثرة آثارها والمدونة أيضاً على قائمة اليونسكو.
الحال ذاته بالنسبة لكنيسة دايحس والأديرة المجاورة لها، فغالبيتها اختفت أو تم تعديلها بعد أن أضحت محاطة بعشرات المخيمات ومساكن النازحين.
في السابق كانت بلدة باريشا جزء من مستوطنة قديمة تعرف بـ “دايحس”، وتحتوي البلدة على الكثير من المعالم الأثرية مثل المعابد والصهاريج والمكابس والآبار الرومانية والمقابر الملكية والمساجد الأثرية، كما يوجد في البلدة كنيستان، الأولى وهي كنيسة البلدة وتقع في الجهة الشرقية، والثانية دايحس وتقع في الجهة الجنوبية الغربية من البلدة، وتتوزع تلك الكيانات الأثرية على مجموعة مواقع تحوط البلدة مثل دايحس وبافتين وباب أعيان ومركز البلدة.
هدم الأبنية الأثرية وبناء أخرى حديثة مكانها
ما إن انتهت عمليات الحفر والتنقيب، حتى بدأت مرحلة جديدة من التجاوزات والانتهاكات بجملة من الأعمال التي غيّرت معالم البلدة الأثرية وجاء في مقدمتها الزحف العمراني على حساب البارك الأثري، الذي يعود جزء كبيراً من ملكيته إلى أفراد من البلدة ويعتبر أملاكاً خاصة، ومع توالي موجات النزوح إلى البلدة عَمَدَ أصحابها إلى هدم المواقع الأثرية الموجودة ضمن عقاراتهم، مستخدمين بذلك آلات الحفر والجرافات، واستبدلوها بأبنية حديثة بهدف سكنها أو تأجيرها للنازحين.
يرى م. ص، أحد سكان البلدة أن إزالة الهياكل الأثرية الموجودة لديه، واستبدالها ببناء حديث حرية شخصية، إذ أنه لا يقوم بأمر مخالف للقانون، كونه يمارس عمله داخل ملكه الخاص، كما أنه لم يستفد من تلك الآثار الموجود ضمن عقاره، ولا يمكنه رهنها لمجرد أنه يحافظ على ما يسمى بالآثار، حسب تعبيره.
لكل موقع أثري مناطق حماية مثل المنطقة الحمراء وتشمل المباني الأثرية والمنطقة الخضراء والزرقاء اللتان تعتبران مناطق حماية للمواقع الأثرية، ولكل منطقة منهما شروط مختلفة تخص عمليات البناء والدفن والاستخدام إذا كانت تلك المواقع تقع ضمن مناطق خاصة، هذا ما يؤكده أيمن النابو مدير متحف إدلب في حديثه لفوكس حلب.
يعتبر، نابو، هدم المباني الأثرية، وبناء مبانٍ حديثة مكانها “تجاوزات شوهت المعالم الحضارية والأثرية لبلدة باريشا، والتي تعتبر أحد مواقع البارك الأثري في جبل باريشا المسجلة على لائحة التراث العالمي”.
ورش خاصة لتقطيع الحجارة الكبيرة
لم تتوقف تلك الانتهاكات عند إزالة المعالم الأثرية، فبالقرب من كنيسة البلدة التي لم يتبقى منها سوى قليل من الجدران المهدمة وفي الأبنية العثمانية المجاورة؛ ثمة ورش عديدة باتت مهمتها تقطيع تلك الحجارة الأثرية الكبيرة إلى حجارة صغيرة وإعادة استخدامها في بناء الأبنية الحديثة.
هذا مع فعله صافي دياب، أحد سكان البلدة، إذ بعد انتهائه من عملية الهدم قام بتكليف أحد ورش البناء بتقطيع الحجارة ضمن عقاره، وكان قد لجأ لهذا الخيار، تفادياً لتكاليف نقلها الباهظة، والتي تتطلب وجود آلات لحملها ونقلها، وهو أمر غير متاح، فغالبية الطرق المؤدية إلى عقاره تعتبر أزقة ضيقة، ولا يمكن لتلك الآليات المرور منها، ما أجبره على تقطيعها، حسب تعبيره.
وهناك عدد كبير من المعالم الأثرية سواءً داخل القرية أو تلك التي تقع على أطرافها؛ أعيد تأهيلها من جديد بعد أن باتت مأوى لنازحين جدد لم يوفقوا في الحصول على سكن للإيجار، فعمدوا إلى اتخاذ تلك المعالم سكناً لهم، بعد إجراء تعديلات عمرانية جديدة بقطع الحجارة ورفع جدرانها و أسقفها وإضافة تعديلات بداخلها عبر تقسيمها وتعديلها.
استخدام الآبار الأثرية للصرف الصحي
تحتوي بلدة باريشا على آبار رومانية يزيد عمرها عن 1200 سنة، لم تسلم هي الأخرى، إذ جرى تحويل العديد منها لحفرٍ للصرف الصحي.
حول عثمان عبد الله أحد الآبار الأثرية الموجودة ضمن أملاكه الخاصة إلى حفرة للصرف الصحي، ورغم أن عملية عملية حفر البئر كلفته مصاريف إضافية، لكنه يرى أن البئر القديم لم يعد له أي فائدة بعد إغلاقه منذ سنوات، حسب تعبيره.
يرى أيمن النابو مدير متحف إدلب “إن تحويل تلك الآبار إلى حفر للصرف الصحي لا تؤثر كثيراً على قيمتها التاريخية، علماً أنه جرى إيقاف العديد من الأعمال الخدمية في بعض المخيمات الموجودة في المناطق الأثرية، وتم تعديل بعض المشاريع بما يخدم النازحين ولا يضر بتلك المعالم”.
قرارات لمنع الانتهاكات .. حبر على الورق
وعن إمكانية وجود آلية لتحصيل بعض تلك الآثار وضمها إلى متحف إدلب خشية فقدانها ضمن تلك التجاوزات قال النابو: “إن تلك الآثار تكمن أهميتها في بقائها مكانها، كونها مسجلة في منظمة التراث العالمي، وفيما يخص القطع أو المواقع التي تُكتشف حديثاً فإننا نعمل على توثيقها في مكانها، فهي غير قابلة للعرض المتحفي”.
ودعا خبراء ومهتمون بالآثار وتراث المنطقة إلى إيقاف تلك الانتهاكات المتلاحقة قبل أن تفقد البلدة تراثها الأثري، وطالبوا المعنيين بوقف المدّ العمراني على حساب تلك المواقع الأثرية واتخاذ إجراءات صارمة ضد المنتهكين، وهو ما قالت عنه مديرية الثقافة على لسان مديرها جمال الشحود: “إن الأمر متابع بالتعاون مع المجالس المحلية وقيادات الشرطة وإدارات المناطق، وعند إخبار الوزارة عن وجود أي مخالفة في أي منطقة أثرية، يتم إبلاغ الجهات المختصة على الفور وإعلام وزارة الداخلية بشكل روتيني من أجل ردع المخالفة، كما تم الإيعاز من قبل قيادة الشرطة بالاستنفار وقمع أي مخالفة وتجاوز على الآثار”.
تلك القرارات لم يتجاوز صداها دوائر المعنيين، وبقيت حبراً على الورق، في وقت تندثر الأبنية الأثرية واحداً تلو الآخر، دون ردع من الجهات المعنية بحق العابثين بها.
كما أن منظمة اليونسكو امتنعت عن التعامل مع مديرية المتاحف التابعة لحكومة الإنقاذ والتي تقع بلدة باريشا ضمن مناطق سيطرتها، واقتصار تعاملها مع مديرية الآثار والمتاحف التابعة لنظام السوري، والذي لم يعد له أي سلطة على تلك المناطق، بالرغم من المحاولات المتكررة التي قامت بها مديرية الآثار في الشمال السوري لكسب اعتراف رسمي أو فني من قبل المنظمة، لكن دون جدوى. وهذا ما سيجعل المعالم الأثرية للبلدة في عزلة عن التراث العالمي.
يقول المعنيون إنه جرى التنسيق مع عدد من المنظمات الحقوقية لتوثيق الانتهاكات وتوثيقها قانونياً وكان آخرها منظمة “محامون لأجل العدالة” التي توقف العمل معها نهاية عام 2017.
وقد جاء التنسيق كحل بديل، لامتناع منظمة اليونسكو من التعامل مع الجهات المعنية في الشمال السوري، وجرى التنسيق مع المنظمة عبر توقيع مذكرة تفاهم بين المنظمة ومركز آثار إدلب، تقضي بالتزامات بين الطرفين لتوثيق الانتهاكات الواقعة على الممتلكات الثقافية وتكوين تقارير بهذا الخصوص من قبل مركز آثار إدلب وتقديمها للمنظمة، من أجل توثيقها قانونياً، بحسب قوانين الصراع، وإعداد قواعد قانونية تبنتها المحاكم الموجودة في المناطق المحررة.
وبحسب مكتب آثار إدلب، فإنهم يقومون في الوقت الحالي بتوثيق الانتهاكات داخلياً وتحت إشراف إدارتهم، في ظل غياب منظمات قانونية دولية، وهم بانتظار التعاون مع منظمة حقوقية لتقديم تلك التقارير والتجاوزات لها.