لم تتخيل أم شام، 27 عاماً، أن خمس دقائق أمضتها في الصلاة قد تترك ذكرى قاسية مع ابنتها شام ذات العامين ونصف العام، فبعد أن فرغت من صلاتها دخلت الغرفة المجاورة التي حبَت إليها طفلتها لتفاجأ برؤيتها ضاحكة والدم ينزف من رأسها وبيدها قطعاً زجاجية من كأس كسرته فوق رأسها، واستمرت بالضحك واللعب.
مسحت الأم جرح طفلتها وهي تبكي لشعورها بتأنيب الضمير، فهذا الفعل لم يكن جديداً عليها، اعتادت على رؤية ابنتها وهي تضرب رأسها بأي شيء تجده أمامها، وإن لم تجد شيئاً فإنها تلجأ إلى ضربه بالحائط أو المرآة، تقول “آذت نفسها هذه المرة وهو ما ألزمني باتخاذ قرار عدم الإنشغال عنها ولو لبضع دقائق، شام لا تعِ تصرفاتها وقد تؤذي نفسها في أي لحظة”.
قبل ستة أشهر من اليوم وقع أهل الطفلة رهينة شكوك بإصابتها بمرض له صلة بسوء التغذية أو ضعف النمو لما اشتكت منه من نحول في جسدها، وانعدام تطور الحركة والنطق والإدراك لديها مقارنة بأطفال من عمرها، وبعد زيارات متكررة لأطباء ورحلة طويلة من الفحوصات والتحاليل والصور تم تشخيص مرضها بالضمور وهو مرض أخطر مما توقعه الأهل، تقول أم شام.
مرض الضمور الدماغي هو شلل دماغي يتلف خلايا المخ فى أولى مراحل نمو الطفل ويؤدي إلى ضمور الدماغ من حيث القصور والحجم والأداء الوظيفي، وهو من أكثر الإعاقات شيوعاً عند الأطفال، وتختلف شدته من حالة إلى أخرى وتتغير أعراضه من مريض لآخر.
في كل مرة تصادف أم شام أطفالاً بعمر ابنتها تجري مقارنات بينهم وبين شام من ناحية الطول والوزن والنطق والحركة. تقول “أرى أطفالاً بعمرها أو أصغر منها يركضون في الحي، ويتحدثون جملاً كاملة، بينما لا تستطيع شام المشي أبداً ولا تنطق سوى كلمتي بابا وماما. هذه المقارنات اللاإرادية تزيد من إصراري على تحدي صعوبات العلاج الطويل ومتابعته حتى أرى نتائج ملموسة”.
ترتبط الأعراض و المشاكل الناجمة عن ضمور الدماغ بطبيعة المنطقة المصابة منه، إذ من الممكن أن تضمر خلايا الدماغ بالكامل بينما قد تقتصر حالات ضمور الدماغ على مواقع محددة منه، تتأثر معها الوظائف المرتبطة بهذا الجزء من الدماغ.
تعيش شام مع عائلتها في منطقة دير حسان شمالي إدلب بعد نزوحهم من الريف الجنوبي قبل سنوات. في أشهرها الأولى بدت الطفلة بحالة جيدة ثم تراجعت صحتها تدريجياً، وبعد اكتشاف مرضها تبذل أمها جهداً في استيعاب ومتابعة حالتها مع الأطباء في المستشفى أملاً بتحسن صحتها.
العامل الوراثي ليس سبباً بإصابة شام بالمرض، حسب شرح الطبيب المشرف عليها، مرجعاً سبب الإصابة إلى نقص الأكسجة الحاصل بسبب استنشاقها دخان المدفأة في الشتاء عندما كانت بعمر شهرين. تتذكر الأم أنها أمضت حينها عشرة أيام في المستشفى بمدينة إدلب بعد إسعاف شام جراء تدهور حالتها الصحية، وبقي المرض يتطور مؤثراً على صحتها بشكل ملحوظ.
منذ ذلك الحين لم تعد شام كما كانت، وبدأت الأعراض تزداد من شحوب وضعف النمو وقلة الحركة مقارنة بأطفال من عمرها. بذلت الأم جهدها في معرفة السبب وراء تدهور صحتها متنقلة بين عيادات التغذية وعيادات الأطفال دون أن تصل لنتيجة، إلى أن أكدت صورة الطبقي المحوري إصابتها بمرض الضمور الدماغي بدرجة متوسطة.
في حالات أخرى قد تظهر أعراض المرض خلال السنوات الأولى من عمر الطفل على شكل نوبات صرع، بحسب المكان المصاب من الدماغ، وفي بعض الحالات قد لا تظهر أي أعراض بينما يعاني البعض من تغيرات سلوكية، تشنجات عضلية، صرير الأسنان حتى فقدان الإدراك، مشاكل و صعوبات في المشي، تأخر النطق و صعوبات في تعلم القراءة و الكتابة، صعوبة التعلم والتواصل مع الآخرين.
أمهات كثر يعشن التجربة ذاتها التي تعيشها أم شام مع أطفالهن مرضى الضمور الدماغي في محافظة إدلب وريفها، ومن الطبيعي أن تأخذ الأم دورها في الرعاية ويزيد الاهتمام بالطفل المريض عن أفراد العائلة الأصحاء، حسب من تحدثنا إليهن من أمهات.
“أم معتصم” واحدة منهن، سيدة خمسينية من ريف حلب نازحة ومقيمة في كفر لوسين شمالي إدلب، دون كلل أمضت عقدين من عمرها في الاهتمام والعناية بابنها محمد، مريض ضمور دماغي وشلل أطفال منذ ولادته، تقول ” منذ 18 عاماً يعاني محمد من المرض، وزنه لا يتعدَى عشرة كيلو غرامات، يأكل ويشرب ويتناول أدويته، يبكي ويئن لكنه لا يتكلم ولا يمشي، لهذا السبب هو حبيس فراشه دائماً”.
من محفظتها الصغيرة المعلقة برقبتها والمخفية تحت ثيابها تخرج أربع قطع كرتونية صغيرة الحجم فيها أسماء الأدوية التي تشتريها لمحمد كل شهر. تحفظ أم معتصم شكل ولون كل علبة دواء كبديل عن اسمها الأجنبي، معتبرة أنها اكتسبت خبرة كافية لمعرفة حالته المرضية ونوع الدواء المخصص له وطريقة العناية به، لذلك لا حاجة لها بزيارة الأطباء والمستشفيات كما أخبرتنا، فهذا وضعه منذ أعوام.
تعتني أم معتصم بابنها (آخر العنقود) بمفردها من إطعامه وتغيير الفوط له وإعطائه الدواء. تقول “لا أذكر أني تركته وحده منذ ثمانية عشر عاماً، حتى أني لم أتمكن من الذهاب للحج هذا العام خوفاً عليه، رغم وجود إخوته في المنزل لكنهم عاجزون عن الاعتناء به كما أفعل”.
تبتسم وهي تطلق على نفسها لقب الممرضة أو كما تحفظه عن جدتها “نيرسة” أي Nurse (تعني الممرضة باللغة الإنجليزية)، وهي راضية بهذا العمل والامتحان الرباني لصبرها كما تسميه.
يقصد ذوو المرضى المستشفيات العامة والخاصة التي تضم قسم العصبية لعلاج مرضى الضمور في إدلب، مثل مستشفى إدلب المركزي ومستشفيي الظلال والعيسى الخاصتين في مدينة الدانا شمالي إدلب، ومستشفى شام في مدينة سرمدا وعدة مستشفيات أخرى في المنطقة إضافة إلى مراكز العلاج الفيزيائي التي تتابع حالات المرضى الذين يحتاجون لتدريب على الحركة والمشي في مراحل متقدمة من العلاج.
تغيب الإحصائيات عن عدد الأطفال المرضى بالضمور الدماغي في محافظة إدلب، غير أن طبيب العصبية، عبسي الفؤاد، في مستشفى إدلب المركزي يقدر عدد مراجعي العيادة العصبية شهرياً بما لا يقل عن 40 حالة من الأطفال المصابين بالاضطرابات النمائية التي تحدث بسبب تكوين ناقص للمادة الدماغية، فضلاً عن وجود عيادة عصبية مخصصة للمرضى البالغين وتستقبل العيادات المرضى في يوم الخميس من كل أسبوع.
على كرسي في ممر الانتظار تجلس مريم المحمود، 24 عاماً، أمام عيادة طبيب العصبية في مستشفى العيسى الخاص بمدينة الدانا شمالي إدلب رفقة أهال يصحبون أطفالهم المصابين بمرض الضمور الدماغي. تحمل طفلها عمر الذي بدا كأنه في عامه الثاني رغم بلوغه ثمانية أعوام، بوزن لا يتعدَى 12 كيلو غراماً. لا يدرك عمر ما الذي يدور حوله فهو مريض ضمور دماغي منذ ولادته.
عزفت مريم عن مراجعة الأطباء منذ سنوات بعد تأكيدات باستحالة شفائه بسبب تأزم حالته، إلا أن دخوله حديثاً في نوبة اختلاج جعلتها تسرع به إلى مستشفى قريب من مكان إقامتها في مخيمات دير حسان بريف إدلب الشمالي.
تروي سبب مرضه يوم ولادته عند قابلة قانونية، تقول “إنه نتيجة نقص الأكسجين عن الدماغ وتأخر وصولنا لأقرب مستشفى في المنطقة، أصيب طفلي بمرض الضمور الدماغي، وزاد من سوء حالته الصحية أيضاً وقوعه على رأسه في المستشفى وتعرضه لنزيف دماغي”. اسكتتها غصة مصحوبة بعيون دامعة واكتفت بوصفه أنه “جثة حية”.
تتعدد أسباب الإصابة بالضمور الدماغي عند الأطفال، منها تعرض الطفل لحالة الاختناق أثناء الولادة، إصابة مباشرة على الرأس، الإصابة بأنواع عدوى تتسبب بردود فعل ارتدادية تؤدي إلى إتلاف الأعصاب و المحاور العصبية، العدوى المرتبطة بالدماغ تحديداً مثل الملاريا، سوء التغذية، تناول أدوية ذات سمية للخلايا، التعرض لإصابات إشعاعية، بعض حالات الشلل الدماغي، الإصابة ببعض الأمراض الوراثية الناجمة عن طفرات جينية قد تورث من الوالدين.
الطبيب محمد العمر، مختص بأمراض الأطفال في إحدي مستشفيات جنديرس شمالي سوريا، يلخص أهم أسباب المرض بنقص الأكسجة لدى الطفل أثناء الولادة أو بعدها، فمنها ما يؤثر على الجهاز العصبي المركزي أثناء الحمل أو عند الولادة أو بعدها بفترة قصيرة، موضحاً أن الضمور هو اعتلال دماغي ثابت يشير إلى مجموعة من الاضطرابات التي تحدث بسبب المساس بالجهاز العصبي المركزي في مراحل التطور الباكرة وقد يقترن مع اختلاجات أو إعاقة في الذكاء أو صعوبات بالتعلم.
تتعامل مريم مع طفلها كأنه رضيع، تعطيه الطعام السائل والمياه عبر عبوة الحليب المخصصة للأطفال الرضع بسبب اضطرابات في البلع لديه، ثم تنظفه وتغير له الفوط، تقول إن الاهتمام به يأخذ نصف وقتها، ورغم ذلك تحاول أن تمنحه اهتماماً كافياً، كما أنها تعطي وقتاً مناسباً لأفراد عائلتها الخمسة الآخرين.
حالها يختلف عن حال أمهات أخريات تحدثنا إليهن توصلن إلى نتيجة وصفنها بـ “المقبولة” بعد متابعة العلاج، إذ تختلف درجة الاستجابة حسب حالة كل طفل ودرجة إصابته بالضمور. ربيعة العيسى، 33 عاماً، طبقت نصائح طبيب العصبية المشرف على حالة ابنها ذي الخمس سنوات بدقة، بعد أن أكدت صورة طبقي محوري أجريت له منذ بلوغه شهره السادس بأنه مريض بالضمور الدماغي.
دون ملل أو فقدان الأمل، استمرت ربيعة بعلاج ابنها طيلة السنوات الماضية، تقول بنبرة فرح، إنه تمكن من المشي بمفرده، كما أنه صار يستطيع الذهاب إلى الحمام والتفاعل مع الأطفال، ويحاول اللعب معهم ويمد يده لمصافحة الأشخاص الذين يزورونهم، إلا أنه غير قادر على الكلام والتعبير مثل الأطفال الأصحاء.
لم تصل ربيعة إلى هذه المرحلة بسهولة، لا سيما أنها قصدت أطباء كثر في مدن سرمدا والدانا وإدلب في السنوات الماضية، ودفعت تكاليف كبيرة حسب وصفها، كما أن رحلة العلاج لم تنتهِ بعد، فهي تحاول متابعة تطبيقات عبر الإنترنت لتدريب طفلها على النطق ريثما يتحسن وضعها المادي كي تلجأ لاختصاصي نطق في عيادة خاصة.
يصف الطبيب محمد العمر طرق علاج مرضى الضمور الدماغي بأنها تحتاج لفريق متعدد الاختصاصات، منها: “معالج فيزيائي، معالج مهني، مدرسون، معلم النشاطات اليومية، الدعم النفسي وعدد من الأجهزة المساعدة والموائمة، إضافة لمعدات التواصل”.
إلى جانب ذلك لابد من توفر الجانب الدوائي حسب طبيعة المرض وسببه. يقول “إن كان المرض ناتجاً عن نقص أكسجة فالعلاج هو داعم، مثل مضادات الاختلاج فينيتوئين، ليفراسيتام، أدوية مقوية، مثل بيراسيتام، فيتامين ب 12، أرجينين، أما إذا كان الاعتلال الدماغي أو الضمور بسبب استقلابي، فإن المرض الاستقلابي يعالج أولاً إذا كان قابلاً للعلاج”.
تنفق والدة شام 1400 ليرة تركية (ما يقارب 45 دولاراً تقريباً) ثمن أدوية وتكاليف علاج لابنتها شهرياً. تخبرنا أنها لم تعد تحفظ أنواع الأدوية لكثرة ما تغيرت خلال فترة علاجها آخرها كان منذ ثلاثة أشهر معظمها مكملات ومقويات تساعد الطفلة على المشي وعلى دمجها مع الأطفال الآخرين.
أم أنور،40 عاماً، تقيم في مخيم تابع لمدينة سرمدا، رغم ضيق الحالة المادية وعجزها عن شراء الدواء الذي يصفه طبيب العصبية لابنها حميد ذي السنوات الثلاث، إلا أنها لا توفر جهداً في السعي إلى المستشفيات المجانية لمتابعة حالته الصحية خاصة حين يتعرض لنوبات اختلاج مفاجئة.
تقول: “يختلج حميد، أذهب به إلى مستشفى مجاني إلى أن يجتاز مرحلة الخطورة، أعيده إلى البيت وفي الطريق أضيف الوصفة الطبية التي كتبها لي الطبيب إلى جانب سابقاتها اللواتي لم أستطع شراءهنّ حتى الآن، فثمن أقلها يعادل مصروف عشرة أيام لعائلتي المكونة من سبعة أفراد” تقول الأم بحرقة ثم تصمت طويلاً.
أم حميد واحدة من أمهات أخريات يحول سوء أوضاعهن المادية دون تلقي أطفالهن العلاج الذي يساعد في تحسن حالة الطفل، بحسب الطبيب محمد العمر الذي حمّل المسؤولية للجهات التي تهتم بدعم الأمراض المزمنة التي يجب أن تخصص رعاية طبية مجانية لهؤلاء أيضاً.
كحلول إسعافية تتكفل فرق تطوعية بتقديم الدعم المالي أو الطبي لحالات معينة من بينها مرضى ضمور دماغي. أحمد عكاش، مدير إحدى الفرق في مدينة الدانا يقول إن فريقهم يساعد حالات قليلة من مرضى الضمور الدماغي ضمن إطار مبادرات مجتمعية بسيطة، تتراوح أعداد المستفيدين بين 15 إلى 20 حالة تقريباً، يقدم لهم مساعدة مالية أو مستلزمات يحتاجها المريض مثل الفوط وأدوية نوعية حسب الإمكانيات المتوفرة.
لا تقتصر مساعي أمهات لعلاج أطفالهنّ على المتابعة الطبية فحسب، فتقف بعضهنّ في مواجهة سلوكيات سلبية تصدر عن المجتمع، كاستخدام ألفاظ تعتبرها أم شام قاسية بحق ابنتها مثل “معاقة، متخلفة عقلياً، وعالبركة أو درويشة..”، وغيرها من الأوصاف والأحكام التي يطلقها أشخاص على مرضى الضمور الدماغي.
في البداية هربت أم شام من الناس وانتقاداتهم، فامتنعت عن الخروج من المنزل إلا إلى مكان عملها، لكنها أيقنت أخيراً أنها أمام عمر لم يمضِ منه إلا سنتين، تختم حديثها متسائلةً: “أيعقل أن أشرح لكل سيدة أجلس معها تفاصيل حالة ابنتي لأتجنب النقد!”.
تهتم أم شام بمظهر طفلتها، تسرح شعرها وتزينه وتهتم بنظافته، رغم محاولات الطفلة انتزاع الزينة لأنها كثيرة الضجر، كما أنها تزحف على مؤخرتها كثيراً لضعف قدرتها الحركية، ما يتسبب باتساخ ملابسها ويعرضها لاتهام البعض بعدم الاهتمام بطفلتها، إلا أنها لم تعد تلتفت لتلك الانتقادات لأنها تعلم ما تحبه طفلتها وما يثير غضبها.