فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

أطفال التوحد في إدلب

علاج أطفال التوحد يصطدم بقلة المختصين ومراكز العلاج

مرام حمزة

تشخيص خاطئ، مراكز غير مختصة، تكاليف مرتفعة، إهمال وعجز، مشكلات يعيشها أطفال طيف التوحد خلال رحلة علاجهم في الشمال السوري

احتفالاً بعيد ميلاده أشعلت علا في منزلها بمدينة إدلب ستة شموع بعدد سنوات عمر وديع، ابنها البكر. تعمّدت كسر النمط الهادئ الذي تعيشه رفقة طفلها الذي لم يدرك ما يحدث حوله، لم يعبّر بكلمة واحدة عن شعوره، بل اتخذ لنفسه ركناً في زاوية المنزل، تقوقع على نفسه قبل أن يبدأ بالدوران والرفرفة بيديه وكأنه يطير، وسط نظرات الشفقة والقهر من الحاضرين.

“وديع كاسر ظهري، كبر وكبرت الغصة بقلبي” تقول والدته منذ أن “شُخّص بطيف التوحد وفرط النشاط في عامه الثاني، لم أعرف طعم الفرح والسعادة، لاسيما بعد تجربة انفصالي عن زوجي واهتمامي وحدي بوديع وأخيه الصغير”. تنظر علا إلى طفلها وهو يرفرف بيديه مثل عصفور جريح، تحبس دمعتها، تخبرنا أنه ربما يبقى ساعات على هذه الحال، وأحياناً يدخل في نوبة بكاء طويلة ويعبر عن غضبه بالصراخ والجري داخل المنزل.

يصنّف عدنان حسون، أخصائي اضطرابات النطق لدى الأطفال والمشاكل السلوكية لأطفال التوحد، الأعراض التي ترافق وديع  بـ “اضطراب طيف توحد متوسط الشدة”، خاصّة وأنه خبرها خلال متابعة حالة الطفل في عيادته بمشفى إيبلا التخصصي في مدينة إدلب.

يعرف التوحد بأنه اضطراب نمائي عصبي، يؤثر على مجالات الطفل النمائية، مثل الإدراك، الانتباه، التركيز، الاستجابة للأوامر والتفاعل مع الآخرين، رغم سلامة حاسة السمع، والحواس الأخرى في كثير من حالات التوحد، حسب ما شرحه لنا الأخصائي حسون.

ترجع والدة وديع إصابة طفلها بطيف التوحد إلى الأوقات الطويلة التي كان يمضيها وحده في المنزل أثناء إقامتهم في تركيا قبل أربع سنوات، بسبب انشغالها وزوجها بالعمل، وبقاء الطفل مع جدته في المنزل، تقول علا “إن وديع كان يمضي أكثر من ست ساعات على الهاتف الجوال، وهو بعمر العامين، مع فرط في تناول الحلوى والسكريات التي اكتشفت فيما بعد دورها في زيادة فرط نشاطه التي يشكو منها اليوم إضافة إلى التوحد”. 

الصورة من رسومات الطفل كرم
الصورة من رسومات الطفل كرم

لم تتمكن علا من اكتشاف مرض وديع إلا بعد عودتها إلى إدلب، تقول إن عدم وجود أطفال وعلاقات اجتماعية في محيطها حين كانت تقيم في تركيا حالا دون انتباهها المبكر على حالته، لكنها في الوقت ذاته شعرت بتأخر وديع في النطق وحديثه بكلمات غير مفهومة.

لا يوجد سبب محدد للإصابة بطيف التوحد، هناك فرضيات عدة ترجحها الدراسات للإصابة بهذا الاضطراب المعقد، منها الاعتلالات وراثية التي تجعل الطفل أكثر عرضة للإصابة، يُؤثر بعضها على نمو الدماغ وتطوره، والعوامل الجينية، وقد يكون للعوامل البيئية دور في تطوره أيضاً.

يشرح الأخصائي حسون أن “أسباب طيف التوحد ما تزال مجهولة إلى الآن، ومعظم ما توضحة الدراسات لا يعدو كونه فرضيات، مثل تشقق في جدار الأمعاء أو ارتفاع نسبة المعادن في الجسم أو مشاكل في الدماغ، وهناك نظريات تقول إن سبب التوحد قد يرجع إلى وجود سموم في جسم الطفل”.

وينفي حسون أن يكون لإمضاء وقت طويل على الشاشات أو الهواتف المحمولة دور في طيف التوحد، لكن استخدامه بعمر مبكر وبشكل مفرط يزيد من تفاقم المرض و يشجع على العزلة وانعدام التواصل والتفاعل مع الآخرين بشكل أكبر، وهو خطر ليس فقط على مرضى التوحد بل حتى على الأطفال الأصحاء، إذ يسبب لهم اضطرابات عدة إحداها النطق.

يحاول ذوو الأطفال المصابين بالتوحد، خاصة في الأيام الأولى لاكتشافه، البحث عن علاج مناسب، تقول علا إنها صدمت عند معرفتها بحقيقة عدم وجود علاج نهائي لمرض وديع، وإن رحلة العلاج طويلة وتعتمد على تأهيل الطفل وتدريبه ومراقبة التطورات التي تطرأ عليه والتي تختلف من طفل إلى آخر، حسب شدة المرض وآلية المتابعة، والجلسات الفردية والأساليب العلاجية التي يخضع لها الطفل.

لأجل ذلك يسعى ذوو الأطفال للعلاج في المراكز المتخصصة، وهي قليلة في إدلب بعد إغلاق عدد منها بسبب قلة الدعم، أما المتوفرة فتجمع بين أطفال التوحد وغيرهم من ذوي الاحتياجات الخاصة ومتلازمة داون. يضيف عدد من ذوي أطفال التوحد الذين تحدثنا معهم أن معظم هذه المراكز تفتقر إلى الأساليب الصحيحة لعلاج التوحد والتي تحتاج إلى جلسات فردية بوجود كوادر متخصصة، مع خطة علاجية مناسب لتنمية المهارات.

وتقول علا إنها ألحقت وديع بجميع المراكز الموجودة في إدلب المدينة تقريباً، منها المأجور ومنها المجاني، لكنها لم تلاحظ أي تغيير في سلوكه، لا سيما أن حالته شديدة إلى أن خضع لجلسات علاجية سلوكية فردية في عيادة مختص بالتربية الخاصة وأطفال التوحد.

إلى اليوم تابع وديع خمس جلسات فردية، بمعدل جلسة واحدة أسبوعياً لمدة 45 دقيقة في كل مرة، بتكلفة 6 دولارات لكل جلسة، ويحتاج وديع إلى ثلاث جلسات أسبوعياً بشكل وسطي، بتكلفة 18 دولاراً أ(نحو 400 ليرة تركية) ما يعادل أجرة أربعة أيام لعامل مياومة، بحسب المشرف على حالته. تقول علا “تكاليف الجلسات مرتفعة بالنسبة لي، ويحتاج وديع لعدد كبير منها وهذا خارج قدرتي المادية”.

رغم عدم التزامه بثلاث جلسات أسبوعية والاكتفاء بجلسة واحدة لمست علا تحسناً وتطوراً واضحاً في سلوك وديع، تقول إنه ” أصبح أكثر استجابة للأوامر، وأقل حركة ونشاطاً، وقلت نوبات الصراخ والبكاء التي كانت ترافقه يومياً”، لكن علا تخشى من تراجع وضعه في حال توقفت عن متابعة الجلسات، نظراً للتكلفة المادية المرتفعة.

صورة لرسمة من رسومات الطفل كرم
الصورة من رسومات الطفل كرم

لا يملك معظم ذوي مرضى التوحد القدرة على تحمّل مثل هذه النفقات، قسم منهم أهمل العلاج، آخرون عجزوا عن متابعة حالة أطفالهم واكتفوا بما تقدمه المراكز المجانية الموجودة فقط.

يولي حسون العلاج السلوكي أهمية كبرى، ويصفه بـ ” أهم آليات العلاج الذي يقوم على تعديل السلوك غير المرغوب به، أو تثبيت السلوك المرغوب، عبر التعزيز أو العقاب أو محو الأخطاء”، مؤكداً “أن لكل طفل وضع خاص به، يحدد بعد تقييم شامل له من النواحي جميعها، وكلما زادت الجلسات الفردية مع المتابعة من قبل الأهل تحسنت حالة الطفل أكثر، ويختلف عدد الجلسات المطلوبة لكل حالة، حسب شدة المرض واحتياج الطفل”.

ويضيف أن كثيراً من ذوي أطفال التوحد يفضلون العلاج الدوائي معتقدين أنه مثل أي مرض عضوي، ولا يقتنعون بجدوى الجلسات والتدريبات والأنشطة المتبعة، وهذا ما لاحظه من خلال الحالات التي راجعته في العيادة.

على عكس حالة وديع، بدت شخصية الطفل كرم الحاج حسن، 11 عاماً، أكثر هدوءاً وانتظاماً والتزاماً بالأوامر، رغم ولادته مصاباً بطيف التوحد الذي تختلف أعراضه وشدتها بين طفل وآخر. تقول والدة كرم التي تعمل قابلة في مدينة إدلب، إنها لاحظت مرض ابنها البكر  في عامه الأول، وإنه مرضه شخّص حينها، بنقص تطور حسي حركي، أعطي لعلاجه عقاقير النمو أرجينين و”بامبولين” وهي مكملات غذائية للنمو.

 لم تتحسن حالة كرم رغم بلوغه خمس سنوات، تقول والدته ” كان لا يستجيب لاسمه أو لأي أوامر أخرى رغم اطمئنانها على سلامة حواسه، كلماته معدودة وغير مفهومة، انطوائي غير اجتماعي، يرفرف بيديه أحياناً”، هذه الأعراض دفعتها للبحث لتجدها تتشابه مع ما يظهر على أطفال طيف التوحد من أعراض.

خمس سنوات أمضاها كرم في عيادات أطباء العصبية والعظمية والغدة، دون جدوى، وبتشخيص خاطئ على حد قول والدته التي أضافت “أمضى كرم خمس سنوات من عمره، التحق بعدد من رياض الأطفال والمدارس الخاصة والعامة دون أن يستوعب أو يستجيب لأي منها، وفي عمر ثمان سنوات التحق بمركز  “مبدعون”، وهو مركز خاص لمتابعة أطفال التوحد وذوي الاحتياجات الخاصة في مدينة إدلب، بعد تشخيص مرضه بطيف التوحد”.

يضم المركز حالياً نحو خمسين طفلاً، كرم واحد منهم، تتراوح أعمارهم بين 2  إلى 15 عاماً، ويقدم خدماته بشكل مجاني، بحسب هبة كادك مديرة المركز، تحت إشراف أخصائية نطق و أخصائية توحد وأخصائية صعوبات التعلم، إضافة إلى وجود معالج فيزيائي، ويعمل المركز على تدريب الأطفال وتأهيلهم ضمن برامج خاصة.

تخبرنا كادك أن عدداً من الأطفال أصبح لديهم قدرة على  الاندماج بالبيئة الاجتماعية المحيطة بهم ومنهم من بقي على حاله، وتختلف نسبة التحسن من طفل إلى آخر. لا تخف هبة خوفها من إغلاق المركز، بسبب قلة الدعم تقول إن “المركز يحتاج إلى دعم ليستمر، معظم الموجودين فيه يعملون بجهود تطوعية غير مأجورة”.

الصوة من رسومات الطفل كرم
الصورة من رسومات الطفل كرم

“تتطور حالة كرم بشكل بطيء” تقول والدته، “هو اليوم قادر على التحدث بجملة مفيدة، ويذهب إلى الحمام لوحده لقضاء حاجته وكل ذلك احتاج تدريباً كثيراً وسنوات من الصبر والمتابعة من والديه”. كثير ما يسعدني أنه يسأل عني أخوته حين أغيب عن المنزل، بكلمتين فقط “أين ماما” ويفرح عندما أعود ويحتضنني ويقبلني يرقص أحياناً، ولكنه لا يستطيع التعبير بكلمات إضافية، تقول والدة كرم واصفة مشاعر ابنها الصامتة.

يمارس كرم موهبة الرسم، تارة يرسم وجه جدته التي يحبها كثيراً، وأحياناً يرسم شخصيات كرتونية يراها في الجوال، فضلاً عن رسومات غير مفهومة، إذ “يقضي وقتا طويلاً في الرسم، لذلك اشترت له والدته لوحاً صغيراً وضعته في المنزل كي تنمي موهبته”.

ليس الرسم ما يملأ وقت كرم، بل حدثتنا والدته أن لديه ميولاً لفك وتركيب القطع والألعاب والمصابيح الكهربائية، ولاحظت تعلقه بالبراغي والقطع الصغيرة، “يصفن ساعات في أي قطعة يمكن أن تتجزأ، ويبدأ بفكها بتركيز واهتمام كبيرين”. صادفت أم كرم أثناء بحثها عن مرض التوحد ما يعرف بمتلازمة الطفل الموهوب وهي حالة نادرة تصيب مرضى توحد تكون مهاراتهم العقلية غير طبيعية، فأرادت تنمية أي مهارة قد يظهر كرم اهتماماً بها.

وديع وكرم، طفلان شُخصا بمرض طيف التوحد باختلاف درجته، دون وجود إحصائية رسمية لعدد أطفال طيف التوحد في الشمال السوري أو في سوريا بشكل عام ،غير أن تقديرات منظمة الصحة العالمية تقول بأن من بين كل 160 طفلاً هناك طفل مصاب باضطراب طيف التوحد في العالم.