فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

المعتقلين والمعتقلات في سوريا- فوكس حلب

قسمة ونصيب.. لكن ليس للمعتقلين والمعتقلات

حسن كنهر الحسين

يقول عبدالله الذي حاول التقدم لخطبة أكثر من فتاة فكان يواجَه دوماً بالاعتذار والرفض: “أكثر من ثلث الشعب السوري تعرض للاعتقال.. هل هذا يعني ألا يتزوجوا؟”

للمرة الثالثة على التوالي يتعثر ارتباط عبد الله من إحدى الفتيات اللواتي تقدم لخطبتهن تحت مجموعة من الأعذار، بعضها تحمل في طياتها الرفض بأسلوب لبق. اعتقل عبد الله، طالب كلية الطب البشري، مع مجموعة من زملائه عام 2013، خرج قسم منهم وقتل آخرون تحت التعذيب وغابت الأخبار عن معظمهم بعد نقلهم مباشرة إلى سجن صيدنايا.

كان عبد الله من الذين أفرج عنهم قبل ثلاثة أعوام، بعد أن أمضى سبع سنوات في أقبية المعتقلات كان آخرها سجن عدرا الذي أطلق سراحه منه بموجب كفالة مالية قدرها خمسة عشر مليون ليرة سورية جمعت آنذاك من أقاربه. مطلعَ العام الماضي قرر عبد الله الزواج بعد أن أكمل دراسته في كلية الطب البشري، إلا أنه اصطدم برفض عوائل الفتيات اللواتي تقدم لخطبتهن.

على أصابع كفيه المحتفظتين بآثار التعذيب والشبح لساعات طويلة ضمن فرع المخابرات الجوية، يعدد عبد الله محاولاته التقدم لخطبة فتيات، يقول: “تجربتي الأولى كانت بخطبة ابنة عمي، إلا أن زوجة عمي كانت في واجهة المعترضين بالرغم من موافقة عمي وابنته بقولها “البنت من حقها يكون عندها ولد نحنا شو عرفنا شو صار معو بالسجن؟” وتطور الأمر إلى خلاف ما زال قائماً حتى اليوم”.

لم يُوفق عبد الله في المرة الثانية بخطبة فتاة تعرف عليها خلال دراسته الجامعية، إلا أن عائلتها وضعت مجموعة من الأعذار اللطيفة حالت دون ارتباطهما بعد معرفتهم بقضية اعتقاله. في المرة الثالثة أخفى عبدالله قضية اعتقاله عن فتاة من خارج بلدته، فكُتب لهذه الخطوبة النجاح لأسابيع فقط، لكن بسبب وشاية لم تخلُ من الافتراء وصلت لذوي خطيبته قبل موعد الزفاف بأيام “أنه كان معتقلاً ويشكو من عقم وأمراض أخرى”، أبلغوه على إثرها نيتهم بفسخ الخطوبة والعزوف عن تزويج ابنتهم حالياً.

يقول عبد الله “لا أعلم ما الرابط بين مسألة الزواج والاعتقال وموضوع الإنجاب مستقبلاً، فأكثر من ثلث الشعب تعرض للاعتقال، يعني ما يتزوجوا!”. بحسب تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان نُشر نهاية العام الفائت، فإن عدد المعتقلين المفرج عنهم خلال مراسيم العفـو كافة بلغ 7351 معتقـلاً، معظمهم اعتقل بشكل تعسفي، وما زال لدى النظـام السـوري حتى الآن قرابة 135253 معتقلاً مختفٍ قسرياً.

لطالما شاعت ظاهرة امتناع عوائل عن تزويج بناتهم لمعتقلين قبل انطلاقة الثورة السورية، خوفاً من الوصمة التي تلحق السجين لارتكابه جرماً مثل السرقة أو قضية شرف أو المشاجرات أو غيرها من الأسباب التي تطبع صورة الشاب في أذهان الناس على أنه “خريج حبوس”. الاعتقال دون ارتكاب جرم جنائي عقب انطلاقة ثورة 2011، لم يشفع للمفرج عنهم من المعتقلين وزادت ظاهرة الامتناع عن تزويج المعتقلين لدى الكثير من العوائل، واختلفت أسباب الرفض على الرغم من أن الغالبية العظمى دخلوا المعتقلات بجرم سياسي لم ينجُ منه معارضون لنظام الأسد ولا موالون.

رغم اختلاف تفاصيل اعتقال علاء الأسمر، طالب في كلية الاقتصاد، وعبدالله، إلا أن قواسم مشتركة تجمع بين قصتيهما، فكلاهما كانا معتقلَين سياسيَّين وكلاهما لم يكتب لخطبتهما النجاح. علاء هو الآخر لم يكتب له الزواج من خطيبته قبل ستة أعوام بعد معرفة ذويها باعتقاله. أنهى علاء دراسته واضطر للذهاب إلى جامعة حلب للحصول على شهادة تخرجه، والعودة لعقد قرانه على ميساء التي خطبها في العام الأخير من دراسته الجامعية.

تقرير كيديّ وُجِّه لأفرع الأمن حال دون عودة علاء إلى منزله بعد أن قُبِض عليه في طريق العودة على حاجز دوار الموت في حلب ليتم اقتياده بعدها إلى فرع المخابرات الجوية في مدينة حلب. لم تطل فترة اعتقال علاء التي استمرت شهراً ونصف الشهر على ذمة التحقيق، أطلق سراحه بعدها ليعود أدراجه إلى بلدته.

يقول الأسمر “امتزجت مشاعر الخيبة بمشاعر فرحة اللقاء بالأهل، فأول خبر تلقيته بعد الحمد لله على السلامة كان من أخي الصغير الذي أبلغني بأن خطيبتي باتت مخطوبة لشاب آخر غيري”. ويتابع “تم إبلاغ أهلي بأنه حتى لو أطلق سراحي في القريب فلن يكون هناك نصيب بإتمام الزواج من ابنتهم، دون الإفصاح عن السبب”.

وصمة الاعتقال لاحقت الكثير من الشبان في الوقت الذي ساد في المجتمع عبارة “السجن للرجال” ويتضح من الحالات التي قابلناها أن المجتمع لم يفرّق الذكور عن الإناث بما يخص الارتباط أو الخطوبة.

نسرين الأحمد (اسم مستعار) طالبة سابقة في كلية التربية بجامعة حلب اعتقلت عام 2013 بعد مظاهرة طلابية في حرم الجامعة طالبت بالحرية وإسقاط النظام. ثلاثة أيام على ذمة التحقيق ضمن الأفرع الأمنية في المدينة كانت كفيلة بجعل سيرتها على ألسن الناس، بعد أن وصل نبأ اعتقالها إلى أهالي قريتها في الريف الشمالي لمدينة حماة.

الكم الهائل من التأنيب والانتقاد من أهالي البلدة لوالديها اللذين سمحا لها بالذهاب إلى حلب لإكمال دراستها بهذه الظروف، والقصص التي واجهت الطلاب والطالبات أجبرت نسرين على إنهاء دراستها الجامعية بعد تلك الحادثة مباشرة. تقول نسرين “لم أكن أدرك أن وقع حادثة الاعتقال سيلاحقني طوال حياتي بالرغم من أن حبسي كان في سجن مخصص للنساء ولم يتجاوز اعتقالي بضعة أيام”. عمر نسرين الآن تجاوز الـ 33 عاماً ولم يطرق أحد الباب لخطبتها، باستثناء شابين من خارج البلدة، وسرعان ما كان يصل لعائلة الخاطب قصة الاعتقال من قبل بعض أفراد القرية، وفق قولها.

ليست البنات وحدهنّ من لاحقتهنّ تبعات الاعتقال فتسببت بعنوستهنّ، بل طالت النتائج الكارثية المتزوجات، وتفككت أسر بانفصال الزوجين، “مها العمر” إحدى الضحايا المتزوجات، كانت مها تقطن رفقة زوجها في لبنان حيث يعمل. كان ذلك قبل سبعة أعوام، بعد أن اتخذ الزوجان قرار العودة إلى سوريا. حزم الزوج أمتعته وسلك طرق التهريب للعبور إلى سوريا، كونه مطلوب لدى الأفرع السورية، على أن تتبعه زوجته رفقة أبنائهما بعد أيام.

وصل الزوج إلى مسقط رأسه في ريف إدلب الجنوبي بسلام، إلا أن رحلة باقي العائلة لم تكلل بالنجاح، إذ اعتقلت مها على حاجز في مدينة حمص وترك الأولاد ليكملوا طريقهم إلى والدهم. استمر اعتقال الزوجة لأسابيع وأفرج عنها لتكمل سفرها إلى منزل زوجها، الذي استقبلها فور وصولها بعبارة: ” أنتِ كنتِ بالسجن وحالياً ما بقى تلزميني” بالرغم من كونه السبب الأساسي في اعتقالها وإجبارها على العودة.

تغيب الإحصائيات عن أعداد الذكور الذين سبب الاعتقال والتعذيب لهم عجزاً جنسياً، أو حالات الاغتصاب بحق النساء داخل معتقلات النظام، وتحضر معها شهادات ناجيات من داخل تلك المعتقلات، بينما يكتفي معظمهم بالكتمان خجلاً أو رفضاً لإعادة فتح تلك الذكريات بما تحمله من مشاهد قاسية. أكدت تقارير مختلفة أحدها لمنظمة “محامون وأطباء من أجل حقوق الإنسان” السورية، أن قوى الأمن تستخدم الاغتصاب والتعقيم القسري وربط الأعضاء التناسلية الذكورية وحرقها وبترها لانتزاع اعترافاتٍ وإجبار المعتقلين على الاستسلام.

 وتنقل صحيفة “واشنطن بوست” عن المنظمة أن أكثر من 40% -من إجمالي 138 رجلاً التقتهم- أبلغوا عن تعرضهم لشكل من أشكال الاعتداء الجنسي، مشيرة إلى أن النسبة ارتفعت إلى 90% تقريباً عندما تطرقوا إلى أشخاص أُجبروا على التعري بأوامر من حراس السجون. تخلق تلك الشهادات أعذاراً تبرر لبعض الرافضين تزويج بناتهم لمعتقلين أُفرج عنهم، لا سيما أن معظم الأحداث الواردة من تلك السجون تعتبر مخيفة وقد تفوق قدرة البشر على تصديقها.

هشام عمر (اسم مستعار)، أحد المفرج عنهم من سجن عدرا، محطته الأخيرة في المعتقل، يسرد مشهداً رآه في فرع الأمن العسكري بحمص ما يزال عالقاً في مخيلته، حين زُجّ بثلاثة طلاب جامعيين معه داخل السجن. كان الطلاب خائفين ويجهلون سبب احتجازهم، ما دفع السجناء الآخرين للتعاطف معهم وتهدئتهم على أمل أن يكون احتجازهم مؤقتاً بسبب تشابه الأسماء.

بعد ساعتين تقريباً استدعيَ الطلاب من جديد، ثم أُمِرَ السجناء بالخروج إلى أبواب سجونهم المنفردة التي تضم كل واحدة منها سبعة أو ثمانية أشخاص رغم ضيقها الشديد، لرؤية الطلاب الثلاثة مشبوحين في الممر الذي توزعت تلك السجون على طرفيه. “مشهد الطلاب عراةً مشبوحين في الممر، أجبرنا على إغماض أعيننا أو الاستدارة جانباً” يصف هشام المشهد. يتابع: “طلب السجان من الجميع أن يبقوا أعينهم مفتوحة لرؤية الطلاب أثناء التحقيق معهم، حول مصدر ونوعية الصواريخ المضادة للطيران التي كانوا يتلقونها، حسب زعم المحقق”.

ردة فعل المساجين كانت الصراخ والبكاء بسبب التعذيب الذي تلقاه الشبان، مثل الضرب على الأعضاء التناسلية مع جملة “لازم تنقطع بذرتكم لأنكم خونة”، “هذا الشيء تعرض له معظم السجناء، بالإضافة لقطع العضو الذكري لكثيرين أثناء التحقيق للضغط عليهم خلال الاستجواب، عدا عن الصعق بالكهرباء والاغتصاب و…” يعدد العمر.

يستمر الحدث وسط ترقب جميع المساجين، ويطلب الضابط ثلاثة سجانين ومعهم هراوات التعذيب، ليغريهم بمكافأة مَن سيمزق ضحيته قبل الآخر، وينتهي المشهد بموت الطلاب الثلاثة، “في هذه اللحظات يخطر ببالي أنه من حسن حظهم أنهم ماتوا، حتى لايموتوا ألف مرة كلما رفضتهم إحدى العوائل خوفاً من انعدام قدرتهم على الإنجاب” يقول العمر.

الممارسات ذاتها يتم اتباعها في سجون النساء وهو ما تؤكده شهادات من تجرأن على ذكر تجربتهنّ مع سياسة التعذيب والتحرش وصولاً إلى الاغتصاب والاستعباد الجنسي ضمن معتقلات النظام، لإجبارهن على اعترافات أثناء التحقيق. تلك الروايات تبرر تخوف الكثير من الأهالي من تزويج المفرج عنهم من سجون النظام، خاصة مع غياب المساءلة بعد منح النظام لأفرعه الأمنية حصانة وحرية في التصرف بالمعتقلين دون محاسبة قضائية.

أسباب الرفض بالنسبة للذكور، تمثلت بخوف تلك العوائل من احتمالية أن يكون الشاب الذي تقدم لخطبة ابنتهم يشكو من عجز جنسي يحرم الزوجين من الأولاد مستقبلاً، نتيجة الضرب العشوائي الذي يتعرضون له ضمن المعتقل. أما بالنسبة للإناث فيقترن الامتناع عن الزواج منهن بالسمعة السيئة التي رافقت تلك المعتقلات المصحوبة بالخشية من تعرضهن للاغتصاب حتى وإن لم يحدث ذلك.

يتجهز عبدالله لخطبة فتاة هي الرابعة ضمن قائمة البنات اللواتي تقدم لخطبتهن بعد أن أنهى دراسته الجامعية، فيما ينتظر الأسمر قدوم مولوده الأول من فتاة تزوجها بعد أن حال اعتقاله دون زواجه من خطيبته الأولى، وما زالت نسرين متمسكة بالأمل بانتظار أن يتقدم أحد الشبان الذين لا يأبهون بتلك النظرة المجتمعية لخطبتها، أما مها فلم تعد فكرة الزواج تروق لها بعد تلك الحادثة التي فصلتها عن زوجها وأبعدتها عن أطفالها.