فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

أن تعيش مع المعتقلين وأنت خارج السجن

فداء الصالح

نقل معتقلون كثر تجارب اعتقالهم في سجون النظام السوري منذ انطلاقة الثورة مطلع عام 2011 عبر مقاطع فيديو أو لقاءات تلفزيونية مصورة، ولكنها لا يمكن أن تكفي لمعرفة دقائق مما يلاقيه المعتقل من تعذيب

رغم عدم قدرتي على إكمال البحث في صور قيصر واقتصار دوري على تحميلها وتكليف آخرين من عائلتي بالبحث فيها عن صورة لأخوّي وابن أختي، إلا أن تلك الصور دفعتني لمحاولة معرفة تفاصيل ما يمكن أن يعانيه معتقل في سجون النظام السوري، وإن كانت لا تَخفى وحشيته على أحد.

نقل معتقلون كثر تجارب اعتقالهم في سجون النظام السوري منذ انطلاقة الثورة السورية مطلع عام 2011 عبر مقاطع فيديو أو لقاءات تلفزيونية مصورة، ولكنها لا يمكن أن تكفي لمعرفة دقائق مما يلاقيه المعتقل من تعذيب.

وجدت ضالتي فيما نقله معتقلون من تجاربهم بشكل نصوص أدبية عرفت بـ “أدب السجون”، وبدايتها كانت مع رواية مصطفى خليفة “القوقعة” التي أحيا معها منذ أكثر من ست سنوات خلف باب مغلق تحت بطانية بحثاً عما يمكن رؤيته من شق قرب ذلك الباب أو لاستنشاق نفس هواء مغاير لما يمكن استنشاقه من غرفة اكتظت بعشرات المعتقلين.

قرأتها في شتاء عام 2016، ولم أكن قد سمعت عنها سابقاً رغم صدورها عام 2008. في ذلك اليوم لم أذهب للعمل ولم أستطع تناول الطعام. بقيتُ يومها ملتحفاً ببطانية ذاك المعتقل متكورا على نفسي قرابة عشر ساعات كاملة لحين إكمال قراءتها.

رفضت فيها الحديث لزوجتي ورجوتها مراراً أن تبتعد عني، وأن تتركني أعيش تلك اللحظات بحثاً عن الشق خلف الباب من تحت البطانية. لم تستوعب ما يجري ولم تتركني إلا بعد أن أصابها الملل من سؤالي. بعدها لم أعد قادراً على النوم دون غطاء يلف كل أنحاء جسدي وترك فتحة صغيرة أُخرج منها أنفي بحثاً عن ذلك النفس الذي يزيل ضيق التنفس الذي لا ينفك يصاحبني.

تجربة جعلت مجرد ذكر اسم أخوّي، أحمد وحسين المعتقلين منذ أكثر من عشر سنوات، يدفع خيالي لمحاكاة ما يمران به في معتقلات النظام السوري؛ أما صورة أيمن ابن أختي فقد وجدناها ضمن صور قيصر. أختي التي توفيت صبيحة عيد الأضحى بذات عام اعتقالهم كمداً وخزناً على أبنها قبل أن تعلم أنه لم يمتلك القدرة على النجاة أمام إجرام ممنهج يطبق على كل المعتقلين.

أشعر بجدران سجنهم الباردة بعدما حفظت كل تفاصيل زواياه. أعداد المعتقلين الكبيرة داخل الزنزانة تشعرني بضيق نفس ما فتئ يرافقني منذ قراءة القوقعة، مع علمي أن ذلك سيكون حال أحمد مع ضيق التنفس. إضافة إلى كرهه لملامسة جسده وهو نائم، سيجافيه النوم حتى يعتاد على ذلك الازدحام إن استطاع. لا تسعفني خيالاتي أن أتصور وضعه وقد تجاوز إحدى عشرة سنة في الاعتقال.

تزداد صعوبة ازدحام زنازين المعتقلين مع كثرة جولات التعذيب التي يتعرضون لها، في محاولة منهم لتأمين مكان أوسع من مساحة نصف بلاطة لمن عاد حياً. اعتادوا افتداء بعضهم إن أمكن في جولات التعذيب أو عقبها، وقد ذكر خلفية ذلك مراراً في قوقعته.

افتداء معتقل آخر بجولة تعذيب والخروج مكانه ذكرت في كل روايات أدب السجون التي قرأتها، أو التضحية بالراحة لتأمينها له. كلما مرت تلك الفكرة في أي رواية يتمثل لي أخي حسين، فطبعه الفداء والتضحية في سبيل كل من حوله. أكاد أجزم إن بقي حياً بعد عشر سنوات من اعتقاله سيكون تلقى تعذيباً عن جميع من معه.

تلك الأفكار وغيرها أحاول أن أحاكي تجربتها: ماذا يمكن أن أفعل لو كنت مكانهم؟ هل سأستطيع الصمود؟ وهل مازالوا صامدين بعد كل هذا الزمن؟

تقمص أدوار الضحايا في السجون أو تخيل أننا مكانهم يتسبب بأذية نفسية لنا قد لا تقل شدتها عن الأذية النفسية للشخص الذي تعرض للتعذيب، بحسب ما أخبرنا به الدكتور فؤاد الموسى، وهو طبيب نفسي سوري يقيم في تركيا، أثناء إحدى تدريبات الدعم النفسي التي خضعت لها.

حاولت مراراً الامتناع عن قراءة تلك الروايات أو حتى مشاهدة صور التعذيب والمقاطع المرئية التي تنتشر كل مدة، ومجزرة التضامن لم ولن تكون آخر ما أحاول عدم مشاهدته.

محاولة وضع أنفسنا بدل الضحية، وخاصة إذا كانت تربطنا بالضحية علاقة قوية “أب، أخ، قريب، حبيب، صديق”، تزيد من شدة الأثر النفسي الذي نعانيه وقد يستمر معنا بعد معاينة الحادثة أو العلم بها أشهر طويلة وربما سنوات، وقد تصل إلى مرحلة الحاجة إلى العلاج بالأدوية النفسية، بحسب الموسى.

تجاوز عدد المعتقلين في سجون النظام السوري منذ انطلاقة الثورة السورية حسب إحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان 135 ألفاً و638 شخصاً، بينهم 112 ألفاً و713 حالات اختفاء قسري، وهي تمثل 5 في المائة من إجمالي عدد السكان، وذلك حتى أغسطس/آب 2023. فيما يقدر آخرون العدد بأضعاف ذلك.

ويعايش ذوي المعتقلين مرارة الاعتقال رفقة من فقدوا جراء علمهم بأحوال المعتقلين التي لم تخفَ على أحد منذ حكم نظام الأب وما مرت به سوريا في ثمانينيات القرن الماضي.

هل سينجو ليروي لنا؟

بلغ أحمد الثلاثين من عمره يوم اعتقاله ولم يكن تزوج بعد، فهو لم يكن قد التأم جرح قلبه على حبيبته التي تزوجت قبل خمس سنوات من اعتقاله. كتب لها عشرات قصائد الغزل والشوق والعتب وحتى الهجاء، فالشعر هبة خص بها رغم تركه للدراسة في الصف التاسع رغم تفوقه بسبب أوضاع عائلتنا المادية.

“لم يفِ ما كتب عن السجون السورية حتى اليوم التجربة حقها، سجن آلاف ومر بتجربة السجن عشرات الآلاف، ولم تكتب أو تنشر غير بضعة كتب”، عبارة من كتاب “بالخلاص يا شباب 16 عاماً في السجون السورية” الصادر عام 2012 لـ ياسين حاج صالح.

ربما إن كُتِب الخلاص لهم سنقرأ ونشاهد ونسمع آلاف الروايات والقصص، رغم تشابهها ستكون كل واحدة منها فريدة من نوعها لأنها نتاج تجارب شخصية مختلفة، وأعتقد جازما إن كان أحمد حياً، فقد بدأ أقلها بوضع أفكاره لما سيكتب.

الخلاص – الذي تحدث عنه ياسين حاج صالح في “بالخلاص يا شباب” ويرفض أن يصنفه ضمن أدب السجون أو سيرة ذاتية أو بحثاً اجتماعياً، بالرغم من أن البعض يصر على تصنيفها ضمن أدب السجون – لا يكون إلا بعد أن يحاول النظام تحويل المعتقلين إلى مجرد حيوانات يروضها بأساليب تعذيب مبتكرة على مزاج الجلادين الذين يتحولون هم أنفسهم إلى حيوانات مفترسة؛ وقد ناقش ممدوح عدوان تلك “الحيوانية” الإنسانية في كتابه “حيونة الإنسان”.

أخفوا عنهن ما استطعتم

“ما عم تنزل بحلقي لقمة الأكل”، كم هي عدد المرات التي سمع جميعنا هذه العبارة من أمهاتنا مع غياب أي من أفراد العائلة. الأمهات هن أكثر المتأثرات بكل ما ينشر عن أحوال المعتقلين، ولابد أن معظمنا يخفي عنهن أي معلومة يصل إليها.

“يا أمي ما لقيت صور أخوانك، يا أمي ما لقيت اسم اخوانك، يا أمي…، يا أمي…”، هي ذات أسئلة المتكررة في كل محادثة فيديو عبر الواتسأب مع والدتي بعد افتراقي عنها منذ ما يقرب من عشر سنوات. لم ارها خلاها سوى مرات قليلة كانت آخرها منذ خمس سنوات. كثيراً ما أحمد الله أن والدتي لا تجيد القراءة، وإلا لكان ذلك سيصعب عليها تحمل تفاصيل ما يجري لأبنائها، وسيزيد علينا صعوبة إخفاء ما نقرأ عنها.

والدتي التي تكفلت بتربية طفلي حسين صفا وماهر لا تعلم ما يحدث للأطفال الذين يسجنون أو يولدون في السجن، وما أكثرهم، فقد ذكرت هبة الدباغ في “خمس دقائق وحسب، تسع سنوات في السجون السورية” الذي صدر عام 2005 عدة قصص عن أطفال اعتقلهم النظام السوري رفقة امهاتهم أو ولدوا في سجونه.

أولئك أطفال احتاجوا إلى إعادة تأهيل مع قرب الإفراج عنهم رفقة أمهاتهم وتعريفهم بأبسط ما يجب أن يعرفه الطفل من محيطه في الوضع العادي، في محاولة النظام السوري إخفاء إجرامه بحقهم وأن ما يحدث في السجون ليس كما يوصف من فظائع.

الإخفاء عن الأمهات ربما شابه، بشكل أو بآخر، ما فعله وائل الزهراوي ورفاقه في السجون عندما أخفوا جثث رفاقهم في الزنزانة للاحتفاظ بنصيبهم من الطعام علهم يكونون سبباً لنجاة آخرين منهم بنصيبهم من الطعام، “لهذا أخفينا الموتى” رواية الزهراوي الصادرة عام 2019، عنوانها شدني ولم أتوقع أن يكون ذلك هو السبب.

طلاق معتقلة

أغلبنا قد سمع عن خبر طلاق معتقلة بعيد الإفراج عنها منذ انطلاقة الثورة السورية، وليس لها ذنب إلا أنها اعتقلت. والحجة عند أولئك الأزواج “أنها قد تكون اغتصبت”، حسب ما أخبرني أحدهم، في حينها عرضت عليه قراءة إحدى روايات السجون ليعلم أن رجالاً في سجون النظام السوري يغتصبون أيضاً دون أن يكون لهم حول ولا قوة.

مفارقة عجيبة رأيناها كثيراً أن رجلاً خرج من السجن يحمل على الأكتاف بطلاً منتصرا، في حين يُستعرُ من امرأة خرجت من السجن فقط لشبهة أن تكون قد تعرضت للاغتصاب.

في زمن الاقتحامات في بداية الثورة كانت نساء كثر تنام بلباسها الكامل، ومنهن نساء عائلتي، بل كل نساء حينا في سبينة بريف دمشق، خوفاً من مفاجئة اقتحام عناصر النظام السوري المنازل والتي تكون غالباً بعد منتصف الليل.

ذكرت هبة الدباغ طريقة اعتقالها بعد منتصف الليل بتهمة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي، وكم تواجه الفتيات والنساء في المعتقلات من صعوبة في محاولة الحفاظ على خصوصيتهن بعيداً عن أعين وعبث عناصر الأمن في النظام السوري.

يحاول جل المعتقلين إخفاء جزء مما جرى معهم في السجون، وفضول من حولهم يزيد شعورهم بالغربة عقب الإفراج عنهم. أبو عمر من دمشق أفرج عنه عقب ثمان سنوات من الاعتقال. يرفض بشكل قاطع الإجابة عن أي سؤال فيما يخص اعتقاله.

مجرد سؤاله عن فترة الاعتقال يتلون وجهه ويتهرب من السؤال دون إجابة. لا ألوم فضول السائلين، فهم ربما يبحثون عن ضوء أمل بإمكانية نجاة من يحبون، إلا أنني قررت ألا أسال أحمد أو حسين عما جرى معهم.

“حيونة الإنسان” كتاب صدر عام 2003 يحاول فيه الكتاب ممدوح عدوان الرد على أسباب القسوة والعنف التي يرتكبها الإنسان وكيفية إنتاجها، مما يجعله بدوره “حيوانًا”، فيفقد إنسانيته بأكملها ويصبح بلا عاطفة. كما أشار الكتاب إلى أن العيش في بيئة يسودها القهر والاستبداد لا يصلح لحياة الإنسان ونموه.

ذلك النتاج من الحيونة بدا واضحاً في فيديو مجزرة التضامن وغيره من الفيديوهات التي تسربت. اضطررت لمشاهدته لتقارب فترة تصويره مع تاريخ اعتقال أخي حسين. لم أكن قادرا على تفحص الوجوه، لأن فترة إغماض عيني امتناع عن رؤية ما يحدث، مجرد سماع صوت الطلقات يوحي لك بأنك سوف تتلاقها أنت بدل الضحايا.

البحث عن عميل أو زوجة

قُرب الإفراج عن معتقل يفتح الباب واسعاً أمام ضباط النظام في بحثهم عن صنع عميل، مخبر، بمغريات تعتبر ساذجة بنظرنا، إلا أنها قد تمثل طوق نجاة لمعتقل. ولا أذكر أني قرأت في رواية عن موافقة معتقل على تلك المهمة، إلا أنهم لم يسلموا ممن يدخلهم النظام الزنازين عملاء أساساً.

عرض ضباط النظام وصف ضباطه الزواج على هبة الدباغ وعدد من رفيقات سجنها. مبررات العرض غير مقنعة لهن وسببها واضح: “العمالة والخيانة”. إلا أن رفض تلك العروض يزيد من نصيب إحداهن من التعذيب.

لا يمكنني تخيل أن معتقلاً، وحتى أخوي، يمكن أن يقبل تلك العروض الدنيئة من سجان فقد آخر ما يمكن أن يمتلكه إنسان من إنسانية. لا يمكن تصور كيف يمكن أن تضع إنساناً في مكان كنت فيه على شفير الموت. إلا أن قراءة تلك الروايات ومعرفة تفاصيل أساليب أولئك السجانين تفتح خيالي لما يمكن أن افعله بذلك السجان إن أمسكت به يوماً.

ربما في تلك اللحظة أكون قد فقدت إنسانيتي نحو الحيوانية الانتقامية. ولا أخفيكم أنه كثيراً ما خطر في بالي أمنية أن يكون أحمد وحسين قد توفيا منذ يوم اعتقالهما الأول، لئلا يعيشا تفاصيل كل ما قرأت، وأعود لأرى نفسي في موضع الحيوانية بسبب تلك الأفكار دون معرفة السبب.