تمتد حقول متنوعة من الخضار المزروعة بين أشجار الزيتون في المنطقة الهضبية بريف إدلب، بدء من أطمه مروراً بقاح وصلوة وصولاً إلى قرية تلعادة في الجنوب الشرقي، إذ انتشرت الزراعة “البينية” كما يطلق عليها، وباتت مشاهدة كيفما تنقلّت في هذا الامتداد الذي يخلو من السهول، وتزيد فيه المياه السطحية والآبار الجوفية، بالقرب منها أنشأ ملّاكها منظومات للطاقة الشمسية تضمن ضخ مياه الريّ لزراعة المحاصيل الصيفية.
تختلف مدة زراعة هذه المحاصيل وإنتاجها، وتصل لنحو أربعة أشهر في نبات الخيار، أكثر المحاصيل ربحاً وانتشاراً، إذ يصل ربح الدونم الواحد لنحو ألف دولار، بحسب حسين رحمه، مزارع في قرية صلوة شرقي قاح بريف إدلب، والذي قال إنه زرع دونمين من الخيار بين أشجار الزيتون هذا العام، وقدّر أرباحه بنحو ثلاثة آلاف دولار، علماً أن تكلفتها لم تتجاوز 700 دولار.
الربح واستغلال الأرض في مواسم متعددة، وقناعة المزارعين بجدوى هذه الزراعة المادية وفائدتها على شجرة الزيتون، بسبب الأسمدة وشبكات الري، أسهمت في انتشار هذه الزراعة، دون الوقوف على أضرارها واتباع إرشادات زراعية للحد من مخاطرها وما تسببه من مشكلات.
نزرع في هضبة
تندر السهول في المنطقة الهضبية التي حددنا مكانها سابقاً في التقرير، ويغلب على أراضيها شجر الزيتون المزروع بكثافة، ومع توفر مشاريع الري والطاقة الشمسية وجد الفّلاحون فرصة لزراعة المسافات بين الأشجار بالخضار، خاصة مع الجدوى الاقتصادية القليلة التي يجنونها من بيع الزيت الذي يخضع لقانون المعاومة (عام ينتج وعام لا ينتج) وارتفاع التكاليف وغلاء الأسعار.
يقول إبراهيم الجسري من مزارعي منطقة قاح ” ندرة السهول في أراضينا الجبلية ذات التربة السطحية، وقلة فرص العمل دفعتنا لزراعة الخضار في حقول الزيتون”، ساعد في ذلك “امتلاك أغلب المزارعين لمشاريع طاقة شمسية تؤمن الري بدون تكاليف موسمية، إذ تكثر آبار المياه السطحية والجوفية في المنطقة، ولا تكاد تخلو أرض من وجودها، سابقاً كانت تروى الحقول بالمياه بوساطة مضخات تعمل على الديزل، أما في السنوات الأخيرة، فتحول المزارعون إلى مشاريع الطاقة الشمسية التي تتراوح أسعارها بين 3 إلى 4 آلاف دولار، بحسب عدد الألواح”.
وتشكل ثمار الخيار والكوسا والبندورة والباذنجان والفاصولياء والقرع قوام الزراعة بين الأشجار، ويتصدر الخيار والكوسا القائمة لأسباب أرجعها أبو حسين رحمه، يملك حقل مزروعاً بالخيار في قرية صلوة، إلى “طول موسم قطاف الخيار الذي يمتد لنحو ثلاثة أشهر، ووفرة إنتاجه”، يقول “ينتج الدونم الواحد في القطفات الأولى نحو خمسين كيلو غراماً، ثم تتضاعف بشكل دوري، إذ وصل إنتاج الدونم في حقلي، بعد شهر ونصف الشهر من القطفة الأولى إلى نحو 400 كيلو غراماً”.
ويتفاوت الإنتاج والربح بين أرض وأخرى لأسباب عديدة، أهمها بحسب من تحدثنا معهم: جودة الأرض وطبيعة التربة وعدد المواسم التي استقبلتها الأرض ونوع الخضار المزروعة، كذلك تلعب كميات الإنتاج في القطفات الأولى دوراً هاماً في تحديد الربح، كونها تباع بأسعار مرتفعة، مقارنة بنهاية الموسم، إضافة للرعاية المقدمة ونوع الأسمدة والأدوية وكمياتها، إذ يقل الإنتاج في الأراضي المعتمدة على الأسمدة الكيماوية مقارنة بتلك المسمّدة عضوياً، كذلك أجور الأيدي العاملة والآليات الزراعية.
يشرح حسين رحمه مراحل عمليات الإنتاج في حقله، يقول إنه باع الخيار بسعر 27 ليرة تركي للكيلو غرام الواحد في القطفات الخمس الأولى، ثم باع الكيلو بسعر 20 ليرة في القطفات الخمس التي تلتها، ثم بسعر 10 ليرات لثلاث قطفات، ثم بسعر 5 ليرات، وبيع الآن بسعر ليرتين للكيلو غرام.
على عكس رحمه، لم يحقق أبو محمد الكردي أرباحاً تذكر من موسم الكوسا الذي زرعه في قرية صلوه، ويرجع ذلك للسعر القليل الذي يباع به الكوسا في العام الحالي، وقلة الإنتاج مقابل التكلفة، يقول “زرعت 12 دونماً من الكوسا بين أشجار الزيتون، التكلفة كانت مرتفعة، إذ احتجت لأربعة آلاف دولار ثمناً للسماد العضوي، إضافة للحراثة والري ورش المبيدات، وبلغ متوسط الإنتاج في القطفات الأولى، منذ نحو شهر ونصف الشهر، نحو 200 كيلو غراماً بيعت بنحو 25 ليرة تركية لكل كيلو غرام، أما اليوم فينتج الحقل نحو 450 كيلو غراماً تباع بليرتين فقط لكل كيلو غرام”.
الاعتماد على السماد الكيماوي واستثمار الأرض في مواسم متتالية، يقلل الإنتاج ويمكن أن يؤدي إلى الخسارة، بحسب ما يشرح محمد عبد الغفور مزارع في قرية تلعادة، والذي قدّر خسارته من الدونمات الست التي زرعها مناصفة بالخيار والكوسا، بنحو 700 دولاراً.
ويشرح عبد الغفور أن “السبب الأول هو (كسر الأرض)، أي فقدانها لموادها بسبب الزراعات السابقة المتتالية، فدونم الخيار في أرضي ينتج نحو 150 كيلو غراماً، في الوقت الذي يبلغ متوسط الإنتاج في الحقول المجاورة نحو 400 كيلو غراماً، إضافة لتراجع أسعار الخضار في المنطقة”.
يضيف محمد أسباباً أخرى لخسارته، يقول إنه يدفع نحو 25 دولاراً لكل دونم ثمناً للأسمدة الكيماوية، كما يدفع 80 دولاراً شهرياً، ثمن أدوية ومبيدات حشرية موزعة على أربع رشات شهرياً بتكلفة 20 دولاراً لكل منها، كذلك أجرة الآليات الزراعية مثل الجرار والسيارة.
ويعتمد أغلب زارعي الخضار بين أشجار الزيتون في التسميد على مخلفات الطيور، ويصل سعر المتر المكعب منها إلى 53 دولاراً، إذ إن لمخلفات الطيور فاعلية أكبر من مخلفات الحيوانات الأخرى، ولها خاصية سرعة العمل مثل الأسمدة الكيماوية لكنها تتفوق عليها بما تقدمه من تغذية للتربة والشتلات، بحسب من تحدثنا معهم من مزارعين.
بين الربح والخسارة، يرى علاء ضبة من قرية فدرة شمال شرقي قاح، في المواسم الخضارية” أسلوب تشغيل العوائل لأنفسها وآلياتها حتى لو دون تربح، لاسيما وأن فرص العمل نادرة”، يقول: “على سبيل المثال لو تساوت التكاليف مع الأرباح هناك قسم من التكاليف هو أجر الأيدي العاملة، و أغلب العمال من أصحاب الأراضي وكذلك الآليات، ما يعني أنهم شغلوا أنفسهم وآلياتهم وكسبوا فقط أجورهم وأجورها.
منفعة وأضرار
أغلب المزارعين الذين التقيناهم قالوا “إن الزراعات البينية مفيدة للزيتون، إذ تمنحه رياً دائم وتفيده بالأسمدة، وإن هذه الزراعات ضرورية بسبب طبيعة تربة حقول الزيتون الفقيرة في المنطقة”.
يؤيد غسان عبود، مهندس زراعي من أبناء المنطقة، فائدة الري والتسميد للزراعات البينية على التربة وشجر الزيتون، لكنه يشدد على ضرورة الري الموضعي بالتنقيط، للتقليل من احتمالية التعفن ونقل الأمراض، إذ تختلف جداول الري بين الخضار والزيتون، ففي الوقت الذي تحتاج فيه الأخيرة للري كل 15 أيام، تروى الخضار كل 5 أيام تقريباً، ما قد يسبب تغفناً في جذور الزيتون.
ويضيف العبود، إن الخطر الأكبر الناتج عن الزراعة البينية هو “احتمالية نقل أمراض فطرية لأشجار الزيتون، وخاصة مرض الذبول الوعائي الذي ينتقل عن طريق الجذور ويسد قنواتها، فتصاب بالتعفن ويعجز الجذر عن تغذية الكتلة الخضراء بالشجرة، فتصاب بموت بطيء أو طرفي يجعلها تموت خلال عامين، وهذا الضرر محصور بالعائلة الباذنجانية(البندورة والباذنجان)، إذ أن مرض الذبول مرض مشترك بينها وبين الزيتون، في حين أن العائلة القرعية(خيار، كوسا) تصاب بأمراض فيروسية لاتؤثر على الزيتون”.
ويقول أحمد عبد الغفور، مزارع من قرية تلعادة، إن 15 شجرة زيتون من أصل 30 شجرة في حقله،أصيبت بمرض الذبول الذي ذكره العبود، ما أدى إلى يباسها، وإنه ولم يكن يعرف أن سبب انتقال المرض هو زراعة الخضار، كذلك خسر المزارع علاء فدرة 5 أشجار بمرض الذبول، في حين أخبرنا مزارعون آخرون أنهم لاحظوا وجود فطريات على شجر الزيتون في حقولهم، وأنها استخدموا مبيدات فطرية للتقليل من أضرارها.
أضرار أخرى تحدث عنها العبود، تسببها الزراعة البينية، منها استهلاكها للمواد المغذية للتربة استهلاكاً كبيراً يترك آثاره على شجر الزيتون، كما تتسبب بقايا المحاصيل المتروكة في الحقل بعد قطافها ببؤر للأمراض الفطرية والبكتيرية والفيروسية.
لا يمانع العبود انتشار الزراعة بين أشجار الزيتون، مع اتباع إرشادات لتجنب أو التقليل من الأضرار، منها أن تزرع في الحقول التي تبتعد فيها خطوط الأشجار عن بعضها البعض 12 متراً، وأن تترك مسافة تتراوح بين 3 إلى 4 أمتار في مواجهة الشجرة دون زراعة وتجنب زراعات العائلة الباذنجانية، وضرورة الاعتماد في السقاية على الري بالتنقيط.
ضيق المساحات المتبقية وسيطرة قوات النظام على أغلب السهول في إدلب، دفعت كثر من الفلاحين إلى إيجاد حلول تعويضية عن مواسمهم الخسارة، حتى لو كان ذلك على حساب أشجارهم وتضرر حقولهم، ما يفرض ضرورة توعية المزارعين وتزويدهم بنشرات إرشادية لتطوير عملهم الزراعي بما يحقق الربح والوفرة.