تحوّل محمود الأحمد، 27 عاماً وأب لأربعة أطفال في مدينة إعزاز، إلى عاطل عن العمل منذ حدوث الزلزال في السادس من شباط الماضي، بعد توقف ورشة النجارة التي يعمل بها. يعتمد الأحمد على “الاستدانة” لتأمين قوت يوم عائلته، وكان سابقاً يتقاضى نحو 100 دولار شهرياً، تكفيه لشراء الأساسيات، على حسب قوله، ومع توقف عمله وكثير من أقرانه إثر الزلزال.
وبحسب فريق الاستجابة في سوريا، فإن أكثر من 13 ألف شخص فقدوا عملهم بسبب الزلزال، ولا توجد إحصائية دقيقة عن نسبة العاملين في القطاع الصناعي من النسبة المذكورة، كذلك توقفت مشاريع صناعية وأغلقت أبوابها، قدّرها من تحدثنا معهم بأكثر من 50%، في انتظار حلول لتعافي القطاع الصناعي.
ويمثّل ضعف القدرة الشرائية وإغلاق المعابر وارتفاع تكاليف الشحن والمواد الأولية وتراجع سعر الصّرف، أهم أسباب التأثر الاقتصادي في سوريا.
تراجع بعد التعافي
يتوقع البنك الدولي انكماشاً في إجمالي الناتج المحلي الحقيقي لسوريا بمقدار 2.3 نقطة مئوية في العام 2023 بسبب الزلزال، يضاف إلى انكماش سبق توقعه وقدره 3.2%، وازدياد في معدلات التضخم بنسب عالية، بسبب نقص السلع وزيادة تكاليف النقل.
ووفقاً لتقرير سريع قيّم الأضرار والاحتياجات الناتجة عن الزلزال في سوريا، فإن حجم الأضرار المادية بلغ 3.7 مليار دولار أمريكي، والخسائر بنحو 1.5 مليار دولار أمريكي.
ولم يكن القطاع الصناعي بأفضل أحواله قبل الزلزال، لكن دراسة لمركز عمران حول التعافي الاقتصادي أوردت وجود 5024 مشروعاً حتى النصف الأول من عام 2022، بزيادة 954 مشروعاً عن النصف الثاني من عام 2021، ما يعد موشراً على بداية تعاف اقتصادي.
يرى سعيد، صاحب ورشة لصناعة قوالب الحديد في مدينة دابق، أن العمل في الورش الصناعية كان يؤمن “معيشة” للسكان تغطي نفقات العمال وصاحب العمل والمصاريف التشغيلية، وبهامش ربح ضعيف.
تصنع ورشة سعيد، قبل الزلزال بمعدل وسطي، قالبي حديد لمعامل البلاستيك، ويتراوح ربح القالب بين 400 إلى 500 دولار، كانت تغطي نفقاته وأجور العمال الأربعة الذين يعملون في الورشة. منذ حدوث الزلزال قبل أكثر من ثلاثة أشهر ونصف الشهر، لم تصنع الورشة سوى قالب واحد، ما دفعه إلى التخلي عن عماله لعدم قدرته على تغطية أجورهم.
وعلى الرغم من أن الصناعة لا تمثل سوى 8% فقط من العمالة في الشمال السوري، وفق برنامج تقييم الاحتياجات الإنسانية في عام 2022، لكنها تشكّل نسبة هامة إذا ما قارناها بنسبة البطالة في المنطقة والتي قدّرها منسقو الاستجابة في نيسان الماضي بـ 87 % من السكان.
وتعتبر معامل وورش البطاريات السائلة وإصلاحها وتركيب الطاقة الشمسية وصيانة السيارات و الدراجات وصناعة الصابون والمنظفات وصناعة الألبان ومشتقاتها والفخار والموزاييك والالكترونيات، إضافة لورش النجارة والحدادة والأحذية والألبسة أهم القطاعات الصناعية المنتشرة في الشمال السوري، مع غياب للمعامل الحكومية بشكل كامل، وضعف في أعداد المعامل الخاصة الكبيرة، إذ يقدر إبراهيم دربالة، نائب رئيس المجلس المحلي ومدير المكتب التجاري في إعزاز، عدد المعامل الكبيرة بنحو 25 معملاً في إعزاز، و 50 معملاً في عموم مناطق الحكومة المؤقتة، يقتصر عملها على صناعة المواد الغذائية (البسكويت والبطاطا)، ومعامل المحارم الورقية وأنابيب الصرف الصحي والمنظفات والمشروبات الغازية.
واقتصرت أضرار هذه المعامل المباشرة في الزلزال على أضرار بسيطة، إذ يحتاج عدد قليل منها للترميم.
سوق التصريف أكبر التحديات
تشكّل السوق المحلية 85% من أسواق التصريف للمنتجات الصناعية في الشمال السوري، وتتوزع النسبة المتبقية على التصدير إلى مناطق شرق سوريا بنسبة 10%، مناطق النظام 2%، تركيا 4%، بحسب وحدة تنسيق الدعم في سوريا ACU.
وعزّز الزلزال من ضعف القدرة الشرائية، الهشة في الأصل، إذ رفع من نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 89.24%، وتحت خط الجوع لـ 39.64%، بحسب منسقو الاستجابة في سوريا.
يقول مصطفى طبشو، خريج كلية الاقتصاد وصاحب محل للألبسة ومكتب لبيع السيارات في إعزاز، إن “الحلقة مترابطة بين المستهلك والمنتج مع غياب الأسواق الخارجية للتصريف، وإن تراجع القوة الشرائية بعد الزلزال تراوح ما بين 50 إلى 75% على مختلف المنتجات، بحسب أولوياتها لدى السكان”.
ويضيف طبشو “حتى الملابس غدت من الأولويات، يلاحظ ذلك بعد الزلزال من موسم الأعياد على سبيل المثال، وزيادة البضائع مع قلّة المشترين أجبر محلّات على الإغلاق، خاصة أصحاب المحلات والورش الصغيرة، خاصة وأن ربح الورشات لا يتعدّى القروش”.
“جميعنا نأكل من رأس المال”، يقول طبشو ، ومن قرر إغلاق محله حصل على نصف رأس ماله ما يقتضي عدم قدرته على العودة من جديد للمنافسة.
تقول السيدة أم مصطفى، أم لثلاثة أطفال في مدينة عفرين، “تغيّرت أولويات الإنفاق بعد الزلزال، الحصول على مسكن آمن تصدّر هذه الأولويات، ثم الغذاء الأساسي، إذ غابت منتجات الألبان والأجبان واللحم عن قائمة الأولويات، كذلك الألبسة وأدوات المطبخ، وصولاً إلى تحسينات المنازل من النوافذ أو الستائر أو الدهان”.
تعمل منال وزوجها، نازحون من إدلب إلى مخيمات في أخترين بريف حلب، في صناعة منتجات الألبان والأجبان، وتقول إن تراجعاً كبيراً في الطلب حصل بعد الزلزال، إذ لم يتجاوز بيعها من الجبن في الموسم الرمضاني نسبة 30% عن العام الماضي، أما اليوم وهو موسم “الدبيركة=لبن مطبوخ يوضع كمؤن كبديل للبن في الشتاء”، فلم تتجاوز نسبة من طلبوا منها هذا المنتج سوى 20%.
محمد حاج سعيد، مدير معمل أنابيب الصرف الصحي البلاستيكية في إعزاز، قال إن المعمل، رغم عدم تضرره المباشر، توقف عن الإنتاج منذ حدوث الزلزال، ولمدة ثلاثة أشهر، لغياب الطلب على شراء الأنابيب، ما حوّل خمسين عاملاً إلى عاطلين عن العمل تكفل المعمل بدفع نصف أجرتهم الشهرية، ومنذ أسبوعين عاد المعمل إلى إنتاجه.
معرفة الأولويات في سوق التصريف، يمكن ملاحظته من النسب المئوية لعدد المشاريع في الشمال السوري، إذ تمثل صناعة الألبان ومشتقاتها 24% من المشاريع الصناعية في الشمال السوري، تليها مواد البناء والمواد الغذائية بنسبة 19% لكل منهما، 11% معاصر الزيتون، 8% تصنيع الأبواب والنوافذ، 7% مواد التنظيف، 4% تصنيع الألبسة، 3% صناعة البيرين، 2% لكل من الأحذية والمفروشات والمدافئ ومستلزماتها، 1% لصناعة البلاستيك وإعادة تدوير الحديد، بحسب دراسة وحدة تنسيق الدعم.
النسب أعلاه توضح أن معظم الصناعات الموجودة في الشمال السوري استهلاكية، ما يفرض الاعتماد على السوق المحلي في تصريفها، وهو ما ترك آثاره السلبية على نجاحها، خاصة مع القدرة الشرائية الضعيفة، وعدم اعتماد المنظمات الإنسانية على المنتجات المحلية في تلبيتها للاستجابات الإنسانية، وارتفاع أسعار المواد الأولية لجزء من هذه الصناعات.
المواد الأولية.. دولار ومعابر مغلقة
يمثل الاستيراد، سواء من تركيا (مباشر أو ترانزيت) أو مناطق النظام وقوات سوريا الديمقراطية، المصدر الأكبر للمواد الأولية التي تحتاجها الصناعات.
تؤمن الأسواق المحلية 41% من المواد الأولية، بينما تشكل تركيا نسبة 31% من مصدرها، تليها قوات سوريا الديمقراطية (مباشر أو ترانزيت) بـ 21%، ومناطق النظام بـ 6%، بحسب وحدة تنسيق الدعم التي أوردت أن 91% من هذه المواد تشترى بالدولار، بينما 9% تدفع بالليرة التركية.
“صناعة الأحذية والألبسة والألومنيوم والخشب والمفروشات ومواد التنظيف والمواد الغذائية والبلاستيك والمدافئ” وبالترتيب ذاته، هي أكثر الصناعات التي يستورد أصحابها المواد الأولية من خارج الأسواق المحلية.
ومع الزلزال، تراجع سعر صرف الليرة التركية، العملة المتداولة في الشمال السوري، من 18.8 ليرة لكل دولار، إلى 19.97 بسعر صرف اليوم، متجاوزاً أحياناً بين هذه الفترة حاجز الـ 20 ليرة.
كذلك توقف المعابر الحدودية عن توريد البضائع، ومع عودتها، ونتيجة تداعيات الزلزال في تركيا، صاحبة الحصة الأكبر من الأضرار، زادت أسعار المواد الأولية ومواد البناء، وقلّت الكميات المورّدة، وارتفعت أسعار الشحن والنقل، وزاد الطلب على مواد بعينها استجابة للأضرار في تركيا ذاتها.
الأمر ذاته انعكس على مناطق التوريد الأخرى، إذ أغلقت المعابر مع قوات سوريا الديمقراطية، كذلك مناطق النظام السوري.
يقول إبراهيم دربالة، نائب رئيس المجلس المحلي ومدير المكتب التجاري في إعزاز، إن ارتفاعاً في الأسعار طرأ على معظم المنتجات بسبب “توقف حركة النقل والمواصلات التركية وتوقف المعامل والمستودعات الموردة في تركيا”.
ويقول خالد حبوش، صاحب محل ألبسة في إعزاز، إن أسعار الألبسة ارتفع بنحو 3 دولارات للقطعة الواحدة، لصعوبة تأمينها من الداخل التركي.
ويضيف حبوش أن فرق التصريف مشكلة كبيرة، لأن تجار المنطقة يبيعون بالليرة التركية ويشترون بالدولار، فغالباً وفي نهاية كل يوم يكون البائع خاسراً، خاصة وأن عدد المشترين قلّ بنسبة كبيرة.
مصطفى طبشو قال إن إغلاق المعابر تسبب بالخسارة الأكبر في قطاع صناعة الألبسة، إذ أن معظم الورشات كان تصدّر منتجاتها إلى العراق وليبيا، ومع توقف المعابر أجبرت الورش على إغلاق أبوابها، لعدم استيعاب السوق المحلي للمنتجات من جهة، ولإغراق الأسواق بالبضائع التركية من جهة أخرى.
مواد البناء هي الأخرى ارتفعت أسعارها، إذ زاد سعر الحديد بنحو 30% في الأشهر التي تلت الزلزال، وارتفع من 600 إلى 900 دولار للطن الواحد، بحسب عبد الرؤوف مرشد، صاحب محل لبيع مواد البناء في إعزاز.
المحروقات وأهمها المازوت ارتفعت أسعاره من 12.8 في الخامس من شباط إلى 13.6 في 28 أيار، للمازوت المحسن، ومن 20.6 إلى 22.2 للمازوت الأوروبي. كذلك ارتفعت أسعار الكهرباء بين صعود وهبوط لتستقر في نيسان عند 3.2 ليرة تركية للمنزلي، والتجاري بـ 4 ليرات تركية.
يتوقع البنك الدولي أن يرتفع التضخم في سوريا إلى 60%، عنه قبل الزلزال والذي بلغ 44%، ويمثل انخفاض السلع المتاحة وزيادة تكاليف النقل وارتفاع الطلب الإجمالي أهم أسباب هذا التضخم.
وتبرز صعوبات جمّة في استعادة القطاع الاقتصادي لعافيته في المنطقة قبل الزلزال، والتي زادت بعد حدوثه ما لم تتخذ إجراءات واضحة للحد من تداعياته بما يضمن زيادة عدد المشاريع ما يخلق فرص عمل جديدة، وتحقيق شيء من الاكتفاء الذاتي، والدورة الصناعية الكاملة، مع فتح أسواق لتصريف المنتجات، والأهم من ذلك تحسين الواقع الحياتي للسكان بما يرفع من قدرتهم الشرائية.
ويشكل ارتفاع تكاليف الشحن أهم صعوبات القطاع الصناعي، إذ قدرتها وحدة تنسيق الدعم، بـ 10%، تلاها ارتفاع المحروقات وأسعار العملة المحلية والكهرباء بنسبة 9% لكل منها، و إغلاق المعابر مع النظام ودول الجوار وغياب أسواق تصريف المواد بنسبة 8%لكل منها، إغلاق المعابر مع قوات سوريا الديمقراطية وفقدان المواد الأولية من الأسواق 7%، الحصول على قطع التبديل 6%، منافسة المنتجات الخارجية والصعوبة في إجراء عمليات الصيانة للمعامل 5%، الإتاوات والرشى الأوضاع الأمنية السيئة 4% لكل منهما، إضافة ل 2% للقصف الذي يطال المعامل والمنشآت.
النسب أعلاه كانت قبل الزلزال، ومع حدوثه ارتفعت هذه المصاعب وتوقف ورش ومعامل وزادت نسبة البطالة، إضافة لتراجع كثر من الأشخاص عن افتتاح ورشات ومعامل في المنطقة، نتيجة الخوف والمصير المجهول وغياب الاستجابة الدولية وتأرجح سعر الصرف، إذ يعتمد 86% من أصحاب المنشآت والورش الصناعية على ذاتهم في التمويل، بينما تتوزع النسبة المتبقية على دعم خارجي.
لم تكن أرياف حلب، قبل الثورة السورية، مكاناً صناعياً، إذ يعتمد معظم السكان على الزراعة أو مهن يدوية أخرى، إضافة للموظفين في القطاعات الحكومية، لكن ومع زيادة عدد السكان، من الوافدين إليها والمهجرين قسرياً، إذ وصل عدد سكانها لنحو مليوني شخص، بات لزاماً التفكير في مشاريع صناعية، بمختلف أنواعها، الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، ودعم هذه المشاريع دولياً لزيادة فرص العمل وتحقيق استدامة للسكان، خاصة مع ما عرّاه الزلزال من هشاشة الواقع المعيشي للسكان في المنطقة.