مايزال مزارعون في حوض العاصي يواجهون صعوبة في إصلاح أراضيهم المتضررة إثر الزلزال الذي ضرب شمال سوريا وجنوب تركيا في السادس من شباط (فبراير) الماضي، إذ تعرضت مساحات واسعة من الأراضي لتشققات وهبوط في طبقات تربتها، ما أضر بالأرض الزراعية والمحاصيل الشجرية، كما غُمِرت محاصيل زراعية بمياه العاصي، ودمرت محطات ريّ أساسية في المنطقة المتضررة.
تركزت الأضرار في حوض العاصي وتحديداً في منطقة حارم ودركوش، وكانت أكثر القرى تضرراً، قرية العلاني في منطقة حارم، دلبيا, المشرفية, التلول, جكارة، الحمزية والحمرا في ناحية سلقين التابعة لمنطقة حارم، إضافة لقرى “الزنبقي والحفرية والجسر المكسور” بريف دركوش.
خسر المزارع أبو دياب الزوري، أحد سكان قرية المشرفية غربي سلقين، نحو 40 % من بستانه البالغ مساحته 10 دونمات، والذي يحوي أشجار الرمان والخوخ والدراق، كما يروي لنا، إذ أن أرضه والأراضي المجاورة لها أصيبت بتشققات وتصدعات كبيرة.
يقول أبو دياب: “نتيجة ذلك تكسرت بعض الأشجار ويبست، أخرى تعرت جذورها وستصاب مع الوقت باليباس، كما أن الوصول إليها بات صعباً، بأي آلية ممكنة، بعد انجراف طريقها الترابي إلى نهر العاصي، كما أن طبيعة الأرض تغيّرت وأصبحت “معجرفة” تمنع الحراثة والريّ”.
وأضاف: “خسائري لا تقارن بخسائر مزارعي قريتنا، إذ أن قسماً منهم خسر أرضه بالكامل، وهو ما سيشكل عبئاً كبيراً على السكان، كون الزراعة هي مصدر العيش الأساسي لسكان المنطقة”.
لم تكن أرض المزارع جمعة الناعس من قرية العلاني، والتي كانت مليئة بأشجار الخوخ والرمان، وتبلغ مساحتها حوالي 7 دونمات، أفضل حالاً، إذ تضررت بنسبة 40%، والأشجار بنسبة 70%، حسب قوله.
يرجع جمعة ازدياد الضرر الذي أصاب الأشجار إلى انهيارات في التربة التي وقعت على طرف النهر، إذ كونت رواسب في قاعه، ما أدى إلى ارتفاع منسوب المياه بشكل ملحوظ، وأصبحت المياه تغمر الأشجار، ثم تنحسر عنها، بشكل متكرر منذ حادثة الزلزال، ما تسبب بتلفها.
قدَّرت وزارة الزراعة في حكومة الإنقاذ، الأراضي المتضررة بالزلزال بنحو 22000 دونماً، إذ أن التصدعات تركزت في سرير النهر حتى 400 متر منه، وفيها تضررت بساتين الأشجار واقتلعت أعداد منها، أو غُمرت بالمياه، وبعد الانهيارات الترابية والتصدعات أصبحت الأراضي بحاجة لإنشاء مساطب ترابية، ليتمكن المزارعون من متابعة حراثة أراضيهم، وذلك بحسب معاون وزير الزراعة في حكومة الإنقاذ أحمد الكوان.
الأضرار شملت المحاصيل الشتوية
تحطم سد التلول الترابي في الزلزال وغمرت مياهه مساحات واسعة من أراضي قرية التلول غربي سلقين، ما أدى لتلف أكثر من نصف المحاصيل الزراعية الشتوية في القرية مثل القمح والشعير والفول والبازلاء والجلبان.
وبلغت مساحة المحاصيل الشتوية التي تلفت بغمر مياه السد نحو 3000 دونم من أصل 5000 دونم مزروعة في القرية، تعرضت جميعها للتلف وخسر المزارعون كامل تكاليفها، وذلك بحسب المزارع عطية الجاسم من سكان قرية التلول.
يقول الجاسم لـ “فوكس حلب”: “كان لدي حقل فول مساحته 10 دونمات، غمر كله وكان قد كلفني نحو 700 دولار، خسرت موسمه والتكاليف التي صرفتها عليه، وبعض المزارعين كانت خسائرهم أكبر من خسارتي”.
المأساة نفسها لحقت بحقل المزارع عبد الرحمن الجاسم، في قرية التلول، والذي تبلغ مساحته 20 دونماً، إذ بلغت تكلفة زراعة الحقل، قبل الزلزال، نحو 1000 دولار، غمرته مياه السد أيضاً وتلف بالكامل.
على خلاف ما يظهر من اسمه، لكن سدّ التلول لا يعتبر سدّاً، إنما هو عبارة عن ساتر ترابي مستقيم على طرف النهر من جهة القرية، يبلغ عرضه 3 أمتار، وارتفاعه 3 أمتار، وامتداده على طول امتداد النهر، قرب القرية، ولا يعترض النهر مثل السدود الآخرى.
أَنشأ سكان القرية السدّ “أو الساتر الترابي” بالتعاون مع وزارة الري والزراعة قبل الثورة السورية بسنوات عدة، بهدف حماية القرية من فيضان النهر أثناء ارتفاع منسوب المياه في فصل الشتاء، وتتشكل خلفه شبه بحيرة، نتيجة لعدم بنائه بمحاذاة تعرجات النهر.
انهار قسم من الساتر الترابي بعد حدوث الزلزال، ما أحدث فجوة في جداره بطول 4 أمتار تسببت بغمر أغلب محاصيل قرية التلول، وفي وقت لاحق عمل فريق الدفاع المدني، بالتعاون مع الحكومة التي مدته بالآليات على سد الفتحة بركام مباني الزلزال، وأعيد ترميم الساتر، كما أوضح لنا أهالي القرية.
تربة رملية منبثقة من باطن الأرض
ظهرت تربة رملية غريبة، على شكل بقع، في بعض بساتين قرية التلول، انبثقت من باطن الأرض بعد حدوث الزلزال، وأدَّت لموت النباتات التي وصلت إليها، وبحسب الخبير الجيولوجي ثابت كسحة فـ “إن التربة الغريبة قد تكون رمال كوارتزية (أي طحين صخري) ويجب فحصها للتأكد، وفي حال ثبت أنها كذلك، ستكون الأرض غير صالحة للزراعة نهائياً، وينبغي على المزارع استبدال تربة أرضه بشكل كامل لاستصلاحها، فالتربة الكوارتزية تفكك التربة وتفسدها”.
ويرى ثابت أن هذه التربة ليست بركانية، كما يصفها أهل المنطقة، بل هي تربة قذفتها الأرض من أعماق تتراوح بين 200 إلى 300 متر، من الفوالق التي حدثت في قرية التلول، كما علينا أن نميز بين الفوالق والانهيارات، فـ الفالق هو انزياح بالأرض، كتلتان تتباعدان عن بعضهما البعض، واحدة تنخفض للأسفل، وأخرى تبقى في مكانها، البعد بينهما يسمى “رمية فالقية”. أما الانهيارات فهي عبارة عن انهيار أو انزلاق تربة سطحية غير متماسكة، مثل التربة الطينية في حوض العاصي، حسب تعبيره.
يرجع ثابت الانهيارات الترابية والفوالق لطبيعة تربة المنطقة التي تتمثل بـ “الطين الجيري”، إذ يبلغ عمقها من 200 لـ 300 متر، بحسب دراسات عديدة أجراها لحفر آبار بالمنطقة، إضافة لقرب المياه السطحية التي توجد نزازاتها بعمق 30 متراً فقط، ونتيجة اجتماع التربة الطينية مع المياه السطحية، حدثت تلك الانهيارات.
يتفق المهندس الزراعي غسان عبود مع ثابت كسحة على ضرورة فحص التربة، يقول لـ “فوكس حلب”: “الجيد في الأمر أن هذه التربة لم تظهر بكميات كبيرة بالمنطقة، ومساحاتها كانت محدودة، وفي حال قمنا بفحصها وتبين تفككها، ننصح المزارعين بإضافة أسمدة بلدية ومحسنات للتربة من أجل حل المشكلة، لاسيما وأن هذه التربة كانت عبارة عن بقع في أماكن ظهورها”.
عقبات تواجه إصلاح الأراضي
يعجز أغلب الفلاحين، منذ حدوث الزلزال حتى الوقت الحالي، عن حرث أو سقاية أشجارهم بسبب تشوه البساتين، إذ إن تسوية الأرض بـ”تركسات” لا يعتبر حلاً، وسيقضي على الأشجار السليمة في أي حقل ويفسد الأرض تماماً، خاصة أن المساحات المتضررة انخفضت عن بعضها البعض بضعة أمتار، ويحتاج الحقل المتضرر لعملية “تتريب” جديدة (نقل تربة جديدة للبستان) وهذه عملية مكلفة، بحسب ما أخبرنا الفلاحون.
أحضر أبو دياب حفاراً خاصاً (باكر) واستحدث طريقاً جديداً لأرضه بطول 90 متر، وبتكلفة وصلت إلى 400 دولار، كما روى لنا، ولم يصلح كامل حقله، إذ أن إصلاح الأراضي بطريقة خاطئة أو غير مدروسة سيقتل باقي الأشجار.
يقول أبو دياب: “في حال تم تسوية الأرض بالكامل، لن نخسر الأشجار فقط، بل ستصبح الأرض منخفضة عن منسوب مياه العاصي، وسيجعلها معرضة للغمر في فصل الشتاء، لذلك الحل الأنسب هو التتريب فقط، لكن حتى هذه العملية مكلفة، إذ قد تساوي تكلفة تتريب أرض ثمنها بالكامل، وهذا ما يفسر امتناع الكثير من المزارعين عن حرث أو ريّ أراضيهم حتى الآن”.
بدوره، قام محمد المحمد، أحد مزارعي قرية المشرفية، بعملية تتريب أرضه، إذ تعرضت إثر الزلزال لصدع بطول 90 متراً وعرض 6 أمتار وبعمق يتراوح ما بين متر ونصف المتر ومترين، مع صدعين فرعيين صغيرين بطول 20 متراً، وتقدر مساحة الصدوع بنحو دونم واحد.
يقول محمد: “احتاجت عملية التتريب 280 نقلة تراب، بتكلفة 2500 دولار، لكني لم استطع إصلاحها بالكامل، وتوقفت عن إكمال التصليح بسبب عدم قدرتي المادية”.
الوضع نفسه في قرية الزنبقي بدركوش، فالضرر الكبير انحصر في مساحة 8 دونم، وتركز في المنطقة المحاذية لطرف العاصي، كما يروي لنا المزارع كرم زريق، إذ إن الأرض انخفضت من متر إلى مترين ونصف المتر، وتحول شكل الأرض إلى طبقات شبيهة بالمدّرج، وأصبح لدينا مجرى مياه بالأرض في فصل الشتاء لكنها جفت في الوقت الحالي إلى جانب الأشجار التي اقتلعت، والآن لا يمكن حراثة الأرض أو ريِّها، وتحتاج لإصلاح ضروري ومكلف”.
يناشد الأهالي بضرورة تدخل المنظمات أو جهات داعمة تساعدهم على إصلاح أراضيهم بالطريقة الصحيحة، ولمنع خسارة مواسم الأشجار المثمرة في المنطقة، فالأحوال المادية للمزارعين لا تسمح بدفع ثمن أرضهم من جديد، خصوصاً أن الزلزال وأضراره أتلف كميات كبيرة من المواسم.
مشكلة الريّ بعد غرق أو تحطم مضخات المياه
قبل الزلزال كانت تنتشر على ضفاف نهر العاصي الكثير من مضخات المياه الفردية، لكن أغلبها غرق في المياه إثر انزلاقات التربة على أطراف النهر، إضافة إلى تحطم الخزانات البيتونية وسواقيها المستخدمة في تجميع المياه قبل ضخها.
كما دمر الزلزال محطتي ريّ عامتين في قرية التلول، كانت تحتوي كل محطة منهما على ثلاث مضخات، أنشأتها الجمعية الفلاحية في القرية سابقاً وكان الأهالي يعملون على تشغيلها على حسابهم الشخصي، وكانت تروي المحطتان نحو 5000 دونم، وبحسب مزارعي القرية، تم إصلاح مضخة في كل محطة، بمساعدة الدفاع المدني ووزارة الزراعة بإدلب، لتسيير أمور الريّ قدر المستطاع.
يتأخر العديد من المزارعين عن ريّ بساتينهم بسبب فقدان أو تعطيل المضخات الفردية، وعجرفة الأرض قبل إصلاحها، وعدم إمكانية وصول الآليات أيضاً لبعض المساحات، ما يزيد من يباس الأشجار المتضررة في المنطقة يوماً بعد يوم، ويواجه المزارعون واقعاً مأساوياً، كما وصفه بعضهم، منتظرين دعمهم وإغاثة حقولهم وإصلاحها.