تنشط زراعة المحاصيل العطرية خلال السنوات الأربع الماضية في الشمال السوري وتدخل إليها في كل عام زراعات جديدة، كان أهمها العصفر في الموسم الحالي، إذ اتخذ له مكاناً في الدورة الزراعية وافداً مع مزارعيه النازحين من أرياف حماه وإدلب الجنوبي.
وتعدّ الجدوى الاقتصادية الفيصل في خيار المزارعين لاختيار مواسمهم، وهو ما تسبب في سنوات سابقة بزيادة زراعة محاصيل على حساب أخرى مثل الكمون واليانسون والحبة السوداء، وتراجع لزراعة محاصيل استراتيجية مثل القمح والشعير.
العصفر نبات بدون مخلّفات
خلافاً لغيره من المواسم الزراعية، يستفاد من أجزاء نبات العصفر بشكل كامل، البتلات والبذور والأوراق، وهو ما دفع مزارعون كثر في المنطقة لزراعته، غير المألوفة في أرياف إدلب الشمالية.
يقول علي حاج مصطفى، مزارع في ريف إدلب الشمالي، إنه وبعد جني الوبر (البتلات)، يتم قطاف الجوز وهو الجزء الذي يضم البذور، ثم تؤجر الأراضي لأصحاب المواشي للرعي، إذ يعتبر ورق العصفر علفاً “جيداً” للأغنام والأبقار، كما تستخدم أعواده كحطب للمواقد بعد يباسها.
ومن حيث الأهمية، تأتي البتلات في المقام الأول، إذ تستخدم كملونات طبيعية وبهارات للأطعمة، كما تستعمل كمواد صباغية للألبسة، تليها البذور التي تستخدم في التغذية الحيوانية، خاصة للطيور الداجنة، لما تحويه من البروتين الخام والكربوهيدرات، ويستخدم عصير البذور (الزيت الناتج عنها) للاستهلاك البشري، كذلك في مواد الدهان.
ويضيف الحاج مصطفى أن مساحات واسعة زرعت بالعصفر في العام الحالي، خاصة مع فتح طرق لتصديره وبيعه بالدولار، إلى تركيا والعراق، تجنباً لتغيرات الأسعار، إذ اقتصرت زراعته في السابق على مساحات محددة للمؤن والسوق الداخلي. ويصدّر العصفر لاستخدامه كبهارات للأطعمة وسواغات في معامل الأدوية.
وصل سعر طن بتلات العصفر، بحسب عبد الله السليمان، مزارع من ريف حماه، في العام الماضي إلى 13 ألف دولار، بينما وصل سعر طن البذار إلى 400 دولار، وتراوحت أسعار إيجار الدونم من الأرض لأصحاب الماشية بين 50 إلى 100 دولار.
زراعة وافدة.. هل تنجح
ارتفاع أسعار العصفر في العام الماضي دفع مزارعون خاصة من مهجري ريف حماه، أصحاب الخبرة السابقة بهذه الزراعة، إلى استئجار هكتارات من أصحابها لزراعة العصفر.
والعصفر نبات شوكي من المحاصيل العطرية ويمكن زراعته في مختلف الأراضي الخصبة و متوسطة الخصوبة، يتحمل درجات الحرارة المنخفضة وينمو بشكل جيد في المناطق ذات الجو المعتدل والمائل للبرودة، ويمكن زراعته بعلاً ولا يحتاج في حالة الري لكميات كبيرة من المياه.
ويزرع في سوريا في عروتين، شتوية تبدأ في منتصف شهر تشرين الثاني وحتى نهاية كانون الأول، وصيفية مبكرة تبدأ في منتصف شباط وحتى نهاية شهر نيسان.
المهندس الزراعي أسامة محمد قال إن زراعة العصفر ناشئة في ريف إدلب الشمالي والغربي، إذ تحتاج لتربة باردة تحتفظ بالمياه ولذلك كانت سابقاً تزرع في أرياف محافظة حماه.
ويشرح عبد الله السليمان، الفرق بين أراضي إدلب وحماه بما يخص زراعة العصفر، يقول “إن أراضي إدلب لا تحتفظ بمياه الأمطار ومع انتهاء فصل الشتاء تعطش الأرض وتبدأ بالتشقق ما يؤثر على زراعة العصفر، خلافاً عن حماة فالمناخ أبرد والأراضي تحتفظ بكميات من المياه لفترة أطول”.
يتغلب المزارعون على ذلك بري محصول العصفر إذ تحتاج الأراضي لريّة أو ريتين خلال شهر نيسان، ما يزيد من التكلفة، بحسب السليمان.
ويقدر السليمان تكلفة زراعة الدونم الواحد بنحو 200 دولار في حال كانت الأرض مستأجرة، ويقول إنه وبرغم ارتفاع التكلفة يبقى محصول العصفر مجدياً من الناحية الاقتصادية بسبب ارتفاع ثمنه.
وتحتاج زراعة العصفر إلى اختيار بذار جيد خال من الإصابات المرضية والحشرية والكسر وإعداد الأرض من خلال “حراثتها حراثتين عميقتين، وإضافة السماد الفوسفاتي نحو 25 كيلوغراماً للدونم، وبذارها بمعدل 20 نبتة في المتر المربع” كما يحتاج العصفر بعد نباته نحو 15سم إلى التفريد، وعزقة واحدة (القضاء على الأعشاب الضارة)، والتسميد مرة أخرى بالسماد الفوسفاتي (12 كيلو غراماً للدونم) والبوتاسي (6 كيلوغرامات للدونم)، يضاف إليها 4 كيلو غرامات للدونم الواحد من السماد الآزوتي في بداية التفرع.
ويتراوح إيجار دونم الأرض بين 50 إلى 150 دولاراً بحسب من التقيناهم من مستأجرين في العام الحالي، يحدّد ذلك نوع التربة وتوفر المياه، إضافة لقربها من خط التماس.
أما القطاف فيكون يدوياً، ويتقاضى عامل مياومة العصفر دولاراً واحداً عن كل كيلو غرام يقطفه من العصفر الأخضر، ويتراوح إنتاج العامل ذي الخبرة نحو 2 كيلو غرام خلال خمس ساعات من العمل.
ينتج الدونم الواحد نحو 75 كيلو غراماً من بتلات العصفر الأخضر وسطياً، وتعطي كل ثلاثة كيلو غرامات منه كيلو غراماً من بتلات العصفر اليابس الذي يباع بنحو 13 دولاراً.
الأرقام السابقة تظهر جدوى زراعة العصفر، إذ يحصل المزارع المستأجر على ضعف التكلفة على الأقل، خاصة بإضافة أسعار البذار المباع للحيوانات وتأجير الأرض لأصحاب الماشية، أيضاً استغلال الأرض في زراعات صيفية أخرى، كذلك يحصل صاحب الأرض على إيجار يصفه من تحدثنا معهم بـ “الجيد”، مقارنة بمواسم زراعتهم لأرضهم في السابق من مواسم أخرى، ويؤمن فرصة عمل لأشخاص كثر في المنطقة إذ يحتاج الدونم الواحد لنحو عشرين عاملاً.
يقول أبو صطيف، يملك 4 دونمات في قرية الجينة بريف إدلب، أجّر ها لأحد مزارعي العصفر من مدينة حماه بمبلغ 400 دولار، إن الجدوى الاقتصادية كانت أكبر من زراعتها بالقمح والشعير سابقاً، إذ تعرض للخسارة في السنوات الماضية وكان المحصول لا يغطي التكلفة.
أبو صادق، يملك 4 هكتارات، بين الأتارب وكفر نوران بريف حلب الغربي، مجهّزة ببئر ومعدّات زراعية للسقاية، قال إنه تقاضى، في العام السابق، 140 دولاراً عن كل دونم من أرضه بعد تأجيرها لأحد مزارعي العصفر في حماة، وإن الأخير قام بزراعتها موسمين: شتوي وصيفي، مقسّماً الأرض بين زراعة هكتارين من العصفر وهكتار من الجلبان و هكتار من القمح، وفي الصيف زرعها بالذرة والخضراوات.
يقول أبو صادق إن ما حصل عليه من مبلغ كان أكثر جدوى من زراعته للأرض بنفسه، وبالمحاصيل التي كان يزرعها من قمح وشعير وبعض الخضراوات، خاصة وأنه لا يجيد العمل بهذه الطريقة ما دفعه لتأجيرها في العام الحالي بـ 150 دولاراً للدونم الواحد.
لكن هذه الجدوى تصطدم بمشكلات في تربة الأرض الزراعية ما يقلل من خصوبتها في أعوام لاحقة.
العصفر يرهق التربة الزراعية
يعتبر العصفر من المحاصيل العطرية والزيتية، وهي محاصيل “مجهدة للتربة”، بحسب المهندس الزراعي أسامة محمد، إذ يسحب نبات العصفر نسبة عالية من الفوسفور في التربة، وهو ما يستدعي تطبيق دورة زراعية بعد زراعته.
ولا يستطيع صاحب الأرض، بحسب المزارع عبد الله السليمان، زراعة العصفر مرة أخرى لأربع سنوات لاحقة، وفي حال زراعتها ينخفض إنتاجها السنوي وتتعرض النباتات للتقزم أو عدم الإثمار أو أمراض للنباتات، وذلك بسبب استنزاف المادة العضوية وبعض عناصر التربة التي تحتاج للتعويض عبر زراعة الحقول بمواسم مختلفة منها البقوليات لتعويض عنصر الآزوت، كذلك الحبوب مثل القمح والشعير لترييح الأرض، كذلك تسميد الأرض بالأسمدة العضوية والكيماوية، وضمان عودة العناصر الأساسية للتربة .
بقاء طرق التصدير مفتوحة أهم ما يشغل مزارعو العصفر لضمان ربحهم بعد التكلفة العالية التي دفعوها، وكغيره من المحاصيل العطرية المرهقة للتربة يقضم مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية التي نقصت فيها الزراعات الأخرى مثل القمح والبقوليات والخضراوات، وذلك بسبب ما تتركه من خسارة ومشكلات تكررت في كل عام، دون دعم من قبل الجهات الحكومية أو المنظمات الزراعية العالمية، تاركة المزارعين للبحث عن ما يعيلهم حتى وإن كان على حساب أرض ستفقد عناصرها الغذائية وتتحول إلى تربة غير خصبة بمرور الوقت.