لو قُدِّر لي لقاء أمي، بعد 12 عاماً من الشوق، سيكون لقائي بها مختلفاً، لن أفكر بهدية لـ عيد الأم أحملها معي؛ فهي دائماً تقول لي: “يا أمّي جيتكن لعندي أحلى هدية”. واليوم أيقنت أن تحقيق هذه العبارة هو جُلَّ ما تتمناه أمي. أتخيل نفسي دائماً أمشي تجاه بيتنا مترددة الخطى، كيف سأدخل البيت الذي غيّب فيه الموت أبي وأخي وأنا بعيدة عنهما.
سأنزل من الباص عند حرش القرية (المشتل)، كما كنت أفعل عندما أعود من الجامعة، كانت أمي تنتظرني هناك دائماً لتحمل عني حقيبة السفر، وكم كانت عنيدة في معركة “من سيفوز في حمل الحقيبة”، كانت تعاملني وكأني أنا أمها، تُسابق الزمن قبل وصولنا البيت، تحكي لي وأسمع منها.
تغيّرت ملامح بيتنا اليوم، الطابق العلويّ تهدّم وجرى ترميمه، ليس مهماً، ما دام المنزل قائماً وبابه مفتوحاً قليلاً، كما أتخيله دائماً، ينتظر زائراً يؤنس وحدة أمي التي زوَّجت إخوتي وصار كل واحد منهم في مكان. لطالما تخيلت أنني فجأة أمامها في يوم عيدها.. ستفتح أمي عينيها وتفركهما وتعيد العملية مراراً، مَن؟ ستحاول الوقوف، لكني سأصل قبل نهوضها وأحضنها وأُقِّبلها. سنبكي من الفرح ونعيد النظر في وجوه بعضنا البعض لنصدّق أنّ ما يحدث ليس حلماً.
تجتاح مخيلتي تفاصيل كثيرة مرتبطة بعلاقتي مع أمي، أُدرك أن سببها المسافات الطويلة التي تفصل بيني وبينها ومرور كل هذه السنوات بثقلها وقسوتها دون أن نلتقي، تَقدّم أمي في العمر والتجاعيد التي غزت ملامح وجهها ويديها، عندما تركتها لم تكن كل هذه التجاعيد موجودة، ربما لو بقينا بجانب أمهاتنا لكانت علامات تقدم الزمن تأخرت قليلاً، أو هذا ما نتمناه دائماً، أن نعود لأمهاتنا قبل أن يغيّر الزمن ملامحهنّ.
حين أتذكر اختلافنا في الرأي الذي كان يحدث بيني وبين أمي سابقاً، أسخر من نفسي، وأقول في حال سنحت لي الفرصة والتقيت بها مجدداً، سأرمي كل اختلافاتنا وخلافاتنا القديمة جانباً، وكذلك ستفعل هي أيضاً وكعادتها ستكون مشغولة في طهي الكثير من أصناف الطعام التي كنّا نفضل تناولها من تحت يديها أنا وإخوتي.
أثناء استغراقي بحلم لقاء أمي، ظهرت أمامي آخر إحصائية أجرتها منظمة منسقو استجابة سوريا عن عدد السوريين المتضررين من الزلزال شمال غربي سوريا والذي بلغ 965,833 شخصاً، وشملت الإحصائية الأضرار المادية والجزئية وفقدان الممتلكات، لأدرك أن مناسبة عيد الأم في هذا العام لن تضج باحتفالات السوريين البعيدين عن أمهاتهم، بعد كارثة الزلزال الذي حدث في 6 شباط ( فبراير) الماضي، إلى جانب الصعوبات التي يواجهها من يعيش في الشمال السوري من تقييد لِحركة تنقِّلهم وإغلاق المعابر بوجههم.
وهو حال روعة حسن، 30 عاماً، تعيش في سرمدا شمالي إدلب، إذ لم تعد تجرؤ على التفكير بزيارة والدتها المقيمة بريف حماة الشمالي، فهي لا تنسى كيف عامل الجنود على الحاجز الفاصل بين مدينتي قلعة المضيق والسقيلبية، بريف حماة الغربي، جميع من كان يرغب بعبور الحاجز، إذ قبل أن يشرح العابرون لهم أسباب عبورهم الحاجز وظروف زيارتهم لذويهم، قام الجنود بضربهم بالكابلات التي جهزت خصيصاً لهذا الغرض.
تقول روعة: “لم نكن نعلم بأمر إغلاق المعبر بشكل تام، وكنت أنوي زيارة أمي قبل العملية العسكرية التي كان يُروّج لها كثيراً، والتي كنا نستشعر قربها بسبب القصف المكثف على قرى ريف حماة الغربي، لكن سماعنا خبر ضرب من وصلوا قبلنا إلى الحاجز جعل كل من كان في طريقه إلى الحاجز يتراجع ويعود أدراجه، كانت هذه الحادثة منذ خمسة أعوام، ومن وقتها وحتى يومنا هذا المعبر مغلق”.
أُغلق معبريّ قلعة المضيق- السقيلبية بريف حماة الغربي ومورك بريف حماة الشمالي في وجه المدنيين منتصف شهر آب (أغسطس) من عام 2018 بشكلٍ مفاجئ، ما حرم الكثير من المدنيين وخاصة النساء من الوصول لأهاليهم، كما عَلِق الكثيرون لفترة طويلة قبل أن يدركوا أن الإجراء سيطول وقته وأن الخيار الوحيد أمامهم هو سلوك طرق التهريب المتعددة والتي نشط أكثرها في ريف حلب الشمالي.
أما الأبناء الذي لجؤوا إلى بلدان بعيدة، يعيشون صراعاً نفسياً مختلفاً، فبينما يحتفل من حولهم بمناسبة عيد الأم، بشكل طبيعي، تنتابهم مشاعر الفقد والشوق لأمهاتهم، وتقتصر معايدتهم على مكالمة فيديو جماعية على تطبيق واتساب أو ماسنجر فيسبوك.
تقول يافا الحموي، مقيمة في فرنسا: “في كل مناسبة لعيد الأم، أتذكر كيف كنا نتنافس أنا وأفراد عائلتي على تحضير أصناف المأكولات والعصائر والحلويات مثل حلاوة الجبن واليبرق والتبولة والكاتو. لكن تلك الأيام انتهت بعد أن هجّرت أمي إلى الشمال السوري، ثم إلى تركيا في عام 2015، ومن وقتها لم أرَ أمي”.
تعيش يافا منذ أعوام في فرنسا، ومقابل ذكرياتها الجميلة عن عيد الأم، تنتابها مشاعر متناقضة في هذا اليوم، ما بين شعورها بالفقد والغربة ورضاها عن وضعها الحالي، كما تروي لنا، إذ لا يغيب عن ذهنها في هذا اليوم تحديداً المعتقلين الذين لا يعلمون شيئاً عن أمهاتهم ولا هُنَّ بالمقابل يعلمن عن أبنائهنّ وبناتهنّ شيئاً، فتشعر بالخجل إذا ما حزنت لعدم احتضان أمها، طالما أنها تراها عندما تتحدث معها وباقي أفراد عائلتها عبر مكالمة فيديو جماعية وتطمئن عليها بشكل يومي، حسب تعبيرها.
تقول يافا: “صحيح أن اتصال الفيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي خفف كثيراً من وطأة الغربة والبُعد إلّا أنه لقاء يشوبه الخوف، إذ أحاول أن أكون حذرة في كلامي وأن أتحكم بردّات فعلي ونقدي لما يجري في سوريا سياسياً، خشية على أمي من مراقبة الاتصالات والملاحقات الأمنية، لذلك أنا حريصة على مراقبة حاجبيها في حال حركتهم إلى الأعلى أو عندما تعض على شفتيها، في إشارة لتغيير الحديث”.
تشاركني يافا غصة القلب ذاتها، فهي أيضاً تتألم كلما رأت التجاعيد التي غزت يدي أمها وجبينها ووجنتيها، وغياب بريق الفرح في عينيها، تقول لي: “كان من المفترض أن تكبر بقربنا، هذا ما عاهدنا به أنفسنا عندما كنّا صغاراً”، وأنا أتفق مع قولها .. هذا ما كنت أتمناه أنا أيضاً.