“معقولة ترجع أيام الـ 2019 ونصير نحمل هويتين متل ما كنا نعلق على سيارتنا نمرتين .. الله يسترنا من الجاي!”.
بهذه الكلمات عبَّر أبو يوسف عن قلقه أثناء قراءته خبراً على صفحات فيسبوك بأن وزارة الداخلية لحكومة الإنقاذ قضت بإلزام المواطنين في محافظة إدلب ممن تجاوزوا سن الرابعة عشرة من العمر، استخراج بطاقات شخصية لهم، بالمقابل فعلت المجالس المحلية في ريف حلب الشمالي الأمر ذاته، وأصدرت بطاقاتها الخاصة هي الأخرى، فالمواطنون القاطنون هناك يحملون بطاقات تعريفية خاصة بالمجالس التي يسكنون ضمن دائرتها.
أبو يوسف من ريف حلب الشمالي ويقيم حالياً بالقرب من سلقين بريف إدلب، يعمل سائقاً على سيارة أجرة ويقوم بنقل الركاب يومياً من ريف إدلب إلى ريف حلب الشمالي والعكس. في عام 2019 عايش الخلاف الذي نشب بين حكومة الإنقاذ والحكومة المؤقتة والمتعلق بعدم اعتراف كل جهة بلوحات السيارات التي تصدرها الأخرى، وتلزم القاطنين في مناطقها تعليقها على مركباتهم، وهذا ما دفع أبو يوسف للمقارنة بين الحالتين.
معاون وزير الداخلية في حكومة الإنقاذ طلال زغيب قال: “إن حكومة الإنقاذ عمدت للتنسيق مع الحكومة المؤقتة بشأن الهويات الجديدة، سعياً لاعتراف متبادل”. لكن الحكومة المؤقتة لم تؤكد على هذا “الاعتراف المتبادل” حتى اليوم، في حين نفى مصدر مطلع من داخل وزارة الداخلية، فضل عدم كشف هويته، حصول أي مراسلات بين الوزارتين في الحكومتين بهذا الشأن.
وتتقاضى حكومة الإنقاذ رسوماً مالية لقاء استصدار بطاقة شخصية لأي مواطن، حسب ما أخبرنا به طلال الزغيب، وهي بحدود دولارين أمريكيين أو ما يزيد قليلاً.
لكن موظف السجل المدني المعني بتسجيل الراغبين بالحصول على هويات جديدة، يقوم باقتطاع مبلغ 40 ليرة تركية عن كل فرد لقاء منحة الهوية الجديدة، وسعر صرف الدولار مقابل الليرة التركية شبه ثابت في الفترة الحالية، وهو يعادل 18.5 ليرة تركية للدولار الواحد.
مبلغ الأربعين ليرة تركية ليس باليسير على غالبية الأهالي في الشمال السوري، إذ إن نسبة البطالة تزداد كل يوم، فلا معامل ولا مشاريع تنموية تذكر، والاعتماد على المساعدات يعتبر مصدر دخل معظم تلك الأسر.
عامر، 37عاماً، أب لخمسة أبناء، يعمل على مكبس للبلوك بالقرب من أحد المخيمات المجاورة لمدينة سرمدا، استنكر مبلغ الأربعين ليرة تركية التي تقتطعها الحكومة كرسوم، لقاء التسجيل على بطاقة شخصية، فهو لم يكد ينسى المئتين وخمسين ليرة تركية تكلفة استخراج بطاقة عائلية له ولأسرته، قبل أشهر مضت.
يقول عامر لفوكس حلب: “أتقاضى في اليوم ستين ليرة تركية كأجرة، وعندي ولدين تجاوزوا الرابعة عشرة من العمر، ما يعني ضياع أجرة أربعة أيام لقاء هويات لي ولزوجتي وأبنائي، هذا إذا لم نحسب الوقت الذي سأضطر للتغيب خلاله عن العمل، وأجرة المواصلات جيئة وذهاباً إلى منطقة حارم، ولأكثر من مرة”.
بطاقة شخصية جديدة غير معترف بها دولياً
في معرض الحديث عن شكل الهوية، أخبرنا الزغيب عن الخيط الدمشقي المرسوم عليها ونوع المادة التي صنعت منها، ما يجعلها ضد الكسر، وكتابة المعلومات التعريفية عليها باللغة الإنجليزية إلى جانب العربية.
لكن ما جدوى كتابة الاسم باللغة الإنجليزية على بطاقة شخصية غير معترف بها دولياً؟ هذا ما يشغل بال أبو منير، 58 عاماً، إذ يرى أن الاعتراف بالبطاقة الجديدة كوثيقة رسمية في الدول الأخرى هو الأهم، وأي وثيقة أو شهادة غير معترف بها دولياً لن تكون ذات فائدة ترجى منها حسب تعبيره.
يقول أبو منير: “يملك ابني جواز سفر صادر عن الحكومة المؤقتة لكنه لم ينفعه في طريق هجرته إلى ألمانيا، في حين أنني أدخل تركيا بجواز سفري السوري الصادر عن حكومة دمشق بسهولة ودون معاناة”.
يؤيد المحامي سليمان قرفان، رئيس نقابة المحامين الأحرار في درعا، وعضو اللجنة الدستورية عن قائمة المجتمع المدني، ما ذهب إليه أبو منير في مسالة الاعتراف الدولي، إذ يرى أنه لا جدوى من وثيقة غير معترف بها دولياً وهذا الاعتراف منوط بالأمم المتحدة، فهي الجهة التي تقر الوثائق الثبوتية لشعب ما، في حال وقوع الأزمات، مشيراً إلى الدور الذي لعبته هيئة الأمم في إقليم كوسوفو، حين عملت على مشروع إصدار هويات للمواطنين الألبان المطالبين بالاستقلال عن صربيا في عام 1999.
وبرر قرفان تقاعس الأمم المتحدة عن لعب هذا الدور في سوريا بقوله: “وقتها باركت إدارة الرئيس الروسي بوريس يلتسين الفكرة أما اليوم فروسيا -بوتين تعارضها تماماً، ولروسيا كلمتها في الأمم المتحدة”.
لا مكان للهوية القديمة بعد الحصول على الجديدة
“ما حاجتي لهوية جديدة، ما دمت أحمل هويتي السورية الأصلية، وبما أن الجديدة تحمل ذات البيانات” بهذا القول عبر ضياء المحمد، 42 عاماً، عن رأيه بالهوية الجديدة، إذ يرى أن احتفاظه بالهوية السورية القديمة لا يعني بالضرورة اعترافه بالنظام السوري، وأن تلك الهوية لا تتبع للأسد بل لسوريا كلها، كما لا يعني استخراج بطاقة اليوم في إدلب اعترافه بالضرورة بحكومة الإنقاذ، إنما هي لضرورة تعريفية بحتة، حسب قوله.
أما عبد الله أبو بكر، 32 عاماً، يؤيد فكرة إصدار هويات جديدة لكل شخص في الشمال السوري منعاً لانتحال بعض الأشخاص أسماءً مزورة أو وهمية، خاصة في التعاملات المالية أو حتى في التسجيل سواء في المنظمات أو المخيمات، ولا يمانع تخليه عن هويته السورية القديمة الصادرة عن حكومة النظام السوري، حسب تعبيره.
كما أكدت حكومة الإنقاذ في بيانها الصادر حول الهوية الجديدة على أنه “لا مكان للهويات القديمة بعد حصول الجميع على هويات جديدة”.
هذا التصريح أثار تخوف كثيرين، منهم سعيد البكري، 56 عاماً، والذي استنتج من عبارة “لا مكان للهويات القديمة” يعني أن الهويات الجديدة الممنوحة، ربما تؤدي إلى فقدان السوريون هويتهم المرتبطة بالمدن والقرى التي ولدوا بها قبل تهجيرهم القسري منها، وحرمانهم من العودة إليها، حسب قوله.
وكون البكري كان يعمل في السابق أستاذاً لمادة التاريخ، استشهد بأحداثٍ تاريخية مماثلة، يقول: “عانت الكثير من الشعوب في التاريخ القديم والحديث من ضياع الهوية بسبب التهجير القسري، مثل الأرمن والشركس وحتى المسلمين الذين كانوا يقطنون دولاً أوروبية خضعت في مرحلة ما لسلطة الإمبراطورية العثمانية، لكن بعد استقلال تلك الدول بعيد الحرب العالمية الأولى، لم يعد الكثير من المواطنين يحملون هويات وطنهم الأم، بل أصبحوا مواطنين في الدول التي هجروا إليها ويحملون بطاقتها الشخصية”.
لكن الزغيب، معاون وزير الداخلية، حاول طمأنة أصحاب هذا الرأي بقوله: “على العكس، نحن نسعى لتثبيت حق المواطن في مدينته الأم والعودة إليها لاحقاً، عندما يتم ذكر ذلك في بيانات قيده، دون تغيير”.
لكن تخوفات البكري وتساؤلاته تبقى مشروعة، لأن الهوية الجديدة ستتضمن صوراً لسبعة محافظات سورية، تعلوها خريطة سوريا، بحسب ما أخبرنا به طلال الزغيب، ولم يتسنى لنا رؤية الهوية الجديدة بعد فهي لم تطرح للتداول حتى الآن، رغم أن التسجيل عليها بدأ منذ السابع عشر من شهر أيلول (سبتمبر) من العام الجاري. ولحين الحصول على إحداها يبقى سؤال ما هي المحافظات التي اختيرت صورها على الهوية الجديدة، وهل ستكون خريطة سوريا بحدودها الطبيعية أم بحدودها السياسية.
لا يرى المحامي عبد الرزاق الرزوق، والذي كان يشغل منصب مدير الشؤون المدنية في الحكومة المؤقتة في الهويات الجديدة ترسيخاً للتجزئة، إذ أن المهجرين قسراً والوافدين إلى إدلب سيحتفظون بقيودهم القديمة كما ذكرت في سجلاتهم المدنية، وليس مكان القيد الحالي، واعتبر أن إصدار هويات جديدة بات ضرورياً للمواطنين وخاصة للأطفال الذين لا يحملون هويات شخصية تعرف بهم، حسب قوله.
المرأة في الهوية الجديدة
“كنت ما أزال في الرابعة عشر من عمري، وكنت ارتاد المدرسة الإعدادية بدون غطاء للرأس، وهكذا كانت صورتي في الهوية”.
هكذا تتذكر أم علاء 42 عاماً، مهجرة من حمص، صورتها على بطاقة هويتها الأولى، لكن بعد الزواج استخرج لها زوجها واحدة جديدة بسبب تغيير مكان إقامتها بعد الزواج.
لا يوجد نص قانوني يلزم المرأة وضع غطاء الرأس أو غيره، هذا ما يخبرنا به المحامي سليمان القرفان، إذ أن القانون المدني ترك الأمر لحرية المرأة الشخصية، وللعادات والتقاليد السائدة في كل بلد، والقوانين المعمول بها، حسب قوله.
لكن الأمر مختلف عند فاطمة أم حسن ،37 عاماً، التي ترتدي النقاب إذ تساءلت عن الإجراء القانوني الذي سيتخذ بحق المنقبات، تقول: “في هويتي القديمة كانت صورتي كاشفة الوجه، كنت صغيرة وقتها والحال لم يكن كما اليوم، فلا أدري هل تصح الصورة بالخمار”.
وكان ردّ طلال الزغيب على فاطمة ومثيلاتها ممن يرتدين النقاب، قوله أن: “فيما يخص السيدات والفتيات فيلزم كشف الوجه مع الإبقاء على غطاء الرأس”.
منح الهوية السورية للأجانب
لم يعد خافياً على أحد في الشمال السوري وجود الكثير من غير السوريين في محافظة إدلب، إذ شهدت المنطقة في العشر سنوات الماضية تدفقاً للآلاف منهم عبر الحدود للقتال في صفوف الفصائل المسلحة، وخاصة الإسلامية والجهادية منها.
أغلب هؤلاء الأجانب تزوجوا من نساء سوريات، وأصبح لها منازل وأعمال وتجارات تخصهم، ويتجولون بمطلق الحرية في أرجاء المحافظة، مثل أي مواطن سوري، ولكن بألقابهم التي اختاروها لا بأسمائهم الحقيقية ولا البلدان التي أتوا منها أو ينتمون لها.
لذلك، يجد خطاب الأحمد، 29 عاماً، طالب في الهندسة المعلوماتية بجامعة إدلب، أن البطاقة الشخصية الجديدة خطوة جيدة، خاصة مع ما تشهده المنطقة من اختلاط لأبناء مناطق مختلفة بفعل التهجير ووجود أشخاص مجهولي الهوية لا يعرفون إلا بكنيتهم وألقابهم مثل أبي فلان وأبي فلان، دون الإفصاح عن أسمائهم الحقيقية.
يقول الأحمد: “في إحدى المرات كنت في سيارة أجرة بصحبة اثنين آخرين، أوقف حاجز أمني السيارة، وكنت الوحيد من بين الركاب الثلاثة من يحمل هوية شخصية ولولاها لما سمحوا لنا بالمرور، يبدو أنهم ظنونا أجانب بكنيات عربية، فهم موجودون بيننا”.
بحسب القانون يتطلب منح الجنسية السورية للأجانب إجراءات متعددة، وهي غير متوفرة على أرض الواقع في الشمال السوري، يقول القرفان: “لا يجوز قانونياً أن تمنح البطاقة السورية لأي أجنبي، ولو عاش على الأرض السورية، لعدم وجود جهة مخولة قانوناً بذلك”.
لكن طلال الزغيب، قال إن الهوية الجديدة ستمنح للأجانب وسيعاملون كأي مواطن سوري يعيش على أرض إدلب. ما يعني أن سيصبحون مواطنين سوريين لاحقاً، وهذا الإجراء لا يعد قانونياً صرفاً، كما بين ذلك المحامي القرفان وزميله الرزوق.
وضرب الرزوق مثال البطاقات الشخصية التي تمنح للاجئين الفلسطينيين والذين يعيشون في الشمال السوري، فهم يحصلون على بطاقاتهم التي تمنحها لهم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين وليست الحكومات السورية.
يرجع أبو يوسف لتصفح الفيس بوك مرة أخرى، ويركز على بعض المناشير الصباحية التي تحمل البهجة علها تنسيه تخوفه من خلاف ينشب حول الاعتراف بالهوية الجديدة بين الحكومتين الإنقاذ والمؤقتة، ويفكر في حال حدوث الأمر أن يعمد لاستخراج هويتين كما استخرج لوحتين لسيارته، وبهذا يرضي الطرفين، ويظل السؤال الذي يشغل باله: ماذا لو أخطأ بين الهويتين وأبرز الهوية الخاطئة على الحاجز؟