انتهى المطاف بنورا، 19 عاماً، مطلقة ومنبوذة في بيت أهلها بعد أن نفذ الشاب الذي كانت تجمعه بها علاقة سابقة وعوده بنشر صورها الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي لرفضها الاستمرار بتلبية رغباته.
حظ نورا كان أفضل بكثير من نساء انتحرن أو تعرضن للقتل بعد انتشار صورهن من قبل شبان حاولوا ابتزازهن، سواء بنشر صور قديمة كنّ قد أرسلنها لهم أو باقتحام وتهكير صفحاتهن على وسائل التواصل الاجتماعي.
جمعت نورا، قبل زواجها، بأحد الشبان علاقة عاطفية مغلفة بوعود كاذبة بالزواج، أرسلت له صوراً خاصة تحت ضغط عاطفي منه ووعود كاذبة أيضاً بحذفها، لكنّ أياً من ذلك لم يحدث لتبدأ رحلة ابتزازها.
تقول نورا إنها اكتشفت زيف وعود الشاب وهو ما دفعها للقبول بالزواج من رجل آخر، لكن حياتها انقلبت منذ ذلك الوقت، “بعد الزواج راح يطاردني في كل وقت، هاتفي بات مصدر قلق يومي، كنت أضبطه على الوضع الصامت طيلة الوقت خشية اكتشاف زوجي لما يواجهني وعدم قدرتي على قول الحقيقة والاعتراف له بما حدث قبل زواجنا”.
التهديدات المتواصلة وخوفي من “الفضيحة” دفعني لـ “تلبية جميع رغباته من جديد، المزيد من الصور، مكالمات فيديو، ومختلف أنواع أشكال الاستغلال الجنسي”، تضيف نورا أنها كانت “تكره نفسها في كل مرة يحدث ذلك، وهو ما دفعها للانتحار مرتين دون أن ينجح الأمر”.
القرار الأخير الذي اتخذته نورا دفع الشاب لتنفيذ تهديده، نشرت صور نورا على صفحات فيسبوك، لينتهي بها المطاف في بيت أهلها، مطلقة ومنبوذة من المجتمع والعائلة.
ما حدث مع نورا ليس سيناريو نادراً، بل مأساة عاشتها كثر من النساء اللاتي يتعرضن للابتزاز الجنسي الإلكتروني. وقد رصد المحامي خالد ناصيف، خلال عمله السابق في قسم العنف مع رابطة المحامين في إعزاز، عشرات البلاغات من نساء تعرضن للابتزاز الإلكتروني في منطقته، مضيفاً أن الحالات التي شاهدها كانت لقلة قليلة اختارت طلب الحماية القانونية، أما البقية فيفضلن الصمت، خصوصاً إذا كان المبتز خارج حدود المنطقة ما يترتب عليه غياب إجراءات المساءلة والمحاسبة القانونية.
ابتزاز المنفعة.. أجساد النساء عملة يتداولها المجرمون
تلقت ندى (اسم مستعار)، صدمة كبيرة على موقع فيسبوك، عندما وجدت منشوراً في إحدى المجموعات المغلقة، يطلب نساءً للعمل من المنزل براتب مغرٍ، تواصلت مع صاحب الإعلان الذي راسلها بالتفاصيل.
كانت الوظيفة هي ممارسة الجنس الإلكتروني، عن طريق إرسال صور ورسائل جنسية ومكالمات فيديو عبر سكايب، مقابل مبلغ مالي مغرٍ، إضافة إلى مكافأة إضافية مع كل سيدة تقنعها بالانضمام للعمل معها. لكن ندى غادرت المجموعة، وحذّرت معارفها مما عرفت.
ما تعرضت له ندى يسمى “الاستغلال الجنسي الالكتروني -المادي”، بحسب تصنيف المدرب حسن الحسين، الخبير في أمن المعلومات وأخصائي التوعية ضمن مشروع المبادرة السورية. ففي دراسة بحثية أجراها الحسين حول الجرائم الإلكترونية عام 2020، شملت ألف شخص من الذكور والإناث، المتعلمين وغير المتعلمين في الشمال السوري (إدلب، إعزاز، الأتارب)، جاءت النتيجة أن 10٪ من النساء تعرضن للاستغلال الجنسي الإلكتروني لأجل المال، و30٪ لأجل الجنس، بجانب استغلال جنسي إلكتروني يندرج تحت بند “الاستغلال الجنسي النفعي”، مثل استغلال بعض المدرسين لطالباتهم في مقابل رفع درجاتهن والنجاح في الاختبارات، أو عرض امرأة لنفسها على شخص مقابل إتمام مصلحة ما.
رغم خطورة الابتزاز الجنسي الإلكتروني، وكونه جريمة يستحق مرتكبها العقاب، فإن النساء يفهمن عقلية المجتمع التي لا تتسامح معهن كضحايا، وأن ضحية جرائم الابتزاز الجنسي قد تتعرض للتعنيف، أو حتى القتل تحت مسمى “جرائم الشرف”، وهو ما يستغله المبتزون لمساومة الضحايا، وكسر مقاومتهن.
المجتمع يحاكم الضحية
في الخامس من آذار الماضي، نشرت صفحة “الشمال السوري” منشوراً عن إسعاف فتاة عشرينية في عفرين، بعد محاولتها الانتحار هرباً من ابتزازها، إثر تهديد شاب بنشر صورها، والتي أرسلتها له بعد علاقة حب وعدها خلالها بالزواج.
كانت نتيجة التفاعل مع المنشور عشرات التعليقات التي تتمنى لها الموت وأنها تستحق ماحدث لها وعليها أن تتحمل نتائج أخطائها. هذه التعليقات توضح كيف يتعامل المجتمع مع الضحية، الأمر الذي يجعلها تقع فريسة للمبتز وتلبية طلباته، عوضاً عن اللجوء إلى السلطات القضائية المختصة.
يقول حسن الحسين: “على الرغم من أن القوى الأمنية في المنطقة تدرك جيداً مدى انتشار هذا النوع من الجرائم الإلكترونية وخطورتها، فإنها لا تراعي حساسية التعامل معها، ولا تأخذ في الاعتبار أن الفتاة التي تتعرض للابتزاز لا تُعامل بأي درجة من الرحمة أو التعاطف، حتى من قبل عائلتها. على القوى الأمنية مراعاة خصوصية هذه القضايا”.
صفحات على الفيسبوك لمكافحة الابتزاز الإلكتروني
الأمر نفسه نوهت به “وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية في الشمال السوري”، والتي تأسست عام 2017، وتعمل بشكل مستقل بواسطة فريق تطوعي خبير في المجال الرقمي.
تواصلنا مع الوحدة، خلال إعداد التقرير قبل أشهر، والتي تعمل عبر صفحة فيسبوك، هي الآن مغلقة ولا يجيب أصحابها، ولا تملك مقراً خاصاً، لمراجعته.
تحدث إلينا عضو بالوحدة، دون الكشف عن اسمه، عن أبرز المشاكل التي تعترضهم وهي صعوبة التشبيك مع القوى الأمنية للحد من هذه الجرائم، لأن هذه القوى اشترطت أن تصبح الوحدة تابعة لها أولاً، لكن بسبب ضعف الكوادر والخبرات في هذا المجال، فمن الممكن أن تُفضح القضايا، وحينها قد تتعرض الفتاة للتحقيق والمسائلة، رغم حرصها على أن تبقى قضيتها سرية حتى عن أهلها.
هذه هي النقطة الحساسة التي لم تستطع القوى الأمنية تفهّمها، وترتب عليه ضعف آليات معاقبة المجرم قانونياً، ليقتصر عمل الوحدة على معاقبة المجرم بطريقة تقنية، إذ تتسلم الشكاوى عبر رسائل الفيسبوك، وفرزها وفقاً لأهميتها، ثم تسليمها للفريق التقني.
تتحدث الصفحة في منشوراتها عن مساعدتها لنساء تعرضن للابتزاز الإلكتروني، تنشر قصصهم وتشرح ما حدث، وتتلقى الصفحة، عشرات البلاغات تتراوح بين 70-80 بلاغاً شهرياً، بحسب أحد العاملين بالفريق التقني. وأكدت الوحدة أن كثيراً من الحالات لا تصل إليهم بسبب عدم وعي الضحايا بوجود جهة يمكن اللجوء إليها حال التعرض لجرائم ابتزاز إلكتروني في الشمال السوري.
الجرائم الإلكترونية ليست مقتصرة على المجتمع السوري، فهي منتشرة في جميع المجتمعات، بحسب نادر مطروح، وهو محام من إدلب، لكن الضوء يُسلّط عليها في إدلب خصوصاً بسبب غياب القانون الذي يرصد هذه الجرائم بسبب الحرب.
صحيح أن هذه الصفحات هدفها مساعدة النساء اللواتي تعرضن للابتزاز الإلكتروني، لكن في النهاية هذه الصفحات أعطت لنفسها سلطة ما، وهم مجموعة يرفضون الكشف عن أسمائهم، ويعملون بشكل غير قانوني، ومن الممكن أن نطلق عليهم مجموعة “هكر” يملكون خبرات في التقنيات الرقمية.
عن مدى قانونية عمل صفحة على فيس بوك تدعي أن لديها خبراء بالأمن الرقمي، وغير مرخصة، وغير مرتبطة بجهة حكومية أو قانونية يقول المحامي ياسر القدور: “الجرائم الإلكترونية شيء مستحدث على علم القانون. ولا يجوز لأي مجموعة سواءً كانت جمعية أو مؤسسة أو منظمة أن تقوم بإختراق حسابات إلكترونية تحت أي مسمى ، إلا بموجب ترخيص وتكليف من جهة رسمية معترف بها، حكومية، أو شركة مرخصة من قبل المؤسسات الرسمية العاملة في منطقتها وتخضع للمساءلة القانونية”.
وأضاف: “في حال كانت المجموعة عابرة للحدود، عليها الحصول على ترخيص دولي أو أممي، حتى تستطيع العمل بشكل قانوني، إذ لا يمكن القيام باختراق أي حسابات تحت أي مسمى وأي ذريعة إلا بعد موافقة السلطة الرسمية القضائية. وهذا العمل يجب أن يكون ضمن قانون، ولن يقدم هذا حلاً جذرياً للمشكلة إلا إذا خضع للقوننة”.
أما المحامي محمد عارف فيقول: “بعد انتشار الابتزاز الإلكتروني بشكل لافت، لا سيما عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، بات وجود جهات مناهضة اختراق “الهاكرز” أمر مطلوب وملح، لكن للأسف لايوجد حالياً قانون خاص لمكافحة الجرائم الإلكترونية والابتزاز والعقوبات محصورة بحال حدوث تهديد مالي أو جسدي للضحية، كالتهديد بنشر صور أو إجبار الضحية بالقيام بأعمال ( قتل ..سرقة .إلخ)”.
انتشرت مؤخراً العديد من المبادرات والصفحات التي تهتم بالتوعية بجرائم الابتزاز الإلكتروني، أبرزها مجموعة “كوني حذرة” على الفيسبوك، والتي تضم مئات النساء، وتدار بواسطة مختصة بالأمن الرقمي من إدلب، وتتوجه لنساء المنطقة بمنشورات توعوية حول عمليات الابتزاز الإلكتروني، لكن عمل المجموعة لا يتخطى التوعية إلى تقديم الحلول بحال وقوع الجريمة، والتي تحتاج إلى تضافر الجهات المسؤولة ورفع الوعي الشعبي بها، لتكون كل الأسلحة مصوبة إلى المجرم، لا الضحية.
يقول العارف إنه من الضروري وجود جهة لمكافحة الابتزاز الإلكتروني، لكن ضمن شروط، وهي أن تكون مرخصة أصولاً لدى الجهات المختصة في الشمال السوري وأن تخضع وتعمل ضمن القانون، حسب تعبيره.