فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

مطعم اللقمة الشامية- فوكس حلب

  في إدلب.. “اللقمة الشامية” تجسيد للمأكولات والأحياء الدمشقية

 محمود يوسف السويد

“كل من عرف الشام وشرب من مائها وتنشّق هواءها محال أن ينساها “، بهذه الكلمات يتغزّل معاذ أبو لبدة بمدينته الأم دمشق، لقد حملها بين جنبيه في رحلة نزوحه نحو […]

“كل من عرف الشام وشرب من مائها وتنشّق هواءها محال أن ينساها “، بهذه الكلمات يتغزّل معاذ أبو لبدة بمدينته الأم دمشق، لقد حملها بين جنبيه في رحلة نزوحه نحو الشمال السوري، وجسّدها في سلسلة مطاعم يملكها. تقدّم مطاعمه المنتشرة في مدينة إدلب وريفها الأطباق الدمشقية، من فول وحمص وفتات بأنواعها إضافة إلى الفلافل، فكانت (اللقمة الشامية) ماركة تميزت في ربوع المحافظة.

لـ”الفتة الشامية مذاق خاص يختلف عن مذاق الفتة في المحافظات السورية الأخرى”، كما يقول “أبو لبدة”، الذي استغرق منه تعلّم أسرارها 15 عاماً، حيث قضى عطله الصيفية وأوقات فراغه في مطعم شعبي، متخصص بتقديم الفول والفتات الشامية، يملكه زوج شقيقته.

ظل معاذ يتردد على مطعم صهره إلى ما بعد دخول الجامعة، ولكن بشكل متقطع بسبب انشغاله بالدراسة. استمر هذا الحال حتى انطلاقة الثورة السورية في عام 2011، حينها هجر كل شيء وتفرغ للعمل الثوري، فأصبح ناشطاً وراصداً إعلامياً، يتتبع تحركات أرتال قوات النظام التي كانت تنطلق غالباً من مطار المزة العسكري، لاستهداف الأحياء الثائرة في دمشق وريفها، ليقوم بإعلام الناشطين بها والتحذير منها.

مطعم اللقمة الشامية- فوكس حلب
مطعم اللقمة الشامية- فوكس حلب

لا يمكن الفصل بين مدينة دمشق وريفها، فهي كما يقول معاذ كـ”السوار للمعصم”، يحيط الريف بالمدينة من كل الجهات وتتداخل البيوت في أكثر من مكان، فلا تكاد تميز بين ريف ومدينة، فحتى أبناء الريف كانوا يرون في دمشق مدينتهم الأم، ومعاذ ابن مدينة الكسوة الواقعة إلى الجنوب الغربي من دمشق واحد منهم.

رفض المنظمات كان بداية نجاح معاذ

بعد أن وطئت قدما معاذ أرض محافظة إدلب واستقر به المقام لاحقاً في مدينتها، راح يبحث عن عمل له، طرق خلال رحلة بحثه أبواب منظمات عدة، لكنه لم يحظ بفرصة للعمل في إحداها، عندها فكر بالاستفادة من خبراته السابقة بإعداد الأطباق الشعبية الشامية، وقرر افتتاح مطعم شعبي صغير متخصص بها أطلق عليه اسم “اللقمة الشامية”.

مطعم اللقمة الشامية- فوكس حلب
مطعم اللقمة الشامية- فوكس حلب

بعد فترة ليست بالطويلة، ونتيجة للإقبال الذي شهده المطعم الأول، قرر معاذ توسعة عمله فافتتح فرعا ثانياً للقمة الشامية، وحينها وقع الاختيار على مدينة كفرنبل، وبالفعل افتتح المطعم ولاقى إقبالاً هو الآخر، استمر حتى بدء الهجمة الأخيرة التي شنها النظام على ريف المحافظة الجنوبي، وسقطت نتيجة له كفرنبل مثل غيرها من القرى والبلدات. عندها هاجر معاذ ضمن قوافل أبناء مدينة كفرنبل واستقر به المقام في مدينة سلقين بريف إدلب الشمالي. هناك عاود نشاطه من جديد وافتتح اللقمة الشامية بفرعها الثالث، وأمضى فيه أكثر من سنتين ثمّ قرّر افتتاح فرع رابع في مدينة سرمدا، يحمل الاسم ذاته.

الفرع الجديد تمتع بخصوصية لم تكن موجودة في الفروع السابقة، هنا سعى معاذ لإبراز الطابع الشامي، ليس فقط في الأطعمة ولكن في الديكور واللباس، وكأنك كما يقول معاذ “تتناول طعامك في بيت وسط حارة دمشقية”.

تفاصيل وأسماء.. حنين وأصالة

بطربوش أحمر، وسترة مطرزة بخطوط عرضية، تتدرج ألوانها من البني إلى الأصفر فالأحمر، تسمىّى “القطشية”، وبنطال أسود فضفاض يعرف بـ”الشروال”، يجلس معاذ في فرع مطعمه الأكبر في مدينة سرمدا. من حوله زخارف مشغولة بالخط العربي المعروف بالأرابيسك -وهو فن دمشقي قديم يعتمد على زخارف ونقوش هندسية في الديكور تصنع من الخشب -ومن فوقه سقف زين بالزجاج التركي المعشق والملون، إضافة إلى لوحات زخرفية وهندسية، وخيوط عجمية امتزجت مع ورد صناعي أخضر، تتدلى من بينه فوانيس نحاسية مزركشة ومنقوشة، تضفي على المكان رونقاً تراثياً يمكن من خلاله الإحساس بالأصالة المنبعثة من البيوت العربية الدمشقية، التي اشتهرت بها أحياء دمشق القديمة.

مطعم اللقمة الشامية- فوكس حلب
مطعم اللقمة الشامية- فوكس حلب


لم يتوقف حلم معاذ عند حدود المنزل الشامي من الداخل، بل حاول أن يختزل دمشق بأحيائها وشوارعها، وبتفرعات بردى وأبواب المدينة السبعة، كذلك التي تحتضن أحيائها القديمة والعريقة. أطلق أسماء تلك الأحياء والشوارع على طاولات مطعمه، ورصفها حول نافورة مياه (الصاجية) ذات الطابع الدمشقي المميز عن باقي نوافير المياه الصناعية الأخرى، كما يرى معاذ.

تتجول في المكان فتلمح طاولة تحمل اسم حي الحجاز، بالقرب منها أخرى حملت اسم حي البرامكة، تقابلها في الطرف الآخر طاولات بأسماء العمارة والقيمرية والقصاع، وغيرها من أسماء الأحياء الدمشقية، وحتى بعض الحواري والأحياء الصغيرة، كالمناخلية التي عرفت ببيع المناخل والغرابيل، والسروجية التي أخذت اسمها من بيع سروج الخيل ومعدات الخيول، وهي أحياء يعرفها أبناء المدينة أكثر من غيرهم.

كانت الفكرة، في البداية كما يخبرنا معاذ، “تمييز الطاولات فبدل أن تحمل أرقاماً وجد في إطلاق أسماء أحياء دمشقية عليها جاذبية أكبر لا تخلو من حميمية، ويكون قد حقق التميز المطلوب”، يقول  “جميل أن تسمع عبارة، تناولت فطوري اليوم في حي باب توما، أو في الميدان تلك العبارات كنت أسمع زبائن مطعمي يرددونها، وحينها أشعر بالسرور والحنين معاً”.

لم يكتفِ معاذ بإضافة لوحات تحمل أسماء الأحياء، بل ذيلها بجمل تشرح تاريخ الحي وسبب تسميته، فالميدان مثلاً يعود للحقبة الأموية وسمي بذلك، لأنه كان ميداناً لاستراحة الخيل والإبل والقوافل التجارية القادمة إلى دمشق.

الإلهام قد يأتي به طفل صغير

قبل سنتين، كان معاذ في مطعمه بمدينة سلقين، وإذ بطفل في العاشرة من عمره، يدخل المطعم كزبون، يبادره معاذ بالسؤال من أين أنت؟، ليرد الطفل “أنا من مخيم الفاروقية”، لم تعجب الإجابة معاذ، فكرر السؤال مرة أخرى ليحصل على الإجابة ذاتها. عندها اختار أن يبدل السؤال ويوضح للطفل أنه يقصد المكان الذي أتى منه قبل التهجير، فأخبره أن عائلته قدمت من قرى ريف جسر الشغور هرباً من القصف، وأنه لا يعرف له مكاناً آخر سوى المخيم. “لامست كلمات الطفل جرحاً في داخلي لم ولن يندمل”، يقول معاذ معبراً عن شعوره لحظتها، وكيف أنه أدرك مقصد قوات النظام من تهجير الناس من مدنهم وقراهم، فهو يسعى لطمس هوياتهم وسلخهم عن جذورهم الحقيقية.

مطعم اللقمة الشامية- فوكس حلب
مطعم اللقمة الشامية- فوكس حلب

كذلك كانت إجابات مارية ابنة الست سنوات، وهي الابنة الصغرى لمعاذ، بمثابة الصاعقة التي نزلت عليه، حينما ردت على سؤال معلمتها في الروضة، من أين أنتِ يا مارية، فأجابت “أنا من إدلب”، هنا أحس معاذ بضرورة فعل أي شيء، كبيراً كان أم صغيراً، لمنع انسلاخ الجيل القادم عن جذوره.

يخبرنا معاذ أنه طلب من موظف السجل المدني أن يضع في خانة مكان الولادة لابنته مارية، دمشق عوضاً عن إدلب، على الرغم من ولادتها في إدلب، لكنه آثر أن يقرن اسم مدينته دمشق باسم ابنته، حتى تعلم أن لها جذور تمتد إلى حارة أهلها في الكسوة، وإلى البيت الذي نشأ والدها وترعرع فيه. لم يكتفِ معاذ بذلك بل سعى لغرس حب دمشق في نفوس أولاده، من خلال عرض صور الحارة التي كان يسكنها عليهم.

ربّما نجح معاذ، في اليوم الذي سألته فيه ابنته مارية وهي تتابع أحد الفيديوهات التي تصور مدينة دمشق بأحيائها القديمة عبر “يوتيوب”، “هل هذه هي دمشق يا أبي” فأجابها “أجل هي”، وكم كانت سعادته عارمة حينما كان ردها طفولياً “الشام حلوة كتير”

من هنا تكوّن لدى معاذ هدف واضح، هو محاولة إبراز الطابع الدمشقي في تفاصيل حياته، والسعي للتمسك بكل ما يربطه بالشام، فكان فرع اللقمة الشامية في سرمدا فرصة سانحة له، ليس على مستوى التطوير وتحقيق المنافسة والتفرد عن غيره من المطاعم، بل خدمة لهدفه الأسمى وهو الحفاظ على هويته الدمشقية، ورفضه التخلي عنها مهما حدث.

آثر معاذ خيار الديكور الدمشقي، بالرغم مما يلحقه من زيادة في التكلفة، فمعظم مواد ديكوره تم جلبها إما من إسطنبول كالزجاج التركي والفوانيس المغربية، وهي تشبه الفوانيس الدمشقية، التي لم يتمكن من الحصول عليها من دمشق. الأكلاف تجاوزت الضعف، لكن لو اختار ديكوراً تقليدياً مثل غيره من المطاعم، لكانت التكلفة أقل بكثير، بحسب قوله، لكنه واسى نفسه بقوله “الشام تستحق أكثر من ذلك من أبنائها، وما فعلته ليس سوى خطوة صغيرة في سبيل حبنا لشامنا الأم”.

مطعم اللقمة الشامية- فوكس حلب
مطعم اللقمة الشامية- فوكس حلب

مطعم في النهار ومقهىً في المساء والنكهة الشامية لا تغادر المكان

 

يستمر تقديم الأطباق الشامية في المطعم إلى أن تقترب ساعة الغداء كل يوم، فمن جرب تناول الفتة والفول والحمص، يعلم جيداً بأنها تصلح كوجبات فطور، أو كوجبة تسبق وجبة الغداء الدسمة. هذا لا يعني أن “اللقمة الشامية” يغلق أبوابه أمام الزبائن بعد العصر، لكنه يتحول من مطعم إلى مقهى يقدّم المشروبات الساخنة والباردة، وبعض أنواع السندويشات الخفيفة، أي يتحول لما يشبه الكافتيريا، يقصدها الناس مساءً ليجلسوا في حواريها الدمشقية، على تلك الطاولات يتناولون مشروبهم وهم يتسامرون فيما بينهم، وآخرون يفضلون تناول فنجان قهوة بالقرب من نافورة المياه وهم ينصتون لصوت مياهها المنساب.

يقول معاذ “في الغالب هؤلاء من أبناء دمشق القديمة”، ممن دفعهم حنينهم لبيوتهم الدمشقية للقدوم إلى المطعم حتى في ساعات الصباح الباكر أحياناً، يطلبون فنجان قهوة، يرتشفونه ببطء بجانب النافورة، في محاولة منهم لاستعادة ذكريات الصباح السابقة ونكهة فنجان القهوة الصباحية بالقرب من نافورة منازلهم، التي اشتاقوا إليها.

بخبرة معاذ الطويلة في مجال الأطباق الشامية، أصبح قادراً على تمييز ابن مدينة دمشق عن غيره، من خلال طلبه لطبق الطعام، خاصة أولئك الذين يطلبون نوعاً من الفتة تفردت به مدينة دمشق وحدها، وهو صحن التسقية بالزيت، أو كما يطلق عليها اسم (الفقسة)، والفقسة هي نوع من الفتات يستخدم فيه الزيت عوضاً عن السمن، وقطع الخبز العادية عوضاً عن الخبز المحمص المستخدم في الفتة بالسمنة المعروفة بـ”البدوة” أو اللبن.

مطعم اللقمة الشامية- فوكس حلب
مطعم اللقمة الشامية- فوكس حلب

وعن كيفية إعداد الفقسة يخبرنا معاذ، أنها تعتمد على صنف معين من زيت الزيتون، يعرف بأسيده المرتفع، وهو صنف غير مستساغ في الأكل، بسبب طعمه المر، تضاف كمية قليلة من هذا الزيت إلى محلول من الماء، مخلوط بمادة أخرى لم يشأ معاذ إخبارنا بها -يبدو أنها سر المصلحة كما يقولون- وبعد أن يضاف الزيت يتحول محلول الماء إلى لون أبيض، يرش عليه القليل من الملح والكمون الناعم، ويسكب المزيج فوق الفتة التي تحتوي قطع الخبز وحبات الحمص المسلوق. وبقليل من التزيين من كمون ناعم أو فليفلة حمراء ناعمة أو بعض وريقات بقدونس تصبح أكلة التسقية بالزيت جاهزة للأكل لذواقها.

يفكر معاذ اليوم بأن يضيف لمسة جديدة إلى مطعمه تتمثل في صور تجسد أحياء دمشق، ليعلقها على الجدران المحيطة بالطاولة التي تحمل اسم الحي الظاهر في الصورة، وبهذا يشعر الجالس على الطاولة كأنه يرى دمشق بعينه، وكما لو كان في ذلك الحي.

لا يقف طموح معاذ عند هذا الحد، فهو يفكر جدياً باستقدام كل ما أمكن نقله من تراث يرتبط بالشام إلى مطعمه، ويسعى الآن لاستحضار النكهة الدمشقية بأدق تفاصيلها، مشيراً إلى، أن تمسكه بهويته الشامية وحلم العودة إليها في يوم من الأيام، لا يفارقانه أبداً.

من يدري لعلنا في يوم نشاهد شجرة النارنج تتموضع بجانب نافورة المياه، وعرائش الياسمين تنبعث منها روائح زكية لتملأ المكان، ولا يكون عليك سوى أن تغمض عينيك، وتتنشق عبق حضارة تمتد لخمسة آلاف عام قبل الميلاد، وأنت في مكانك.