“فزّاعة المحاصيل” و”بعبع أراضي الفستق الحلبي” ألقاب أطلقها مزارعون في ريف مدينة حماة على أشخاص عُرِفوا بنفوذهم القوي لدى الفروع الأمنية، واستغلوا هذا النفوذ لمصادرة واستملاك وضمان مواسم الفستق الحلبي وحرمان أصحابه من مواسمهم.
مثل غيره من المحاصيل، لم تسلم أشجار الفستق الحلبي من الأذى في الحملة الأخيرة التي شنتها قوات النظام السوري على ريفي حماة وإدلب عام 2019، وهو ما تظهره الأرقام الصادرة عن وزارة زراعة النظام بانخفاض إنتاج الفستق الحلبي إلى الثلث عنه في السنوات التي سبقت سيطرة النظام على قرى وبلدات في أرياف حماة، كان الفستق الحلبي العمود الفقري لحياة السكان فيها.
لم يكتف النظام بما أحدثه من تخريب في الأراضي الزراعية وحرمان أصحابها من العناية بها وإحراقها أحياناً ما أدى إلى تراجع زراعة الفستق الحلبي في حماة، بل عمد إلى حرمان المزارعين من محاصيل أراضيهم والتستر على الانتهاكات المتخذة بحق أصحاب الأراضي الفارّين من المعارك بهدف جني المحاصيل لصالحه عن طريق شبيحته، الذين كانوا واجهة للحصول على الأموال، فلجأ إلى تعديل وسنّ القوانين التي تُجرّد مالكي أراضي غير القاطنين في مناطق سيطرته من ملكيتهم لهذه الأراضي بذريعة “الإرهاب أو دعم الإرهاب أو عدم الوجود في المنطقة”.
يصف أبو أحمد، من مدينة مورك بريف حماة الشمالي، الإجراءات المتبعة بحق مزارعي الفستق الحلبي بأنها “تطبيق حرفي لشريعة الغاب، فالقوي يأكل الضعيف، حتى ولو كان صاحب الأرض موجوداً!”.
ويشتهر في كل منطقة “شخص ذو نفوذ قوي، هو”الآمر الناهي” يضع يده على أكثر الأراضي إنتاجاً للفستق الحلبي، بصرف النظر عن وجود صاحب الأرض من عدمه، ولا يستطيع أحد الاعتراض خوفاً من ردّة فعله، التي لن يُحاسَب عليها، والتي قد تطال صاحب الأرض أو الأرض نفسها”.
ويخشى الأهالي، وفق أبي أحمد، في ريف حماة الشمالي (كفرزيتا ومورك والأراضي المحيطة) من اسم “بحبوح”، أما في ريف إدلب “التمانعة وخان شيخون ومحيطها” فيخشى الأهالي من اسم “أبو أسد”، ويعتبر الأهالي هذان الشخصان بمثابة “فزاعة المنطقة”.
يروي أبو أحمد واحدة من القصص التي يتناقلها الأهالي عن شخص يملك أرضاً مساحتها 300 دنماً من الفستق الحلبي في التمانعة الشرقية، وفي إحدى جولاته في أرضه يظهر أمامه فجأة عدد من الشبيحة المصحوبين بقوات أمنية، سألوه “أين أرضك؟” فأجابهم: “هذه هي، ثم سألوه “كم مساحتها؟” فأجابهم “300 دونم”، لتظهر عليهم علامات الدهشة التي انتهت بقول كبيرهم: “أوووف.. كل هاي إلك؟ كتيرة عليك .. إلك منها 150 وإلنا 150 دنم” وسط عجز صاحب الأرض عن التعبير أو الاعتراض، حسب تعبير أبو أحمد.
كلام أبي أحمد ومن تحدثنا معهم تؤكده تقارير من مؤسسات ومنظمات دولية وثقت مصادرة واستملاك النظام السوري لآلاف الهكتارات في ريفي حماة وإدلب، بلغت في شباط 2021 نحو 440 ألف دونم، وما تزال المصادرات في ازدياد بشكل متواتر.
موسم القطاف يخلق فرص للعمل
تحتل سوريا، منذ عام 2008، الدرجة الرابعة عالمياً بإنتاج الأنواع المختلفة من الفستق (العاشوري -العليمي -البياضي-ناب الجمل-البندقي-رأس الخاروف -أبو ريحة -بيض الحمام ..) ، وتحل محافظة حماة في المرتبة الثانية، بعد مدينة حلب، بالإنتاج السنوي والمساحات المزروعة بالفستق الحلبي في سوريا والبالغة نحو 60 ألف هكتار، تشغل حماه نسبة 36% منها بمساحة مزروعة تزيد عن 21,4 ألف هكتار.
بحسب أرقام المجموعة الإحصائية التابعة لوزارة زراعة النظام، انخفض إنتاج سوريا من الفستق الحلبي في العام 2019 إلى النصف عنه في السنوات السابقة، في حماة انخفض الإنتاج إلى نحو ثلث ما كان عليه، وذلك لأسباب كثيرة سنشرحها لاحقاً خلال التقرير.
تراوح سعر كيلو الفستق الحلبي هذا العام بين 15-16 ألف ليرة سورية،نحو 4 دولارات للكيلوغرام الواحد، ضمن سوق الفستق الحلبي في مدينة مورك. ويستغل الأهالي موسم قطاف الفستق الحلبي للحصول على فرصة للعمل، إذ تتحول المنطقة إلى ما يشبه”خلية النحل”.
هبة، أرملة وأم لثلاثة أطفال، تعمل ضمن ورشة قطاف الفستق الحلبي تقول إن “أجرة العامل في موسم القطاف 5000 ليرة سورية للساعة الواحدة، بدوام خمس ساعات للوردية الواحدة، أي 25000 ل.س، نحو 6 دولار”. مضيفة أن “هناك ورديتان، صباحية ومسائية، ويعتبرها أهالي المنطقة فرصة للعمل والادخار”.
لعبة “المزادات”
مع نضج ثمار الفستق الحلبي هذا العام أعلن اتحاد فلاحي حماة عن مزادات لاستثمار أراضي الأشخاص غير الموجودين في مناطق سيطرة النظام ومنها مورك وكفرزيتا وعطشان وغيرها.
أبو علي، من قرية عطشان بريف حماة الشمالي ومهجّر إلى المخيمات شمالي إدلب، يقول لفوكس حلب: “إنّ المزاد على أراضي قرية عطشان افُتتح بمبلغ 500 ألف ليرة سورية للدونم الواحد، وهو ما يسمى بصفر المزاد، وغالباً ما يصل إلى 600-700 ألف ليرة سورية، يضاف إليها دفع قيمة التأمين ما بين 200-250 ألف ليرة سورية للدونم الواحد، وهذا ما حصل لأرضي البالغة 12 دونماً والتي استطاع أحد أقربائي استثمارها بعد أن رسى المزاد عليه”.
وأضاف: “أما الأراضي التي لم تُستثمر في المزاد، نتيجة عدم قدرة الأهالي على دفع القيمة، فتُعرض كدفعة واحدة وتسمى بـ”الكتلة”، هذه الكتلة يستثمرها الشبيحة وأصحاب النفوذ في الحكومة، مقابل دفع ربع القيمة التي طرحت في المزاد الأول عن كل دونم، كما أن المدعو حاتم اللبن الملقب بـ “بحبوح” صادر نحو 557 دونماً من أراضي الفستق الحلبي في قرية عطشان، بعدما أبلغ الأهالي بنيته مصادرة الأراضي لكل شخص لا يبرز بيان القيد العقاري لأرضه”.
لم يجنِ أبو حسن، من بلدة التمانعة الشرقية، يملك 45 دونماً من الفستق الحلبي، محصوله من الفستق الحلبي منذ 2016، إلا أنه لم يتخلَّ عن حراثة أرضه في قريته لتخليصها من العشب اليابس، خوفاً من احتراقها، ولم يكن الأمر بهذه السهولة فقد تمت الموافقة على ذلك مقابل أن يأخذ الشخص الوسيط، المفاوض بين المالك والشبيحة، حسب تعبير أبو حسن نسبة الثلث، التي زادت لاحقاً إلى النصف، ثم بعد ذلك لم يعد الوسيط يقبل بتسليم المال له وصار يبيع المحصول لصالحه.
حال أبو حسن مثل حال كثيرين قابلناهم، أكدوا أنه لا يوجد قاعدة ثابتة في هذه المسألة، كل شخص تختلف نتيجة تحصيله لأموال محصوله حسب سلطة الشخص الذي يستلم ملفه وحسب التنازلات التي يقدمها صاحب الأرض، وقد يكتفي البعض بالسماح لهم بحراثة الأرض والاهتمام بها وضمان عدم قطع أشجارها وبقاء ملكيتها لصاحبها، مقابل جني المحصول لصالح أحد أصحاب النفوذ.
خالد، من مدينة مورك بريف حماة الشمالي، يؤكد كلام من سبقه بقوله: “يعني باختصار لا صاحب الأرض الموجود حاصل على كامل رزقه ولا القاطن في المناطق المحررة، لأن الأشخاص الذين ذهبوا ليكونوا متابعين لأرزاقهم بات يُفرض عليهم دفع نسبة من الأرباح أو المحصول، ففي العام الماضي صدر قرار بعدم السماح إلا لمالك الأرض بجني المحصول، ويمنع مخالفة ذلك إلا بوكالة رسمية وطبعاً ضمن حصة أو ضريبة تفرضها الدولة”.
اليوم لم يعد باستطاعة أبي حسن وكذلك خالد ومن قابلناهم اختيار من سيهتمّ بأرضهم، فالقرار حَصَرَ حق الوصول للأرض لأشخاص يرسو عليهم المزاد العلني الذي تقيمه الحكومة، ولم يعد باستطاعة الأخ أو الأخت أو أحد الأقارب الموجودين في مناطق سيطرة النظام إلا نقل ما يجري للشخص القاطن في الشمال السوري أو خارج سوريا، كما بات طريق توكيل صاحب الأرض لأحد أقربائه مرهوناً بالحصول على الموافقات الأمنية الخاضعة لمزاج الفروع الأمنية وتقييمها للغائبين ومواقفهم السياسية.
فاطمة، من مدينة مورك، تعيش ذروة التوتر النفسي في الأشهر التي تحتاج فيها الأرض لعناية واهتمام، من الشهر السادس حتى الشهر التاسع، وهي ذروة فترة جني المحصول، حسب ما ترويه لنا.
حديث فاطمة، تعيش في مخيم أهل مورك في دير حسان بريف إدلب، مع جاراتها خلال هذه الأشهر يقتصر على الفستق الحلبي ومقارنة وضع عائلتها المادي السابق بما آلت إليه الظروف الحالية، وكيف سيكون حال أولادها العاطلين عن العمل لو أنهم كانوا في القرية يعملون في إحدى الوظائف التي توفرها معامل وسوق الفستق الحلبي كالقشارات، أو الكسارات، أو في الورشات.
تقول فاطمة: “استطاعت أختي الذهاب لمناطق سيطرة النظام خوفاّ من مصادرة أرضها وتحاول دائماً إقناعي باللحاق بها وتنقل لي حسراتها بعدم القدرة على الدفاع عن أرضي التي تبلغ 9 دونمات وهي امتداد لأرضها. اليوم يجني المحصول أناس غرباء، كسبوا المزاد، فصار لهم الحق القانوني بجني المحصول”.
تطابق الألقاب فرصة لكسب المزاد
منح النظام في العام الحالي أفضلية الحصول على حق الاستثمار في المزادات لمن تتطابق كنيته مع كنية صاحب الأرض، لكن البعض أساء استخدام هذا القرار بحسب أبي عبد الله، من مدينة كفرزيتا بريف حماة الشمالي، يقول: ” ما حدث هو أن أصحاب الكنيات المتطابقة في كل من ريفي حماة وإدلب الجنوبي دخل أحد أقاربهم بالتعاون مع شخص من الشبيحة السابقين، مقابل نسبة من العمولة”.
وأضاف: “الاستثمار من الأقارب هو استثمار شكلي، لقوننة سرقة المحاصيل من قبل النظام وأعوانه. صحيح أن بعض الأهالي استثمروا أراضيهم استثماراً حقيقياً، لكنها كانت عملية مكلفة قلّلت الأرباح بنسبة كبيرة”.
يعزو أبو عبدالله ضعف اعتراض أصحاب الأراضي على هذه القرارات إلى الخوف على الأشجار الموجودة في أراضيهم التي تبلغ أعمارها ما بين 30 لـ 40 سنة، لذلك فهم يقبلون باستثمار أراضيهم كحل أفضل من استفزاز النظام وشبيحته، فهم لا يستطيعون ردعهم عن حرق الأشجار أو قطعها، على عكس أصحاب ما يسمى بـ”أرض السليخ” الخالية من الشجر، فصاحبها يستطيع أن يتكلم ويعارض، حسب تعبير أبي عبد الله.
خالدية، من مدينة مورك، استطاعت العام الماضي كسب المزاد المعلن عن أرض أخيها المتواجد في تركيا، تقول: “أردت أن أرسل ما أجنيه من أموال هذا المحصول لأخي ، فهو صاحب الأرض، ليستفيد منها، لكن هذه التجربة كادت أن تودي بي إلى السجن، إذ لم أستطع تحصيل قيمة المزاد وإيفاء الرسوم للدولة من الموسم إلا في الدفعة الأخيرة من القطاف، وبالكاد استطعت تبرئة ذمتي أمام الحكومة وهذا ما عرضني للشكوك وتسبب في مشاكل عائلية كنت بغنى عنها، لن أكرر هذه التجربة هذا العام”.
عمليات النهب جرائم لا تسقط بالتقادم
عمل الناشط الحقوقي عبد الناصر حوشان على توثيق عمليات الاستيلاء غير المشروع على المواسم منذ بدايتها في شهر آب لعام 2019، بعد سيطرة قوات النظام على ريف حماة بالكامل، والمستمرة حتى الآن في كل من محافظتي حماة وإدلب.
يقول عبد الناصر لفوكس حلب: “تقدمت بمذكرات قانونية إلى لجنة التحقيق الدولية التي استجابت لدعوتنا وأرسلت فريقاً خاصاً بهذا الخصوص، وقمنا بأخذ إفادات الشهود والضحايا، بعدها صدر تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا في الأول من نيسان من العام الجاري، اعتبرت اللجنة فيها أن عملية الاستيلاء غير المشروع ترقى إلى جريمة “النهب أثناء النزاعات المسلحة”، وتعتبر من جرائم الحرب التي لا تسقط بالتقادم”.
وأضاف: “للأسف من المعروف أن عملية الاستيلاء على مواسم الفستق الحلبي هي “جريمة نهب” ترتكبها السلطة ذاتها والأنكى من ذلك أن القضاء شريك في هذه الجريمة، فالمحامي العام في كل محافظة من محافظات القطر هو عضو في اللجنة الأمنيّة والتي تقوم بكل هذه الجرائم باعتبارها تمثّل “الحكومة والقيادة السياسية والحزبية” أي السلطات الثلاث”.
أما عن الوكالة أو التفويض الذي يأخذ به النظام أحياناً في حال استطاع مالك الأرض الوصول لأحد أصحاب النفوذ لجني محصوله عن طريق الوكيل، يرى عبد الناصر “أن الوكالة من الناحية العملية لا قيمة لها، لأنّ صاحبها الموجود خارج سيطرة النظام سيدفع قيمة ما يرسو عليه المزاد على أرض موكله، بعد ذلك يحق له القيام بجني المحصول، وغالباً ما تكون الوكالات غير قانونية والنظام يعلم ذلك وأحياناً يسهل الأمر لأن الوكالة تعتبر تصرفاً قانونياً من صاحب الأرض، يشرعن للنظام جريمته”.
ويتابع عبد الناصر: “كما أن هناك تضييقاً في تنظيم الوكالات من خلال اشتراط الموافقة الأمنية، إذ أنهم يتهمون أي مالك أو وكيل يقوم بجني المحصول قبل دفع قيمة المزاد وموافقة الوحدة الإرشادية بارتكاب جريمة “سرقة المال العام” رغم أنه يملك الأرض بموجب الدستور والقانون، ويجب التأكيد على أن هذه المزادات باطلة بطلاناً مطلقاً، لأنها تخالف المادة 15 من الدستور والقانون المدني، والتي تستند إلى القانون 51 لعام 2004 وهو قانون خاص بالعقود العامة ولا يطبق على الأملاك الخاصة أبداً”.
بيع الأراضي أو إثبات الملكية يخلف عوائل مشتتة
وقع الكثير من الأهالي بين خيارين؛ إما أن يذهب صاحب الأرض الذي قد يكون رجل أو امرأة ممّن تعود ملكية الأرض له، بعد ضمان الطريق بدفع الأموال الكثيرة لتسوية وضعه لدى الأفرع الأمنية، ومن ثمّ بيع الأراضي وتحصيل ثمنها ولو بسعر قليل، أو البقاء في مخيمات اللجوء يتابعون أخبار أراضيهم بحسرة وقهر، يعانون الفقر والبطالة بينما يتنعم آخرون بأرزاقهم.
بعض العوائل اختارت الخيار الأول، لكن غالبيتهم اختاروا عدم البيع، واستغلالاً لهذه الظروف بيعت الأراضي بسعر أقل من قيمتها في السوق، فدونم الأرض الواحد والذي كانت قيمته تقدر بـ 7000 دولار يباع بـ 1000 دولار كحد أقصى.
تغيب الإحصائيات التي تحدد عدد الذين عادوا لمناطق سيطرة النظام لهذا الغرض وذلك كونهم يسلكون طرق التهريب للعبور لمناطق سيطرة النظام وهذه العودة تقتصر على عدد معين من أفراد العائلة وليس لكل العائلة، إذ تعيش الكثير من العوائل منفصلة عن رب الأسرة الذي ترك أسرته في مناطق الشمال السوري وذهب لجني محصوله وضمان عدم مصادرة أرضه، في حال رغبته بعدم بيعها، وفي محاولة منه للحفاظ على أرض أقاربه، إلا أنّ المحافظة على أرض الأقارب وجني محصولها غير ممكنة دون إجراءات يخسر من خلالها صاحب الأرض أكثر من نصف المحصول.