تسهم التحاليل في المخابر الطبية بتشخيص الأمراض وهي إحدى الركائز الأساسية التي يعتمد عليها الأطباء في علاج المرضى، لكن وفي مدينة حلب، تحوّلت تلك الآلية إلى مكان للسمسرة والاستثمار وأسهم غياب الرقابة الطبية عليها بارتكاب أخطاء قد تودي بحياة المرضى أو تفاقم مشكلاتهم الصحية.
فوكس حلب رصد مشكلة المخابر الطبية في حلب وطرق عملها وارتفاع أسعارها، كذلك التناسب بين قدرة السكان في الحصول على الخدمة الطبية ضمن متوسط دخلهم، وأثر ذلك على حياتهم الصحية.
المريض والمخبري خاسرون
في شهر أيار الماضي رُفعت سعر الوحدة المخبرية إلى1200 ليرة سورية، والوحدة عبارة عن قيمة ثابتة تضرب بسعر التحاليل المقدّر بعدد الوحدات، فعلى سبيل المثال: تحليل سكر الدم يعادل 2 وحدة مخبرية، والشحوم الثلاثية 5 وحدات مخبرية، وحمض البول والكرياتنين والكولستيرول 3 وحدات مخبرية لكل منها، أما الهرمونات والواسمات السرطانية فتتراوح قيمتها بين 16 و32 وحدة مخبرية، وهي قيم مرتفعة نسبياً بالنسبة لدخل المواطن ولكنها مجحفة جداً بالنسبة للمخابر، بحسب أسامة وهو طبيب مختص بالتشخيص المخبري.
وأضاف الطبيب المخبري ” قبل عام 2012 كان سعر الوحدة المخبرية خمسين ليرة سورية، رفعت قيمتها تدريجياً خلال السنوات العشر الماضية إلى أن وصلت هذا العام إلى 1200 ليرة، بما يعادل 25 ضعفاً”، ومع ذلك فإن “القيمة غير متناسبة مع التضخم وغلاء أجور العاملين وارتفاع أسعار المواد المخبرية المرتبط بالدولار أصلاً والتي تضاعفت لأكثر من 100 ضعف”
يقدّر أحمد (اسم مستعار لفني مخبري سنستخدمه خلال التقرير) قيمة أقل التحاليل المخبرية التي تطلب للمرضى بنحو 15 ألف ليرة، وتصل أحياناً إلى خمسين أو مئة ألف ليرة، وهو مبلغ لا يستطيع معظم سكان حلب الحصول عليه.
ويشرح الفني المخبري “كنا نتقاضى سعراً رمزياً لتحليل سكر الدم وهو 50 ليرة سورية، أما الآن فإننا نتقاضى مبلغ 2000 ليرة سورية، وبرغم ذلك نتهم بالجشع واللاإنسانية، وقس على ذلك بقية التحاليل”.
تدفع أم علاء، سيدة تسكن في حي طريق الباب، نحو خمسين ألف ليرة سورية كل شهرين ثمناً للتحاليل الدورية التي يطلبها الطبيب، تقول إن راتبها التقاعدي، وهو 90 ألف ليرة، لا يكفي لإجراء تحليل مخبري ودواء، وهو ما دفعها لتجاهل الاطمئنان على صحتها والاكتفاء بالأدوية التي ما تزال تستخدمها ولا تعرف إن كانت ما تزال تنفع في حالتها أم لا.
المخابر تدخل سوق المضاربات
منذ عام ونصف العام قامت وزارة الصحة بحل هيئة المخابر الطبية في سوريا والتي كانت صلة وصل بين الوزارة والمخابر العاملة في سورية من خلال إجراءات التراخيص والكشوف ومراقبة الجودة، أما الآن فإن الفوضى تعم سوق المخابر نتيجة عدم الالتزام بالتسعيرة وانتشار السمسرة بين الأطباء والمخابر.
وحول دقة التحاليل الطبية، أوضح د. غسان شنان رئيس هيئة المخابر سابقاً. “أنه نتيجة ارتفاع أسعار المواد المخبرية، أصبحت بعض المخابر في مدينة حلب تلجأ إلى استخدام مواد غير جيدة ورخيصة، ما يؤثر على نتيجة التحاليل، والمريض هنا لا يمكنه اكتشاف الأمر، لأنه يتعامل مع مادة غير ملموسة”.
وكشف د. شنان أن المخابر اليوم لا تخضع لرقابة نتيجة حل هيئة المخابر من قبل وزارة الصحة، دون وجود أسباب واضحة لذلك، علماً أنها تأسست منذ حوالي 45 عاماً، وكانت تقوم بجولات رقابية على المخابر في البلاد، لافتاً إلى أن عدد المخابر اليوم في سوريا يترواح بين ـ1000 – 1200 مخبراً، بعد أن كانت قبل عام 2011 أكثر من 1500 مخبراً.
يوجد في حي قهوة الشعار في مدينة حلب أكثر من خمسة عشر مختبراً تتنافس ضمن مساحة جغرافية ضيقة، حيث لا مخابر في المناطق المجاورة مثل طريق الباب والجزماتي ومدينة هنانو والصاخور والحيدرية، مما ساعد على انتشار المضاربات وكسر الأسعار ودفع النسب للأطباء في المنطقة من أجل طلب التحاليل، ما لزم منها ومالم يلزم، وأحيانا المبالغة فيها، ذلك أنها ترجع بدخل جيد للطبيب، حيث تصل النسب التي تدفعها بعض المخابر للأطباء إلى 50 بالمئة من قيمة التحاليل.
يقول أحمد “في المختبر الذي أعمل به نتعامل مع مجموعة من الأطباء يرسلون التحاليل إلى مختبرنا بشكل حصري ويحاصصوننا في الأرباح، إذ تبلغ حصة أحدهم وهو طبيب مختص بالأمراض الداخلية والقلبية أكثر من مليون ليرة سورية شهرياً، ونحن مضطرون لهذا كي لا نخسر الطبيب أو المريض، بالإضافة إلى أن بعضهم يتهمون بعض المخابر في مدينة حلب بسوء النتائج من أجل إقناع المريض بالتوجه حيث يشاؤون هم”
ويقول أبو بكري، مريض في طريق الباب: “بدأ الطبيب بالصراخ بعد أن رأى التحاليل التي قدمتها له بتوقيع مختبر غير الذي أرسلني إليه، وعندما أخبرته بثقتي بالمخبر الذي أجريت التحاليل فيه، قال بأنه سيكتب الوصفة الطبية على مسؤوليتي ومسؤولية المختبر، فما كان مني إلا أن مزقت وصفته الطبية وطالبته باسترجاع قيمة المعاينة كاملاً”
فساد طبي
لا يقتصر الفساد الطبي بين أطباء الاختصاصات الأخرى وإنما هو موجود بقوة بين أطباء المخابر وبخاصة من ناحية البحث عن المواد الرديئة والفنيين ذوي الأجور المنخفضة، وبخاصة أولئك الذي يتعاملون بالسمسرة، فلا يمكن أن يشكو طبيب من سوء نتائج مختبر يلقمه مالاً أواخر كل شهر وإن كان على حساب المريض.
وقد لوحظ مؤخراً توجه الكثير من الأطباء الخريجين نحو اختصاص المخابر، حيث يقومون بتأجير شهاداتهم أو عرضها للاستثمار مقابل مبلغ مادي مقطوع، وبدون أي مساهمة في التجهيزات أو العمل، وهذا الأمر غير موجود مطلقاً في المحافظات الأخرى.
الطبيب وليد تخرج منذ عامين باختصاص لتشخيص المخبري وطلب مبلغاً مقطوعاً يعادل 500 ألف ليرة سورية من أحد المخابر التي كانت بحاجة ملحة لتغطية طبية من طبيب اختصاصي، مستغلاً تلك الحاجة، ومعتبراً أنه مبلغ زهيد قياساً بما كان يتقاضاه أطباء المخبر قبل الحرب والذي كان يعادل ألف دولار تقريباً، وهذا بدوره ساهم برفع بدل إيجار الشهادات على مستوى المدينة.
تقول إحدى الطبيبات المخبريات وهي تحت الاختصاص في مخبر مشفى الرازي لإحدى زميلاتها “ميزة اختصاصنا أنك تجلسين في البيت وهتاك من يدفع لك”، بحسب ما روته لنا ممرضة كانت موجودة في المكان.
هذا السوق الذي أفرزه دخول طبقة التجار إلى المهن الطبية أدى إلى كوارث على مستوى المخابر والتي تحول الكثير منها إلى مشاريع تجارية ربحية فقط، لا تهتم بالجودة أو بسمعة المخابر الطبية في مدينة حلب على المستويات كافة، وهذا بدوره اضطر أطباء المخبر على تشكيل مجموعات دردشة خاصة على الواتس يتفقون فيها على رفع أجورهم والتحكم في تسويق شهاداتهم، حيث تجري المباحثات حالياً -حسب مصدر منهم-حول رفع المقابل المادي لبيع تراخيصهم، في مزاد سري مع تجار الشهادات، لكي يعيشوا حياة كريمة حسب زعمهم.
مستثمر إحدى الشهادات وهو من الفنيين المخبريين والذي يعمل في المخابر الطبية في مدينة حلب منذ 25 عاما يقول: “لقد أصبحت المخابر مهنة لاتسمن ولا تغني من جوع فأنا أدفع شهرياً راتب ممرضة بحدود 120 ألف وأمبير 180 ألف ليرة وراتب طبيب 500 ألف ومواد ومصاريف متفرقة 100 ألف، أي أنني بحاجة لدخل يومي يتجاوز 35 ألف ليرة يومياً حتى أغطي المصاريف الشهرية، وهذا الدخل قد لا يتحقق في بعض الأيام وبخاصة أنني لا أدفع نسباً للأطباء وأرفض السمسرة بالمطلق، فالمرضى أولى بالمراعاة والتخفيض والحسم”.
لا تنتج سوريا المواد المستخدمة في التحاليل الطبية وإنما تستورد أغلبها ماعدا شركة Medchim الوطنية، والتي يملكها طبيب المخبر الدكتور محمد كامل كبه وار، وهي شركة موادها- حسب رأي أطباء المخبر والفنيين- تخالف معايير الجودة والمادة الأولية الداخلة في التركيب، إضافة إلى أن مصدر المواد المتوافرة أغلبها هندي مثل شركة (tulip) متوسطة الجودة وشركة Biosystems الاسبانية الجيدة والباهظة الثمن نسبياً، بالإضافة لبعض الشركات غير المعروفة عالمياً مثل شركات المواد الصربية والايطالية والمصرية، وهذا بدوره أثر على جودة النتائج وتباينها لدى أغلب المخابر على مستوى سوريا.
خلال السنوات الأخيرة ومع بداية التضخم بدأ الكثير من المخبريين من أطباء وفنيين، بالبحث عن سبل أخرى للعيش الكريم وربما الهجرة خارج البلاد وبخاصة مع تفشي الفساد الطبي، وبخاصة في أجزاء حلب الشرقية، التي تحولت إلى بؤر للصراع الطبي ونهش جيوب المرضى.