انتهى موسم الحصاد في أغلب المناطق السورية منذ شهرين، ما دعا المؤسسات المختصة في سوريا، بحسب توزعاتها الإدارية، لتحديد سعر القمح، نظراً لأهميته في اقتصاد تلك المناطق، وحرصاً على سعر الخبز وتوفيره في الأسواق بكلفةٍ مخفضة، إذ حددت حكومة النظام السوري سعر طن القمح بمليون وسبعمائة ألف ليرة سورية، مع إضافة 300 ألف بمثابة مكافأة، ويعادل مجموع المبلغ نحو 500 دولار أمريكي.
القمح الوارد من المناطق غير الآمنة، كما جاء في التعميم الصادر عن مؤتمر الحبوب، الذي عقدته حكومة النظام بتاريخ 14 مايو 2022، حدّد السعر بمليونين ومائة ألف ليرة سورية، ما يعادل 530 دولاراً أمريكياً، أما في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، فحدد سعر طن القمح الواحد بمليونين ومائتي ألف ليرة سورية، ما يعادل 560 دولاراً أمريكياً، بينما حددت الحكومة السورية المؤقتة السعر بـ 475 دولاراً أمريكياً للطن الواحد.
تفاوت الأسعار دفع تجار الحبوب في مناطق ريف حلب الشمالي، الواقعة تحت سيطرة الحكومة المؤقتة، لاستغلال أوضاع الفلاحين المتردية، ودفع أسعار أفضل لقاء الحصول على محاصيلهم، بغية تهريبها وبيعها في مناطق سيطرة النظام أو قوات سورية الديموقراطية (قسد) بسعر أعلى بنحو 55 دولار عن السعر الذي حدده النظام.
عقب ذلك انطلقت نداءات الاستغاثة مِن الجهات المدنية والعاملة في مجالات العمل الإنساني والنشطاء في منطقة ريف حلب الشمالي والشرقي، لمنع رفع ثمن الخبز والحفاظ عليه بسعر يناسب الفئات كافة، والتي يعيش معظم سكانها تحت خط الفقر.
بناءً على ذلك، أصدرت الحكومة السورية المؤقتة تعميماً منعت فيه تهريب القمح ونقله إلا بإذن رسمي، وأسندت المهمة إلى كافة فروع الأجهزة الأمنية في مناطقها، وأوعزت لهم بتسيير دوريات على كامل الحدود مع مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. ومن خلال التعميم الذي أصدرته المؤقتة، أمرت بمصادرة الحمولة وتحويلها للمؤسسة العامة للحبوب أصولاً.
التهريب يتحدى جهود المؤسسات
في حديثه لـ فوكس حلب، قال محمد عرفان داديخي، مدير الرقابة الداخلية في المؤسسة العامة للمطاحن التابعة للحكومة السورية المؤقتة إن “الهدف الأساسي من عمل المؤسسة العامة للحبوب هو حماية القمح والمحافظة على زراعته وتشجيعها، بعدما تراجعت كثيراً بسبب عمليات النزوح والقصف الذي تعرضت له كامل سوريا منذ اندلاع الثورة.
وأضاف الداديخي: “عملت المؤسسة العامة للمطاحن خلال السنوات السابقة على أن يكون السعر منافساً للأسواق المجاورة ومشجعاً للمُزارعين أيضاً”.
وعن موسم القمح في العام الحالي، قال الداديخي: “في المؤسسة العامة للحبوب افتتحنا مركزنا منذ بداية شهر حزيران، وكانت مواقعنا جاهزة لاستقبال الموردين”، مؤكداً أن السعر الذي أصدرته الحكومة السورية المؤقتة لهذا الموسم هو الأعلى عالمياً، إذ تم تسعير الطن الواحد بسعر 475 دولاراً أمريكياً، وأيضاً هو أعلى من سعر “زراعة تركيا” بـ 50 دولاراً، وينافس السعر العالمي للقمح، رغم ارتفاع الأسعار بسبب العدوان الروسي على أوكرانيا والتسبب بأزمة القمح العالمية.
وحمّل الداديخي من أسماهم، التجار وضعاف النفوس، المسؤولية تهريب القمح، وأشار إلى أنه من المفيد أن نعلم قبل أن نطلق الاتهام بتهريب القمح، أن معظم المساحات المزروعة بالقمح في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون هي بعلية (غير ناضجة تماماً)، والكثير من المساحات لم تحصد بسبب الظروف الجوية التي مرت بها المنطقة، خصوصاً خلال نهاية فصل الشتاء وعواصف شهر أيار.
وأضاف الداديخي: “الإحصائيات غير متوفرة بشكل دقيق، لأن تقديرات الإنتاج غير دقيقة، بسبب غياب الدوائر الإحصائية في مديريات الزراعة التابعة للمجالس المحلية في المنطقة، إلا أن المساحات المروية من خلال مشاهدات مراكزهم قليلة، وهذا ما أسهم في انخفاض الإنتاج، حتى في المساحات المروية، بسبب الإصابة الشديدة بالسونة، وهو مرض يصيب القمح”.
واجهت المؤسسة العامة للمطاحن مشكلة مفاجئة هذا العام، إذ تأخرت مراجعة موردي القمح للمراكز مقارنة بالسنوات الماضية، فمثلاً في موسم 2020 كانت مواقع المؤسسة تسجل دوراً مسبقاً للتسويق، حتى أثيرت قضية تهريب القمح عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولاحقاً وسائل الإعلام.
ويرى الداديخي أنهم كمؤسسة ليسوا جهة تستطيع متابعة عمليات التهريب ومراقبتها، ويعتقد أن أسباب التهريب غير متعلقة بالسعر لأنه من غير المعقول مقارنة تسعيرتين، واحدة بالدولار والثانية بالليرة السورية فاقدة القيمة.
ويضيف: “إذا ناقشنا الأمر من حيث تصريف السعر بالليرة السورية على الدولار وكون الفارق ضعيف ولا يسد نفقات التهريب، يمكن إرجاع سبب التهريب إلى الخيانة والعمالة للنظام، أيّاً كان القائم بعمليات التهريب”.
وعن خطة المؤسسة لمواجهة عمليات التهريب، بيَّن أن مهمة المؤسسة إعداد خطة تسويقية وتسهيل عمليات الاستلام ودفع القيمة دون تأخير، وقد نفذت كل ما يتعلق بذلك، ولكون الإنتاج منخفض في أرياف حلب الشمالية والشرقية، ما يجعل المنطقة بحاجة أكبر للقمح، عملت المؤسسة على تعويض نقص الإنتاج بالشراء من مركزي تل أبيض ورأس العين، إذ بلغت مشترياتها 13 ألف طن حتى تاريخه، وستنقل تلك الكميات بالتعاون بين الحكومة السورية المؤقتة والحكومة التركية، على شكل شحن ترانزيت، من المركزين إلى فرع حلب.
وأكد الداديخي أن المؤسسة مستمرة بشراء القمح حسب توفر السيولة الناتجة عن بيع الطحين، وأنها تعمل بإمكانياتها البسيطة على شراء أكبر كمية ممكنة، وستستمر بالشراء طالما توفرت لديها السيولة ضمن خطتها بالوصول لشراء 25 ألف طن، إضافة لما يقدمه لهم صندوق الائتمان لإعادة إعمار سوريا، حيث سيقدم لهم خلال الأسابيع المقبلة مشروعاً بـ 13 ألف طن، إضافة إلى رصيد سابق قدره نحو 5 آلاف طن.
وكانت المؤسسة، بحسب الداديخي، قد قدمت خلال النصف الأول من هذا العام 15 ألف طن دقيق إلى المخابز.
وعن التعميم رقم 6 الصادر عن وزارة الداخلية في الحكومة المؤقتة، قال الداديخي إن المؤسسة لم تُسَلّم أي كميات مصادرة، وليس لديها علم إن كان هناك كميات تمت مصادرتها، ولا توجد أي مواصفات لقمح يمكن تصديره استثنتها الحكومة في قرارها من منع التصدير، بل كان المنع شاملاً، استشعاراً من الحكومة لخطر تهريب القمح وتصديره.
احتجاجات الأهالي ضد أزمة الخبز
ما بين عمليات التهريب ومحاولة إيقافها، يرى سكان في المنطقة أن ريف حلب الشمالي مهدد بكارثة إنسانية العام المقبل، في حال شح القمح وعدم توفر الطحين للمخابز بأسعارٍ مناسبة، الأمر الذي سينعكس سلباً على الكثير من السكان، خصوصاً أن السعر الحالي لربطة الخبز يراه البعض مرتفعاً، ما يجعلهم يشترون أقل من احتياجهم، الأمر الذي دعا نشطاء في المدينة إلى الخروج في مظاهرة في مدينة عفرين في الثاني من تموز الجاري، رفقة أهالي المدينة، حرصاً على قوت أبنائهم وأُسرهم.
تحدث أبو أحمد، أحد المتظاهرين، لـ فوكس حلب قائلاً: “المظاهرة خرجت اعتراضاً على إخراج القمح من المناطق المحررة إلى مناطق سيطرة نظام الأسد، ومناطق سيطرة الإدارة الذاتية، وتخوفاً من ارتفاع سعر الخبز في المنطقة”.
يرى أبو أحمد أن عمليات التهريب أثرت سلباً على كثيرين، ففي الوقت الذي تسببت فيه بتقوية اقتصاد المناطق التي يتم تهريب القمح إليها، تضرر اقتصاد المناطق المُحررة، مضيفاً أن تلك العمليات تتم من خلال المعابر غير الشرعية، عن طريق بعض التجار ضعاف النفوس، ويرجع السبب لوجود فرق السعر بين المناطق المحررة والمناطق الأخرى، وقد تصل الأسباب إلى الخيانة أحياناً بحسب وصفه.
أبو راجي، وهو أحد الأهالي، يقول إنه في حال ارتفع سعر الخبز فلن يستطيع شراءه، إذ سيفوق قدراته المالية، علماً أنه الآن يحتاج لربطتي خبز صباح كل يوم بسعرٍ يبلغ عشرين ليرة تركية، إذ تباع الربطة الواحدة، بوزن كيلو ونصف الكيلو غرام وتحتوي على 11 رغيفاً، بعشر ليرات، في حين أن متوسط الدخل اليومي في المنطقة يتراوح بين 40 إلى 50 ليرة تركية.
أما محمود، وهو يعمل في أحد الأفران داخل مدينة عفرين، فيصف الوضع بالمأساوي، بسبب شدة الفقر، وعدم قدرة الأهالي على شراء احتياجهم من الخبز، و يذكر محمود أن أحد زبائنه كان يشتري 5 ربطات من الخبز، عندما كان سعر الربطة 3 ليرات، أما الآن فهو يشتري ربطة ونصف الربطة، بنفس المبلغ الذي كان يدفعه لقاء الربطات الخمس.
وأضاف محمود أنه نحو 10 أشخاص يومياً يطلبون الخبز بالمجان من الفرن الذي يعمل به، لعدم قدرتهم على شرائه، أغلبهم من النساء والمسنين، ويختم حديثه بأن الوضع قد زاد عن قدرة الاحتمال.
في غياب دعم الخبز وعدم وجود رقابة تموينية، تباع أكياس الخبز بأوزانٍ متفاوتة وأحجام مختلفة للرغيف في غالبية المناطق، ما اضطر المجلس المحلي في مدينة الباب إلى إصدار قرار ببيع الخبز في فئتين مختلفتين اعتباراً من يوم 25 حزيران الماضي.
الفئة الأولى تباع في كيس أزرق بوزن 1400 غراماً، بسعر 4 ليرات تركية، والفئة الثانية تباع في كيس أخضر بوزن 700 غراماً بسعر 2 ليرة تركية.
استبشر بهذا القرار الأهالي في باقي المناطق، ظناً أن المجالس المحلية فيها ستصدر قرارات مماثلة، لكن إلى اليوم لم يحرك أحد ساكناً، ولا تزال آمالهم في رغيف الخبز معلقة بقرارات لا تأتي.