تغيرت خارطة وظيفة المحاماة تغيراً كبيراً في الشمال السوري، في السنوات التي أعقبت الحرب، وأصبحت الوظيفة تحمل تحديات عدة، خصوصاً بالنسبة إلى النساء المحاميات.
بعد سنوات من الدراسة والتحصيل العلمي، والاجتهاد من أجل نيل شهاداتهن، تواجه المحاميات السوريات صعوبات في مزاولة مهنتهن في إدلب، ليس فقط صعوبات اجتماعية، بل صعوبات ميدانية ومادية أيضاً، تسببت في انخفاض عدد مزاولات المهنة انخفاضاً كبيراً، مقارنة بزملائهن من الرجال.
التقينا بعدد من المحاميات العاملات بالمهنة وفي المجال الحقوقي، وتحدثنا معهن عمّا يواجههن من تحديات في عمل من طبيعة قاسية، لكنه يغدو أكثر صعوبة على نساء يعشن في مجتمعٍ تقليدي، ينمّط المرأة، ويحصرها في وظائف محددة، مثل المعلمة والطبيبة والممرضة، ويقف عائقاً أمامها كمحامية.
المحاميات في مواجهة المهنة والمجتمع
لا يمكن فصل طموح النساء السوريات في مزاولة مهنة المحاماة عن القيود الاجتماعية التي تحجم دور المرأة وحريتها، وهو مرتبط بأحلام التغيير التي كانت تسعى إليها النساء السوريات في بداية الثورة، لكن هذه الأحلام أجهضتها الحرب.
تعثرت أحلام السيدة مريم العلي (اسم مستعار)، 40 عاماً، في مزاولة مهنة المحاماة التي أحبتها، وكرست سنواتها الدراسية لتحصيل شهادة الحقوق من جامعة حلب قبل عشر سنوات، وواجهتها عقبات لم تجد لها تفسيراً في مدينة إدلب.
بدأت رحلة مريم بالتسجيل في نقابة المحاماة التابعة لحكومة الإنقاذ في إدلب العام الماضي، تمهيداً لبدء تدريبها عند أحد المحامين المسجلين بالنقابة، والذي يشترط أن يكون لديه مكتب محاماة.
كان من ضمن الشروط أن يستغرق التدريب مدة عامين، وبعد ذلك تحضّر المتدربة رسالة تقدمها وتشرحها أمام المحامين في النقابة، ثم تخضع لفحص مقابلة، فإن نجحت باجتياز جميع هذه الخطوات تنتقل إلى جدول الأساتذة المحامين.
ربما تبدو هذه الخطوات طبيعية لأي طالب محاماة، لكن مريم واجهت عقبات منذ الخطوة الأولى في رحلة تدريبها، فعند التحاقها بمكتب محام في العام الماضي لتبدأ تدريبها عنده، أعاقها أحد شروط تدريب السيدات، وهو ضرورة وجود رجل “محرم” من أقاربها معها في نفس المكتب، وإلا فلا يمكنها التدرب.
اضطرت مريم لاصطحاب زوجها أو أخيها، إلى المكتب في مدينة إدلب، لحضور التدريب، وتكبدت معاناة الوصول من مكان إقامتها في سلقين التي تبعد نحو ساعة ونصف الساعة عن إدلب المدينة، ناهيك عن صعوبة المواصلات التي حرمتها عدة مرات من حضور قضايا في المحكمة بسبب تأخرها عن الموعد.
لم تقف الصعوبات التي واجهت مريم عند هذا الحد، تقول: “كان المحامي الذي أتدرب عنده غير متعاون، وكثيراً ما يتهرب من اصطحابي معه إلى المحكمة، ويتحجج بأنه قد يتعرض للمساءلة في حال ذهبت معه في السيارة ذاتها إلى المحكمة”.
أسدلت مريم النقاب على وجهها خلال حديثها معنا، وقالت إنها مجبرة على ارتداء لباس معين يعرف باسم اللباس الشرعي في المحكمة والمكتب، كما أنها تتعرض للتفتيش قبل دخولها كل مرة إلى قاعة المحكمة مثل الأشخاص غير المحامين، ويُطلب منها التخلي عن هاتفها المحمول إلى حين انتهاء الجلسة.
كل هذه العوائق التي واجهت مريم جعلتها، وغيرها من المحاميات المتدربات، مكبّلات بقيودٍ وضوابط كثيرة قبل أن يخضن غمار مهنة المحاماة، تقول: “تعرقل حلم دراستي بكلية الحقوق منذ كانت طالبة ثانوي، فقد حال الزواج بيني وبين إكمال دراستي الجامعية، وبعد عشر سنوات عدت لأدرس القانون في الجامعة ونجحت رغم الظروف الصعبة، والآن أواجه تلك المصاعب الإضافية”.
المحاميات السوريات.. من المحاكم إلى المنظمات الإنسانية
تتحدث المحامية سعاد الحسين (اسم مستعار)، من مدينة إدلب، عن التحديات التي تواجهها وزميلاتها. تقول: “تواجه مهنة المحاماة في المنطقة إحجاماً من قبل المحاميات، بدا هذا واضحاً في السنوات الأخيرة، إذ فضلت كثيرات منهن العمل في مجالات أخرى، والتخلي عن ممارسة المهنة”.
أرجعت سعاد عزوف الحقوقيات عن العمل في أروقة المحاكم بالدرجة الأولى إلى قلة لجوء الناس إلى القضاء بشكل عام في مدينة إدلب، والاقتصار على القضايا المدنية، مثل الزواج والطلاق، ومعاملات البيع والشراء، ونقل الملكية.
في ظل هذا الانخفاض، أصبح نصيب المحاميات من القضايا هو الدعاوى التي ترفعها نساء مثلهن، إذ تفضل السيدات اللجوء إلى محامية، لقدرتها على التحدث معها بانفتاح وفي تفاصيل حساسة، مقارنة بالمحامي الرجل، كما يحدث في قضايا الطلاق.
لكن على الجانب الآخر، لا يفضل عدد كبير من الأشخاص اللجوء إلى محامية، لاعتقادهم أنها أضعف من الرجل، وأقل منه كفاءة في مزاولة المهنة، ولن تحصد نتائج مرضية في قضاياها.
كل هذه العوامل تسببت في تضييقات مادية على المحاميات، ووفقاً لسعاد فافتتاح مكتب خاص بالمحامية يمكنها من ممارسة عملها بات في غاية الصعوبة، بسبب ارتفاع تكاليف شراء أو استئجار وتجهيز المكتب، مقارنة بالمردود المادي القليل الذي توفره المهنة.
تقول الحسين: “عانيت شخصياً من الصعوبات المادية في مهنة المحاماة، وفي النهاية اكتفيت بالعمل من مكتبي في النقابة، بعد أن نقلت مكتبي الخاص إلى منزلي، لعدم قدرتي على افتتاح مكتب مستقل، بسبب قلة عدد القضايا التي تأتي إلى المحاكم”.
مع صعوبة مزاولة مهنة المحاماة في إدلب، فضلت كثيرات من العاملات في الشأن القانوني، وخريجات كلية المحاماة، العمل في المنظمات الانسانية، بعضهن ضمن اختصاص قانوني مثل “عاملات في التوعية القانونية” أو “مستشارات قانونيات”، وأخريات عملن في اختصاصات كالإعلام والتدريس والحماية، كونها ذات دخل مادي أفضل بكثير من العمل بالمحاماة، وفرصها أكثر توفراً، كما أنها أقل إجهاداً من مهنة المحامية التقليدية.
هذا ما حدث مع المحامية جميلة الأحمد، المقيمة بمدينة إدلب، إذ تخلت عن العمل بمهنة المحاماة، والتحقت بوظائف أخرى في منظمات المجتمع المدني. تقول: “العمل بالمنظمات أكثر راحة من العمل في المحاكم، كما أن الدخل المادي أفضل”.