في مفاجأة صدمت كثيرين، استلم طلاب المراحل الانتقالية في عفرين جلاءهم المدرسي، منتصف حزيران الحالي. جاء الجلاء باللغة التركية ترافقه ترجمة عربية، وكُتبت أسماء الطلبة باللغة العربية على الوجه الخارجي، وباللغتين التركية والعربية على الوجه الداخلي، مع عدم وجود راسبين على الإطلاق، نزولاً على تعليمات مديرية التربية.
عفرين وجنديرس وراجو، ثلاثة مراكز تربوية تتبع مركزاً رئيسياً في عفرين تحت مسمى “مديرية التربية والتعليم في غصن الزيتون”، لكنها تتبع فعلياً مديرية تربية هاتاي التركية، والتي يوجد منسق عنها في كل مركز تربية منها، ومن هذه التبعية تنبثق عشرات القرارات التي تؤثر على جيل سوري كامل.
اللغة التركية تناطح العربية في المدارس
في نهاية الفصل الدراسي الأول للعام المنصرم، أُقيم حفل بإحدى مدارس جنديرس، تخلله إلقاء الطلاب كلمات ترحيبية باللغة التركية، ورقصات على أغاني تركية، ومحادثات باللغة نفسها، أمام منصة منسق تربية جنديرس التركي، وعدد من مدراء المدارس أغلبهم لا يتحدث اللغة التركية.
عبَّر بعض المدرسين عن امتعاضهم من تلك الفعاليات سرّاً، إذ اعتبروها محاولات صارخة للتحول إلى اللغة التركية عبر جيل كامل من الأطفال. ويقول زياد، مدرس ممن حضروا الحفل: “كل عام تزداد ظاهرة الاتجاه للغة التركية بشكل كبير، تبعية التعليم تركية، واللغة التركية لغة رئيسية كاللغة العربية.. من غير المقبول هذا التحول الذي يشبه التتريك”.
يقف الأهالي عاجزين عن تعليم أبنائهم لغة لا يعرفونها، ولا تعتبر لغة عالمية منتشرة مثل الإنكليزية، خصوصاً مع ضعف مدرسي اللغة التركية بالمدارس، والذين لا يحملون غالباً شهادات جامعية، إذ وجد كثيرون أن معرفتهم باللغة التركية باتت مصدر رزق يؤهلهم للعمل بالتدريس، حتى وإن تحصّلوا على الشهادة الثانوية قبل عام واحد.
فاطمة، واحدة من أولياء الأمور الذين يواجهون صعوبات عديدة مع تعليم أولادهم مع هذا النظام الجديد، فتقول عن تدريسها لابنتها الطالبة بالصف الأول: “ما حاجة ابنتي للغة التركية لتعتبر مادة أساسية كالعربية في الصف الأول؟ أنا لا أهتم بتعليمها اللغة التركية والكردية بقدر اهتمامي بتعليمها اللغة الإنكليزية، كما أن مستوى معلمي اللغة التركية ضعيف”.
منذ العام الدراسي 2018-2019 أشرفت مديرية التربية التركية في ولاية هاتاي على التعليم في عفرين وريفها، مقابل إشراف تربية مدينة كلس التركية على مدارس الباب واعزاز وجرابلس، واعتمدت منسقاً ضمن كل مركز تربية، ذلك المنسق يعتبر مدير التربية الفعلي فيما يبقى دور مراكز التربية تلقي التعليمات عبر رسائل الواتس اب لتعميمها على مدراء المدارس، ومنهم إلى جميع المدرسين في مجموعات الواتس آب الخاصة بكل مدرسة.
اعتمدت مناهج تعليمية منقحة من قبل الحكومة المؤقتة، وهي نسخة مطابقة تقريباً لمناهج النظام الصادرة عام 2013، فيما ألغيت مادة التربية القومية، وأضيفت مادتا اللغة التركية كمادة إلزامية، واللغة الكردية كمادة اختيارية، وبقيت مادتا التاريخ والجغرافية بدون كتب.
يدرس الطالب أربع لغات هي العربية والتركية والإنكليزية والكردية، بواقع 12 حصة أسبوعية ما يعادل 40% من مجموع الحصص الأسبوعية، وقال مصطفى علي، مدرس في جنديرس: “اعتمدت اللغة التركية كلغة رئيسية ضمن المناهج التعليمية لهذا العام، وموازية للغة العربية بواقع أربع حصص أسبوعية، كل هذا على حساب اللغة الإنكليزية التي خُفِّضَت إلى حصتين ومثلها للغة الكردية الاختيارية، وذلك جراء تبعية التعليم بشكل مطلق للجانب التركي، كما أخضع جميع المدرسين على مدى عامين لدورات لغة تركية توقفت مع انتشار وباء كورونا عام 2020”.
مستوى التعليم آخر ما يهم المسؤولين
احتج مدرسون في عفرين وريفها خلال العام الدراسي المنصرم على مستوى التعليم، وعلى تدني أجورهم، واعتبارهم متطوعين بدون حقوق مع منحة لا تكفيهم أسبوعاً، واعترضو على أسلوب مديرية التربية في التعامل مع النظام التعليمي ككل، إذ لا يحتاج الطلاب للدراسة أو الالتزام بالدوام لينالوا النجاح.
لم تلق اعتراضات المدرسين آذاناً صاغية من قبل مديرية التربية، والتي بررت الوضع القائم بأن كثير من الطلاب مُهَجَّرين، والنجاح يعتبر تشجيعاً لهم، واعتبرت الاشتراك في مجموعة الاعتراض على الواتس آب تهمة تستوجب التحقيق من قبل المنسق التركي ومدير التربية، بحسب أحد المدرسين الذين التقيناهم في عفرين.
يقول أحد المدرسين: “التربية والمنسق التركي لا همَّ لهم إلا زيادة أعداد الطلاب المسجلين ضمن موقع التربية التركي SYOBIS، والذي يعتبر عفرين وضواحيها منطقة ضمن ولاية هاتاي التركية، ولا نعلم سبب ذلك، والأوامر واضحة بنجاح جميع الطلاب، أما التذرع بالتهجير لإهمال مستوى الطلاب التعليمي ليس إلا تدميرا لمستقبلهم، بالإضافة إلى أن كل مركز تربية يعتبر مستقلاً تماماً عن غيره، وتختلف كثير من الأوامر الموجهة إليها.. ذلك الفصل بين مديريات التربية يضيع إمكانية توحيد عملية التعليم”.
من أخطر المشكلات التي تواجهها المدارس وضع علامات تامة لمواد لم تُدَّرَس للطلاب ضمن الجلاء المدرسي، مثل مادتي المواطنة وتقنيات المعلومات، كما لم يُسجل فيها عدد الأيام التي غابها الطالب، سواء بمبرر أو بدونه.
المواطنة مادة لا يعلم المدرسون ماهيتها، ولا منهاج لها، حالها حال مادة الاجتماعيات التي باتت تقتصر على مادتي التاريخ والجغرافيا، وتُدَرَّسان من دون كتاب، بعد إلغاء مادة التربية القومية، التي كانت تمجد نظام الأسد.
اعتبر زياد العلي، مدرس في عفرين، وموكل بتنزيل علامة مادة المواطنة ضمن موقع التربية التركية SYOBIS، أن مادة المواطنة هي تمثيل لمادة التربية القومية من ناحية المسمى، إلا أننا لا نعلم تفاصيل عن محتواها، فهي لا تُدَرَّس وهذه هي السنة الأولى التي توضع ضمن الجلاء المدرسي.
نتائج الطلاب لا تعبر عن مستواهم التعليمي الحقيقي، فكل المواد غير الرئيسية مثل الموسيقى والرسم و النشاط ، يوضع لها علامة تامة للطالب، ليصبح مجموع المواد التي ينال فيها الطالب علامة تامة خمس مواد من أصل اثنتي عشرة مادة في المرحلة الابتدائية، وأربعة عشر مادة في المرحلة الإعدادية والثانوية، يقول العلي: “تلك المواد ترفع معدل الطالب بشكل كبير ولا توضح مستواه التعليمي الحقيقي”.
لا وجود لطلاب راسبين
فوجئ حسان الخالد، مدرس في ريف عفرين، بنجاح طالب بالصف الرابع بمعدل تجاوز 80% وهو لا يجيد القراءة والكتابة بالمطلق، يقول: “السبب هو التعليمات التي تلقاها مدراء المدارس ونقلوها للمدرسين شفهياً، بوضع علامة النجاح للطلاب في كل المواد وعدم ترسيب أحد.”
وأضاف الخالد: “توضع علامات الطلاب ضمن موقع SYOBIS التركي، والمواد الدراسية الرئيسية لها سبعة حقول، اثنان للمذاكرة والامتحان والخمسة الباقية للشفهي والوظائف، وبفرض أن الطالب رسب في المذاكرة والامتحان فيكفي أن تضع له علامة 50 في الجداول الخمسة الباقية لينال علامة النجاح، وهذا أحد أسباب عدم رسوب الطلاب بشكل شبه مطلق”.
بعدما علم الطلاب بقرار عدم الرسوب، لم تعد الدراسة تهمهم أو ترهبهم. يقول الخالد: إن بعض الطلاب أخبروه ما حاجتهم للمذاكرة إن كانوا سينجحون في كل الأحوال؟
الدهشة كانت نصيب عماد، مُهَجَّر من حماة، عندما رافق أبناءه لاستلام جلائهم المدرسي وطالعته النتائج الجيدة، يقول: “عانينا خلال هذا العام من ظروف عائلية صعبة لم تسمح بمتابعة دروس أبنائي، لكن نتائجهم التي قاربت 90% كانت صادمة، ومؤشرا على أن لا أهمية للتعليم في المدارس، ما ينذر بضياع جيل كامل”.
هدايا للطلاب أنهكت جيوب المدرسين
ينتظر الطلاب المتفوقون يوم استلام الجلاء ليفرحوا بما يقدمه له معلموهم من هدايا وامتيازات أمام بقية زملائهم، تلك الهدايا يدفع المدرس ثمنها من راتبه البالغ 1100 ليرة تركية، وهو ما يعادل 60 دولاراً تقريباً.
تقول فاطمة المحمد، مدرسة في عفرين، ومهجرة من دمشق: “أُدَرِّس الصف الأول وتشجيع تلاميذي بالهدايا ضروري جداً، وغالباً ما نقدم الامتيازات لجميع الطلاب. في صفي خمسون طالباً وطالبة، قدمت لهم جميعاً هدايا مع الجلاء، وذلك كلفني أكثر من 200 ليرة تركية وهو ما يعادل تقريبا 20% من راتبي الذي لا يكفي لدفع إيجار المنزل وثمن الكهرباء والانترنت”.
بحسب محمد الخليل، مدرس آخر في جنديرس، طلب مدير إحدى المدارس من المدرسين ألا يصرفوا الطلاب قبل التقاط العديد من الصور وهم يحملون الهدايا، لنشرها على موقع التربية، ما أحدث موجة من التندر بينهم مرددين: “الهدايا من المدرسين والبروظة للتربية”.
هروب الكفاءات والبديل بدون خبرة
بسبب تردي الأحوال المدرسية في عفرين والمناطق المحيطة بها، أصبحت المدارس جهاز طرد عملاقاً تهرب منه الكفاءات، فقد استغل كثير من المدرسين فرص عمل أفضل تضمن لهم راتباً أعلى، وهجروا المدارس، تاركين مقاعدهم لمدرسين جدد، بعضهم بدون خبرات، والبعض الآخر شق طريقه بالشهادة الثانوية والمحسوبية ليصبح معلماً في ليلة وضحاها.
ترتفع كل عام أعداد الطلاب الذين لا يجيدون القراءة والكتابة المنتقلين من صفوفهم إلى صفوف أعلى، ولا خطط منظمة من قبل مديريات التربية لمحاربة الأمية المتزايدة في المدارس، بل يقع الأمر على عاتق المدرسين بإمكانياتهم المحدودة، وبجهود لا تنجح إلا مع قليل من الطلاب، وهو ما اعتبره كثيرون، من المدرسين والأهالي، اتجاهاً متعمداً لنشر الجهل والأمية بين الطلاب، وحمّلوا مسؤوليته للتربية والجانب التركي المشرف على الأمر، وبينهم يبقى جيل سوري كامل مهدداً بالضياع.