“أكثر من التبن” هكذا يضرب السوريون المثل دلالة على وفرة الشيء وثمنه الزهيد، لكن هذه المقولة لم تعد صالحة في إدلب، بعد أن ارتفعت أسعار التبن إلى معدلات قياسية في الشتاء المنصرم، حتى وصل سعر الكيلو 10 ليرات تركية، نحو (0.74 دولار)، متفوقاً على الفاكهة من تفاح وبرتقال وموز وغيرها.
اليوم، وفي موسم الحصاد، يبلغ سعر كيلو التبن 4 ليرات تركية، وهو سعر مرتفع مقارنة بغيره من المحاصيل الزراعية، فسعر كيلو الخيار يبلغ ليرتين (0.12)، والبطيخ 3 ليرات (0.17 دولار)، وربطة الخبز التي يشتكي الناس من ارتفاع ثمنها 5 ليرات (0.29 دولار).
يقول عبد الجبار، وهو شاب مهجر من “أبو الظهور” ويقيم في شلخ شرقي إدلب، إنه يملك اليوم 70 رأساً من الغنم من أصل 150 رأساً كان يمتلكها العام الماضي، بعدما اضطر لبيع نصف القطيع ليشتري العلف، فيما وصفه بأن: “الغنم أكلت بعضها”.
“من راحت سراقب الغنم ما عادت تشبع” بهذه العبارة يلخص عبد الجبار سبب المأساة التي حلت بالمواشي، بداية من ارتفاع أسعار التبن والعلف، وندرة المراعي، ما دفع المربين لبيعها بأبخس الأثمان، فأفضل نعجة يبلغ سعرها اليوم 1000 ليرة تركية (57,8 دولاراً)، وفقاً للتجار.
التهجير الكبير، الذي تسببت به سيطرة قوات النظام على مساحات شاسعة في أرياف حماه وإدلب وحلب مطلع العام 2020، أجبر مربو الأغنام على النزوح مع قطعانهم إلى منطقة ضيقة، جعلتهم يعتمدون على شراء العلف والتبن بسبب ندرة المراعي، وإقامة نحو 1400 مخيم على مساحات شاسعة من الأراضي في أرياف إدلب وحلب شمالي غربي سوريا بحسب الأمم المتحدة.
يقول عبد الجبار عن صعوبة الأوضاع: “كل شيء نشتريه بـ الدولار، إلاّ الغنم نبيعه بالتركي”، مضيفاً أن سعر كيس الشعير التركي المسترطب بـ700 و800 ليرة تركية (نحو 50 دولاراً)، وهو ما يساوي ثمن خروف يزن 40 كيلوغراماً. ويُباع كيلو حليب الغنم بـ 13 ليرة تركية (0,75 دولار)، وكيلو الجبن بـ 40 ليرة (2.31 دولار).
يضيف عبد الجبار: “آخر دفعة بعتها من القطيع كانت 15 رأساً بـ 350 دولار قبل شهر”، وعند سؤاله عن سبب بيعه نعجاته بهذا السعر الزهيد، بينما يباع كيلو اللحم بـ 100 ليرة تركية، أجاب: “اللحم غالي فقط عند القصاب، لكنه بالسوق ببلاش، وأفضل نعجة تباع اليوم بألف ليرة تركية (57 دولاراً)”.
يوضح تيسير عليوي، مربي أغنام، أن الغنم الذي يباع للقصاب مختلف، ويحتاج لأصناف مخصصة من العلف، وتسمى الخراف التي تُعلف وتُسمن “خراف رباطة”، ولا يناسبها الرعي أو التبن العادي، من أجل الحصول على اللحم والوزن المطلوب، لذلك يكون سعرها أعلى، إضافة إلى هامش ربح القصاب، لهذا يباع اللحم بسعرٍ مرتفع رغم انخفاض أسعار المواشي.
يتزامن موسم التبن مع موسم الحصاد، فهو بقايا القش الذي تفرمه الحصادات، بعد أن تفرز منه حبوب المحاصيل من القمح والشعير والفول والعدس.
في الماضي كانت أكوام التبن تتراكم على الأرض بعد الحصاد، لا أحد يطلبها أو يشتريها، وبعض الفلاحين كانوا يحرقونها ليتمكنوا من حرث الأرض، والبعض كان يتركها تتعفن بالرطوبة ثم يستخدمها كسمادٍ طبيعي.
تغيرت الحال اليوم، وأصبح تجار التبن ومربو المواشي يتسابقون لشراء أكوام التبن فور حصادها، وحتى القش أصبح يُضَمنه صاحب الأرض (يؤجر الأرض للمربين للانتفاع ببقايا الحصاد فيها)، ويصل ضمان هكتار القش إلى 150 دولاراً يدفعها صاحب القطيع لصاحب الأرض مقابل السماح له برعي قطيعه للقش المتبقي في الأرض بعد الحصاد.
أصبحت الحصادات تجتز المحصول كاملاً، فلا يبقى من ساق القمح والشعير سوى ارتفاع إصبعين فوق الأرض، لضمان إنتاج أكبر كمية ممكنة من التبن وبيعه، بخلاف الأعوام السابقة، فكانت الحصادات تترك نحو 20 سم من ساق المحصول في الأرض ترعاه الأغنام بشكل مجاني.
يقول محمود، وهو مزارع شاب من بلدة زردنا، إن إنتاج أرضه من التبن هذا العام يساوي إنتاجها من القمح، فسعر طن القمح الذي أنتجه حقله، تبلغ مساحته 10 دونمات، بلغ 525 دولاراً، بينما باع التبن الناتج عنه بـ 520 دولاراً، بالإضافة إلى تضمينه القش المتبقي في الأرض بعد الحصاد بـ100 دولار.
يقول محمود: “الفلاح لا يُحسَد، فسعر التبن المرتفع ليس ربحاً له، بل تعويض عن خسارته بسبب الموسم الضعيف. فإنتاج حقل القمح من المفترض أن يكون ثلاثة أطنان في الأعوام العادية، ويصل إلى أربعة في سنين الخير والمطر الوفير، لكن الحقول هذا العام لم تُخرج سوى ربع إنتاجها”.
أبو محمد، مهجر من قرية المشيرفة قرب معرة النعمان، يعيش مع عائلته في خيمة نصبها في أرض زراعية غربي بلدة زردنا، وبجانبهم ما تبقى من القطيع الذي اضطر العام الماضي لبيع ثلثيه ليؤمن التبن والعلف للثلث الباقي، يقول إنه سابقاً كان يُسمح للرعاة برعي المواشي في الأراضي المحصودة مجاناً، أما اليوم فهم يدفعون مقابل ذلك ولفترة محددة، فصاحب الحقل أعطاه مهلة حتى منتصف تموز القادم وبعدها سوف يحرث الأرض.
في العام الماضي كان لدى أبو محمد 120 رأساً من الغنم، اضطر لبيع ثلثيها ولم يتبق لديه منها سوى 40 رأس سَلِمت من البيع والذبح. يقول: “لو تاجَرت في العلف والتبن الذي كنت أمتلكه في بداية العام لربحت أكثر مما ربحت من القطيع، فقد أطعمت غنماتي ما يزيد عن ثلاثة أضعاف ثمنها، ومع هذا لا يمكنني التخلي عن تربيتها”.
تمنع إدارة المعابر في إدلب إخراج التبن من مناطق سيطرت حكومة الإنقاذ، ما يَسُر مربي المواشي بالمنطقة، والذين عبروا عن خشيتهم من فتح الطريق أمام التبن وإخراجه إلى عفرين، والتي تزرع الحبوب بنسبة أقل من إدلب، كي لا يتضاعف سعره.
مع طلوع الشمس كل صباح يبدأ العمال تعبئة التبن، مستغلين برودة الطقس وهدوء الرياح في ساعات الصباح الباكر، فالرياح القوية تعيق عملهم وتبعثر التبن أثناء تعبئته بـ “الشلول”. عند الظهيرة يأخذ العاملون استراحة لتجنب العمل في الحر الشديد، ثم يعودون إلى العمل عند العصر وحتى غياب الشمس.
يعمل عباس، وهو شاب مهجر من ريف معرة النعمان، ويعيش بمخيم الأندلس الثاني على طريق شلخ جنوبي بلدة زردنا، في تعبئة شلول التبن، ويتقاضى ليرتين تركيتين مقابل تعبئة الشل الواحد، يقول إن عمله المتقطع هذا أربح من المياومة التي لن تتجاوز 30 ليرة (1,7 دولار) في اليوم، فضلاً عن عدم وجود رب عمل يحثه على الإسراع وزيادة الإنتاج، وتشجعه ظروف عمله على تعبئة أكبر قدر ممكن من الشلول، يتقاضى أجرها نهاية اليوم.
معظم العاملين بتعبئة التبن في الحقول التي زرناها مهجرين من ريف معرة النعمان، يقولون إن تربية المواشي وتأمين التبن كان عملهم الأصلي قبل تهجيرهم منذ أكثر من عامين، ولا يهتمون بالزراعات المروية كما هو الحال في ريف إدلب الشمالي.
يتحدث سامي عليوي، وهو تاجر تبن ورث مهنته عن أبيه وجده، عن أزمة التبن ، قائلاً إن سببها هو ضيق المنطقة التي يستطيع السكان التنقل داخلها في إدلب، وأرياف حلب الخارجة عن سيطرة النظام السوري، فضلاً عن أن معظم المساحات جبلية، وقد قلّت المساحات الصالحة للزراعة، بالإضافة إلى زيادة أعداد الثروة الحيوانية مقارنة بمساحة الأراضي.
من أسباب الأزمة أيضاً اتجاه الفلاحين لزراعة محاصيل اقتصادية عطرية كالحبة السوداء والعُصْفُر والكمون على حساب زراعة القمح والشعير والحبوب، التي تنتج التبن.
تحسنت زراعة القمح نسبياً هذا العام، مقارنة بالأعوام الثلاثة السابقة، بعد تحذيرات ومناشدات لدعم وتشجيع المحصول الاستراتيجي، بالتزامن مع تراجع أعداد المواشي بسبب أزمة العلف والمراعي المستمرة من أكثر من عامين، فأصبح لدينا “سوق خزين”، من المفروض أن يسمح ببيع كيلو التبن بليرة تركية، وفقاً لتوضيحات تاجر التبن، سامي عليوي.
سوء تخزين التبن في العام الماضي سبب مشكلة كبيرة، فقد تهاون المربون في تخزينه بعد الحصاد، وكانت تركيا بدورها تسمح بدخول الفائض لإدلب، ثم منعت دخوله فارتفع سعر الكيلو حتى 10 ليرات تركية، نحو (0.74 دولار) في ذلك الوقت.
تهيأ التجار هذا العام لشراء التبن وتخزينه، فلم يعد بمقدور المربين شرائه لارتفاع ثمنه، حتى لو باعوا مواشيهم لن يمكنهم شراء العلف اللازم لها.
يقول سامي العليوي: “هناك احتكار من قبل التجار بشكل عام، فقد أصبح كل من يملك رأس مالٍ يبلغ 15 أو 20 ألف دولار قادراً على استثمار أمواله في شراء التبن وتخزينه، أمّا أصحاب الثروة الحيوانية فمعظمهم لم يخزن المؤونة لمواشيهم، ولن يستطيعوا الآن نتيجة سوء أوضاعهم المادية، ويضطر المربي لبيع غنمه حتى يستطيع شراء التبن، لكن ماذا سيفعل به إذا باع الماشية؟”.
أصبح معظم التبن تحت تصرف التجار وسيطرة رؤوس الأموال، ولم يعد أحد يستطيع شراءه اليوم بعدما بلغ سعر الطن 200 دولار، ويتوقع سامي أن يرتفع السعر خلال الفترة القادمة حتى عيد الأضحى، ويعاود الانخفاض مع بداية الشتاء، ليصل إلى ليرتين، نتيجة الكميات الكبيرة المخزنة ومنع تصدير التبن أو إخراجه من المنطقة.
ويرى سامي أن حل أزمة التبن ليس سهلاً، فالمنظمات لا تدعم مربي الثروة الحيوانية، وإن دعمت فبشكل محدود لا يفي بالغرض، وتركيا تمنع إدخال التبن التركي إلى المنطقة، وبعد أن اشترى التجار التبن العام الماضي بـ 70 و80 قرش تركي (0.05 دولار)، منعت السلطات التركية نقله للمنطقة.
يرى كل من التجار والمربين أن تركيا لو سمحت بدخول فائض التبن لهم لاعتدلت أحوالهم، لكن ما يحدث هو أن الفلاح أصبح يمشي خلف الحصادة، يعد أكوام التبن عوضاً عن عد أكياس القمح.