تختصر عائلات في جنديرس بريف عفرين أصنافاً كثيرة من أساسيات الطعام على موائدهم، إذ لم تعد اللحوم بألوانها الحمراء والبيضاء تزور مطابخ ربات المنزل إلا لماماً، أما الفاكهة فتحولت إلى زينة على بسطات أصحاب المحلات التي أغلق عدد منها نتيجة نقص الزبائن، ودخل الخبز سياسة الترشيد، يشبه ما يحدث من ارتفاع للأسعار ما عاشه سكان وقت الحصار، بعد أن فقدت الليرة التركية أكثر من نصف قيمتها لتستقر عند سعر يزيد عن ثلاث عشرة ليرة للدولار الواحد، في الوقت الذي حافظت فيه الأجور على ثباتها.
اللحم الأحمر محرّم على سكان في جنديرس
أغلقت ثلاث محلات لبيع اللحوم أبوابها خلال الفترة الماضية نتيجة ضعف الطلب على شرائها، يقول أبو عماد صاحب محل لبيع لحم الخراف يتوسط سوق جنديرس.
ويروي أبو عماد أنه وفي كل شهر يفقد عدداً من زبائنه نتيجة ارتفاع الأسعار، إذ انخفضت مبيعاته اليومية إلى الثلث، وأصبح الطلب على لحم الخراف مقتصراً على العزائم والمناسبات، أو بكميات قليلة ضمن ما وصفه بـ “شم ولا تدوق”.
يقول أبو عماد إن سعر كيلو لحم الخراف تجاوز حدود مئة ليرة تركية، نحو ثمن راتب موظف أو عامل مياومة ويزيد عن ذلك بقليل، وقد وصل سعر الخروف في أيام ماضية إلى مئة وخمسين ليرة، وإن الزبائن يطلبون لحماً بنحو عشر ليرات أحياناً، ما يعادل مئة غرام، لا يمكن نزعها من الكيس، لكن ما باليد حيلة، على حد وصفه.
حافظ أبو عماد على محله من الإغلاق، يقول إن توسطه للسوق سمح له بالاستمرار، لكن بأرباح لا تغطي نفقة الإيجار والطعام والفواتير الكثيرة. يقول إن كثر من سكان المدينة لم يدخل اللحم إلى بيوتهم منذ سنوات، قسم منهم نسي طعمه بالكامل، والتحق بهم اليوم معظم سكان المدينة بعد ارتفاع الأسعار وانخفاض الدخل.
اللحم الأبيض يدخل بوابة التحريم
استعاض سكان في المدينة باللحم الأبيض “الفروج” عن الأحمر، وأدخلوه في مكونات الأطعمة التي لم يألفوا وجوده فيها كحل، لكن وفي ظل ارتفاع الأسعار الأخير خرج الفروج أيضاً من قائمة الأغذية عند كثير من سكان جنديرس، تقول دعاء، ربة منزل تسكن جنديرس، إن اللحم الأبيض كان يدخل بيتها مرتين شهرياً، لكنه منذ أشهر بات محرماً بعد تضاعف سعره.
لم ينقص عدد محلات الفروج النيء على كثرتها، لكنها فقدت الكثير من زبائنها، يقول اسماعيل صاحب أحد محلات بيع الفروج في جنديرس: “لا يمكن للعائلات الاستغناء عن لحم الدواجن فهو يتصدر موائد العائلات ، لكن زبائننا باتوا يشترون أرخصها وبكميات أقل”.
يظهر تراجع بيع الفروج على شواية أبو جهاد، صاحب محل فروج مشوي، إذ اكتفى بنصف كمية ما كان يشويه سابقاً ونصف حجم سيخ الشاورما الذي كان يبيعه قبل حلول المساء.
يقدر أبو جهاد انخفاض مبيعاته بالنصف، يقول “هناك أولويات عند السكان، اللحوم ليست في سلّمها، هناك زبائن لم أرهم منذ شهرين”.
يعجز الموظفون والعمال، ممن يتقاضون رواتبهم بالليرة التركية، عن إعادة الفروج إلى قائمة أساسياتهم، يقول صلاح، وهو مدرس في جنديرس يتقاضى نحو سبعمائة وخمسين ليرة تركية شهرياً، إنه اعتاد شراء فروج مشوي لعائلته مطلع كل شهر بعد أن يقبض نقوده. لكن ما بقي في جيبه لهذا الشهر لا يكف لشراء فروج مشوي فكيف سيؤمن ثمن الخبز!
يفصل صلاح ما يحدث، يقول إن “إيجار المنزل تضاعف ليأكل أزيد من نصف راتبي، كذلك فاتورة الكهرباء التي ارتفعت لتصبح ليرة تركية عن كل كيلو واط، كما سددت بعض الديون، وتمكنت من شراء نصف كيلو غرام من القهوة، التي سنستغني عنها أيضاً فيما يبدو، بعد أن تخطى ثمنها مئة وعشرين ليرة تركية، أما الفروج فأصبح بستين ليرة تركية”.
الخبز المقنن
فقد العاملون نحو نصف قيمة دخلهم الشهري، ما يعني فقدان أشياء رئيسية من المنزل، نصف كمية الخبز المعتادة يومياً هي أكثر ما حدثنا عنه من التقيناهم، مهجرون شبهوا ما يحدث بأيام الحصار، يقول خالد محمد، مهجر من دمشق، “كنا في بداية الحصار وقبل فقدان الخبز بشكل كامل نوفر خبز يوم ليكفي ليومين أو ثلاثة، الآن نعيد ما كنا نفعله خارج الحصار، فوزن ربطة الخبز 600 غراماً، عشرة أرغفة، يحتاج الشخص البالغ نحو نصف ربطة يومياً على أقل تقدير، صرنا نأكل خبزتين ونشعر أننا أكلنا أكثر مما يجب”.
في ثلاث محلات تجارية تحدثنا إلى أصحابها كان الطلب على الألبان ومشتقاتها والبيض قد تراجع إلى ما يزيد عن النصف أيضاً، وباتت أسر متوسطة الحال تعجز عن إدخالها إلى منازلها، تقول عفاف، مدرسة في جنديرس “من النادر تواجد هذه الأنواع في المنزل اليوم، ثمن ربطة الخبز نحو خمس ليرات، لم يعد لي رغبة حتى بالطعام، وتفاقم عندي الإحساس بالذنب لإنجابي أطفالاً وحرمانهم من أبس حقوقهم في تناول الطعام”.
فاكهة للزينة وصحن السلطة فقط في رمضان
لم تنج بسطات ومحلات الخضار من التأثر بانخفاض المبيعات، لكنها بقيت الأكثر مبيعاً ضمن الخضار الموسمية، والابتعاد عن الأصناف مرتفعة الثمن، ويزيد سعر أي نوع من الخضار عن ثلاث ليرات تركية، أما الفاكهة فهي “زينة البسطة” بحسب عماد صاحب محل بيع خضار في جنديرس، والذي قال إن شرائها يقتصر على من وصفهم بـ “الميسورين”، وهم قلة على حد قوله.
وجود الأرز والبرغل في سلل الإغاثة أبقى على حضورهما في قائمة الأطعمة، أحياناً رفقة صحن من اللبن وغالباً بدونه، ومع عدم حاجتهما للخبز يتصدران طبق كل يوم، أما صحن السلطة فما يزال غائبا منذ رمضان الفائت.
هبوط سعر الليرة التركية، منذ مطلع العام الفائت، ترك رفوف المطابخ شبه خالية من مونة الشتاء والاستعاضة عنها بالمونة الجاهزة الأقل جودة، تقول ريم، ربة منزل في جنديرس، إنها صنعت كمية قليلة من المكدوس “للشهوة”، واعتمدت على اللبن المصفى، مسحوب خيره، كما وصفته، في عمل اللبنة ومربى مشمس جاهز من السوق و زيتون من نوع واحد فـ “مونة الإفطار الجاهزة تكون أقل جودة ولذة لكنها أقل تكلفة، لا يمكن الاستغناء عنها فهي فطور الأطفال، نشتريها بكميات قليل وعند الحاجة”.
ضرب يديه ببعضهما البعض وهو يهرب من سؤالنا أحد الأشخاص داخل محل لبيع الخضار عما نقص في “سفرة طعامه”، قال إن علينا أن نعيد صاغة السؤال، ما الذي بقي فيها؟
يشتري متوسط دخل الفرد في جنديرس، وهو أقل من دولارين يومياً، أربعة كيلو غرامات من اللحم الأحمر، وعشرة كيلو غرامات من الفروج، وبمقياس الخبز، فإن ثمن ثلاث ربطات خبز يومياً تزيد تكلفتها عن ثلاثة أرباع الراتب، هذا إن استثنيا إيجار البيت والفواتير المرافقة له، لتغيب عن “سفرة الطعام” أساسياتها، وتخرج من قائمتها كل يوم صنف من الأصناف، ما يزيد من قساوة الحياة على ربات المنزل الحائرات في تأمين طبق يشبع أطفالهن دون أن يفكرن بعناصر التغذية من فيتامينات وبروتينات وغيرها، ما يترك أثره على صحتهم وحياتهم.