فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

المونة “كل يوم بيومه” في إدلب

لا تغيب أصوات الباعة الجوالين عن قرى وبلدات إدلب في هذا العام للمناداة على منتجات المونة، ومع قلة الراغبين بالشراء والتي تراجع أعدادهم بنسب كبيرة بحسب أبو صطيف (بائع جوّال موسمي)، والذي قدّر هذا التراجع بما يزيد عن 70% عن الأعوام السابقة، إلّا أن “ضرورة المونة في البيوت السورية ونقّ النساء” يجبر الأزواج على الشراء والنزول عند رغبة نسائهم، يضحك وهو يخبرنا “لولا النسوان ما كان حدا موّن”.

غاب اللون الأحمر عن أسطح معظم المناطق في إدلب بعد أن رافقها لسنوات طويلة لا يُعرف تاريخها في موسم “دبس البندورة والفليفلة”، مونة السوريين لشتاءات قاسية والطعام المرافق لمدافئ الشتاء وموائدها، واستبدل بمعلبات كان استعمالها مقتصراً على بعض العائلات في المدن، بمذاق مختلف لا يستسيغه السكان، وذلك لأسباب كثيرة أهمها انعدام الأمن والاستقرار وغلاء أسعار المنتجات اللازمة للمؤن والتي تنحصر جلها خلال شهري تموز وآب من كل عام.

“ما في بيت ما كان يمون” تقول الحاجة أم محمد من جبل الزاوية والتي تحكي عن أيام طوال وساعات من العمل الشاق كانت النساء تقضيها في تحضير المؤونة من “دبس البندورة والفليفلة والمكدوس والمخللات بأنواعها، إضافة للقديد والمجففات كالباذنجان والكوسا والقرع والزبيب والمشمش والتين اليابسين ومنتجات الألبان كالجبنة والدبيركة دون أن ننسى المربيات بأنواعها كالمشمش والوشنا والتين والقرع كذلك مونة الملوخية وورق العنب والبازلاء والفول الأخضر”، وسط أجواء من الفرح والتآلف الاجتماعي، والمفاخرة باللون والمذاق، وتحضير الكميات الكافية لمؤونة البيت وإرسال جزء منها كهدايا أو إلى الأبناء الذين يعملون أو يدرسون في المدن.

لا تغيب أصوات الباعة الجوالين عن قرى وبلدات إدلب في هذا العام للمناداة على منتجات المونة، ومع قلة الراغبين بالشراء والتي تراجع أعدادهم بنسب كبيرة بحسب أبو صطيف (بائع جوّال موسمي)، والذي قدّر هذا التراجع بما يزيد عن 70% عن الأعوام السابقة، إلّا أن “ضرورة المونة في البيوت السورية ونقّ النساء” يجبر الأزواج على الشراء والنزول عند رغبة نسائهم، يضحك وهو يخبرنا “لولا النسوان ما كان حدا موّن”.

تقول “أم أحمد” من ريف جبل الزاوية إنه ليس بالإمكان الاستغناء عن المونة فمعظم المواد الجاهزة في الأسواق لا تصل إلى مذاق تلك المصنعة منزلياً، خاصة مع عدم معرفة طريقة صنعها والمكونات المضافة إليها، وهو ما دفعها لشراء البندورة الطازجة لصناعة الدبس، تقول إنها حصلت عليها بسعر ثلاثين ليرة للكيلو غرام وقامت بعصرها وتحضيرها للشتاء، كما استطاعت “كبس ورق العنب”، و “قناني الحصرم” من منتجات الحقل الذي تملكه. وعلى رفوف مطبخها تصطف “قطرميزات المكدوس المكبوس”، في الوقت الذي امتلأت غرف منزلها بالملوخية المنشورة لتجف “اشتريتها كل عشرين كيلو غرام بألف”، في انتظار إكمال تحضيراتها الشتوية بالمجففات والمربيات وبذلك تكون مستعدة لاستقبال فصل الشتاء.

لا تثق أم محمود (رفيقة أم محمد وجارتها) بمنتجات الحليب التي تباع في الأسواق، ولذلك عملت على تحضير مؤونة الشتاء من الأجبان والدبيركة (لبن مغلي يضاف له الملح ويستخدم بديلاً عن اللبن في الشتاء) في منزلها هذا العام، وصناعة المربيات وبعض أنواع المجففات كالفاصولياء والبامية إلّا أنها لم تقم بصناعة دبس البندورة فلديها ما يكفيها من العام الماضي على حد قولها.

في المقابل حالت ظروف الحرب والنزوح وضعف القدرة الاقتصادية دون صناعة المونة عند كثير من العائلات السورية، إن لم نقل معظمها، تقول أم يوسف إنها تعتمد على شراء المعلبات أو المونة الجاهزة من المحلات التجارية وبكميات قليلة، فصناعة المونة تتطلب ما يزيد عن 250 ألف ليرة لعائلة متوسطة لا يزيد عدد أفرادها عن خمسة أشخاص.

تتنفق معها بذلك صديقتها سعاد والتي رأت أن “تحضير المؤن يحتاج إلى استقرار، في الوقت الذي نتنقل فيه بين المناطق بسبب النزوح، فمعظمنا يسكن في بيوت مستأجرة ولا نعرف زمن عودتنا إلى بيوتنا، ننجو بحياتنا وليس هناك وقت لاصطحاب أي شيء معنا”. أما الحديث عن المخيمات والأهالي الذين يسكنون الأراضي الزراعية تحت أشجار الزيتون فتلك قضية أخرى، تقول سعاد، فمن غير الممكن صناعة المونة هناك حتى وإن توافرت الرغبة والقدرة عند قلة قليلة منهم، إذ لا تتسع تلك الأمكنة ناهيك عن الغبار والحرارة وغيرها من المؤثرات المناخية التي تحول دون هذه التحضيرات، والأهم من ذلك من وجهة نظر سعاد “اليأس والحزن وغياب النفس” الذي يرافق النساء في هذه الأماكن.

أحمد (يعمل في محل لبيع المؤن في أريحا) يقول إن أغلب من يشتري المونة “السيدات اللواتي يملكن وظيفة خارج المنزل”، ونوه أن أكثر الناس بسبب غلاء المعيشة وموجة النزوح المستمرة والقصف الذي لا يهدأ أصبحوا يشترون احتياجات المنزل اليومية “كل يوم بيومه”.

أما “أبو محمد” من مدينة أريحا يقول “لم نعد نحضر في المنزل مؤونة أبداً فكل شيء غالي ولا يتوفر لدينا المال الكافي حتى نحضر المونة التي نحتاجها، لذلك أشتري لأسرتي احتياجاتهم المنزلية كل يوم بيومه وحسب احتياجات الوجبة التي نحضرها، رغم أن هناك الكثير من أنواع الأطعمة المختلفة تماماً عما كنا نحضره سابقاً في المنزل إلا أنني لا أجد خياراً بديلاً، ففي كل مرة أتذوق المنتج قبل شرائه لكنه غالباً لا ينال استحسان زوجتي وأولادي خصوصاً أننا في السابق كنا نحضر المونة في المنزل”.

حافظ عدد من أصحاب المحلات التجارية التي تبيع المونة على مهنتهم، وما تزال رفوفهم عامرة بمختلف أنواعها المصنعة “بيتياً”، دون الاعتماد على المعلبات، وشكلت ملجأ للباحثين عن الطعم المعتاد والذين لم يتمكنوا من صناعة المونة، أو أولئك المهجرون والوافدون من مناطق أخرى إلى إدلب، يقول الحاج أحمد زرقة (صاحب أحد محلات المونة في مدينة إدلب منذ ما يزيد عن ثلاثين عاماً” إنه يوفر احتياجات الناس من “زيوت ومخللات وشراب وخضار مجففة وغيرها من المؤن” للاستهلاك المباشر أو التخزين دون تعب، يساعده في ذلك ابنه وزوجته إضافة لبعض النساء اللواتي يعملن بـ “الأجرة” في تحضير المؤن لمحله.

تقول زوجة الزرقة إن ابنها وزوجها يحضرون “المخللات” بينما تقوم هي بصناعة المكدوس (الوجبة المحببة لدى السوريين)، وتقوم النساء الأخريات بتحضير باقي المؤن في منازلهم بما يحقق لهن دخلاً جيداً خلال الموسم يعينهن على أكلاف الحياة الباهظة، وعن طريقة صناعتها للمكدوس تشرح أم مصطفى بحب “أقوم باختيار حبات الباذنجان السمينة والمتوسطة الحجم، أزيل العقب الأخضر منها وأشق جزء منها بالسكين ثم أسلقها مع ماء وملح حتى تنضج قبل وضعها بمصفاة ورشّ الملح، وأضع فوقها صينية وحجراً كبيراً لتجفيفها من الماء ثم أحضر الحشوة عبارة عن جوز بلدي وفليفلة حمراء وكزبرة و زيت زيتون وبعد الانتهاء من الحشو أعيدها للمصفاة وأضع فوقها قماشة نظيفة حتى تمتص المياه، وبهذه الحالة يبقى المكدوس خمس سنوات دون أن يفسد بعد ذلك ارتبه بمرطبان وأغمره بالزيت حتى يكون جاهزاً للبيع بالمحل”.

يقبل الكثير من الناس على شراء مؤن “الزرقة” من مهجرين وزوار وحتى أهل المدينة، والتي يبيعها بأسعار مناسبة على حدّ وصفه، وذلك لاعتماده على شراء البضائع بكميات كبيرة وهو ما يؤدي إلى رخص ثمنها، يقول إن معظم بضائعه لا تكسد بسبب الإقبال عليها، أما في بعض الحالات فيقوم بتخفيض أسعار بعض المواد التي يشعر أن الإقبال على شرائها ضعيف وغالباً ما تكون من منتجات العام السابق.

وعن أماكن تحضير بعض المونة وأسعارها يقول ابن الحاج (مصطفى)  نوصي أصحاب مقاتي البندورة بقطف الثمار وعصرها وتحضيرها لنا لتكون جاهزة للبيع بسعر ألف ليرة للكيلو، والفليفلة الحمراء تقوم (أم مصطفى) بغسلها وتنظيفها من البذور والعروق ونشرها على السطح حتى تجف ويتم طحنها وأيضاً صناعة دبس الفليفلة الطازج للبيع، وتكبس الزعتر الأخضر بالزيت سعر الكيلو 800 ل.س، أما عن المخللات بأنواعها الفليفلة والخيار والعجور والليمون والثوم والجزر واللفت والشوندر والملفوف والباذنجان والجارينك والعقابية وغيره سعر الكيلو من 300-500 ل.س، أما عن شراب التوت والليمون والبرتقال الطازج سعر الكيلو يتراوح بين ألف وألف مئة ليرة.

ترفض الحاجة صبحية (الوافدة إلى أطمه بعد استهداف قريتها في ريف إدلب الجنوبي) تحضير المونة لهذا العام بالرغم من مطالبة أبنائها وزوجها لها بذلك، تقول إنها تركت في قريتها ما قيمة عشرات الآلاف من المؤن لم تستطع إحضارها، تصف حالها بالجالس على حقائبه مؤكدة أنها “لن تموّن حتى تعود إلى بيتها، فكل الأطعمة بمذاق واحد في النزوح”.