طوابير طويلة يمكن مشاهدتها أمام أفران خبز مدعومة في الشمال السوري بعد ارتفاع غير مسبوق شهدته المنطقة على الأساسيات الحياتية بشكل كامل، خاصة الخبز والوقود والمواد التموينية خلال الأشهر الماضية والذي تزامن مع تراجع سعر صرف الليرة التركية.
على باب أحد أفران إدلب يقضي أشخاص ساعات طويلة للحصول على خبز بأسعار أقل، يقول محمد الخطيب إن أسعار المواد الغذائية ارتفعت بشكل كبير خلال الأشهر الثلاثة الماضية، إذ يحتاج رب أسرة مكونة من خمسة أشخاص إلى ما يزيد عن نصف ما يتقاضاه موظف أو عامل مياومة ليؤمن خبز عائلته فقط، إذ يقدر متوسط دخل العامل شهرياً بنحو ثمانمائة ليرة تركية، وهو ما كان يساوي نحو مئة دولار نهاية العام الفائت، ونحو ستين دولاراً بحسب سعر الصرف الحالي.
الليرة التركية بديل سيء
وصل تذمّر السكان تجاه الواقع الاقتصادي في الشمال السوري إلى درجة غير مسبوقة، وذلك بسبب التقلّبات العنيفة لليرة التركية، التي اعتمدت عملة أساسية في جميع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام شمال غربي البلاد، منذ حزيران 2020، في خطوة اتخذتها حكومتا الإنقاذ والمؤقتة المعارضتين بسبب تدهور الليرة السورية آنذاك، واعتبرت حلاً مؤقتاً إلى حين التوصّل إلى اتفاق سياسي قد يقود البلاد وعملتها إلى الاستقرار.
لكن ومنذ ذلك التاريخ تعرّضت الليرة التركية التي عارض اقتصاديون اعتمادها عملة أساسية لعدة هزات أفقدتها أكثر من 40 بالمئة من قيمتها فقط منذ مطلع عام 20٢١، وكانت أعنف هذه الهزات خلال الشهرين الماضيين بعد عدة خطوات اتخذها البنك المركزي من تخفيض سعر الفائدة، وإقالة حاكم للبنك من قبل الرئيس رجب طيب إردوغان ونائبيه لاحقاً، إضافة إلى أعضاء في لجنة السياسة النقدية في المصرف المركزي.
أثّر هذا التراجع في قيمة العملة أمام العملات الأجنبية على الاقتصاد التركي بشكل عام، لكنه كان أكثر تأثيراً على اقتصاد الشمال السوري، الذي لا يقارن بالاقتصاد التركي وتماسكه، ما أدى إلى موجة من الانتقادات لسياسات الحكومتين المعارضتين الاقتصادية بسبب انفلات الأسعار وارتفاع مستويات التضخم إلى أرقام قياسية، وسط دعوات للتراجع عن اعتماد الليرة التركية عملية أساسية في المنطقة.
وأشار فريق “منسقو الاستجابة في سوريا” في تقرير أخير إلى أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت في الشمال السوري بنسبة 400 بالمئة، وأسعار المحروقات بنسبة 350 بالمئة، والخبز بنسبة 300 بالمئة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، كما وصلت معدلات الفقر إلى 90 بالمئة، وسط بوادر انهيار اقتصادي، تمثّل بارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية، وزيادة ملحوظة في معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية للمدنيين.
لم يترافق الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية بتدابير حكومية لتأمين بدائل للسكان، أو رفع رواتب الموظفين والعاملين، ويعود ذلك لأسباب كثيرة أهمها غياب الموازنة المالية لدى هذه الحكومات، واعتماد سكان المنطقة على المواد المستوردة بعد غياب الاكتفاء الذاتي وضعف الناتج المحلي وارتباط أسعارها بالتغيرات السعرية في الدول المصدرة وأهمها تركيا، أيضاَ اعتماد الليرة التركية في المعاملات التجارية والاقتصادية، وتراجع سعر صرفها في الأشهر الماضية.
التراجع عن الليرة التركية قرار يحتاج إلى سيادة
موجة الغلاء المتفاقمة دفعت سكان في المنطقة للمطالبة بالتراجع عن استخدام الليرة التركية في الشمال السوري، يقول إبراهيم الأسعد، وهو مدرس يتقاضى سبعمائة وخمسين ليرة تركية كراتب شهري، “إن اللجوء إلى الليرة التركية كان بعد الانهيارات المتلاحقة لسعر صرف الليرة السورية، وإن كنا سنعيش الأمر ذاته الآن فلماذا لا نغيرها، طالما أن الأسباب واحدة، ونبحث عن بديل أكثر استقراراً كالدولار على سبيل المثال”.
آخرون قللوا من أهمية التخلي عن الليرة التركية، يقول سعيد، وهو تاجر مواد تموينية بالجملة بريف إدلب، “إن الأسعار ترتبط بالمكان الذي يتم تصدير المواد منه، أياً كانت العملة سيكون هناك ارتفاع في الأسعار، خاصة إن بقي دخل المواطن على حاله، فالأولى أن تدعم الحكومات المواد الغذائية أو ترفع متوسط دخل الفرد ليكون مناسباً لتغيرات الأسعار في المنطقة”.
“هذا إن كان الأمر بيدنا”، يقول من تحدثنا معهم في إشارة لعدم قدرة حكومتي المنطقة، الإنقاذ والمؤقتة، على اتخاذ قرار بهذا الشأن بمعزل عن الموافقة التركية، ويقول الخبير الاقتصادي مسلم عبد طالاس، إن التراجع عن اعتماد الليرة التركية عملة أساسية في الشمال السوري أمر ممكن من حيث المبدأ، لكن هذه الخطوة تحتاج إلى قرار سياسي، إذ إن من الواضح أن اعتمادها في الأساس جاء بإيحاء تركي، واتخاذ قرار بالتراجع عن استخدامها غير وارد نظراً لوجود تحالف سياسي بين القوى المسيطرة في المنطقة وتركيا، كما أن اتخاذ هذا القرار سيفسّر على أنه محاولة أخرى لإضعاف الليرة التركية من قبل هذه القوى.
وبحسب “طالاس” فإن الانتقال السريع بين اعتماد أي عملة وأخرى ضار بالمعنى الاقتصادي، وقد يؤدي إلى أضرار أكبر، لكن من الممكن القيام بمثل هذه الخطوة بشكل تدريجي، وهذا أيضاً يحتاج سلطة مركزية وهي غير متوفرة، وبنية مصرفية وهي غير موجودة أيضاً، لكن لو وجدت الرغبة لدى سلطات الأمر الواقع فإنه ينصح بالاتجاه إلى العملات الأكثر استقراراً كالدولار الأميركي أو اليورو.
ويؤكّد أن الحلول ليست نقدية فحسب، والتدهور الاقتصادي الحاصل عائد إلى تدهور اقتصاد سوريا بشكل عام، وللخروج من هذا الواقع في المنطقة ينبغي على السلطات تنشيط الاقتصاد من خلال دعم المشروعات وإقامة مشروعات جديدة، والسماح لها بالتحرك نحو الاستيراد والتصدير، وعلى المدى المستقبلي ينبغي دعم التعليم والتكنولوجيا، ومن ثم اعتماد الرواتب والأجور بالدولار وصولاً إلى دولرة اقتصاد المنطقة بشكل كامل.
بدورها تقول رئيسة المكتب القانوني في نقابة الاقتصاديين المعارضة نجمة عبد الغني إن التضخم في الشمال السوري عائد إلى عدة أسباب منها تراجع الليرة التركية أمام العملات الأجنبية، أما أهمها فهو ارتفاع أجور النقل البحري لمعظم المنتجات المستوردة لنسبة تصل إلى 15 بالمئة، وارتفاع أسعار المحروقات بنسبة 20 بالمئة، نتيجة لارتفاع سعر برميل النفط عالمياً، وهنالك سبب نفسي يتمثّل بلجوء معظم المستهلكين إلى شراء كميات كبيرة من المنتجات والسلع خوفاً من ارتفاع الأسعار، ما تسبّب بزيادة في الطلب ونقص في العرض، أدّيا إلى حدوث حالة من الجشع لدى معظم الباعة، الذين بادروا إلى شحن وتخزين واحتكار المواد الاستهلاكية، رغبة في بيعها لاحقاً بأسعار مرتفعة.
وتستبعد “عبد الغني” اتخاذ أي قرار يعيد التعامل بالليرة السورية، بسبب اعتبار ذلك خطوة في اتجاه دعم اقتصاد النظام السوري من قبل السكان، وتؤكّد أن معظم الصفقات الكبيرة في الشمال السوري تتم بالدولار، وهذا يضمن استقرار الأسعار، إذا ما تمّ ضبطها من قبل السلطات المسؤولة.
ويوافق خالد العيسى وهو نازح من ريف إدلب الجنوبي إلى أحد المخيمات القريبة من مدينة سرمدا بأن الأسعار تحتاج إلى ضبط، إذ تشهد أسعار السلع ارتفاعاً جنونياً، على حد تعبيره، ولا تهتم السلطات المحلية بمتابعة التجار، الذين يرفعون أسعار المبيعات إذا تراجعت قيمة الليرة التركية، بينما لا يخفّضونها إلى تحسّن سعر الصرف.
ويشير إلى أن أكثر ما يثقل كاهل المواطن هو الارتفاع المتكرّر في أسعار المحروقات التي تتحكّم بها شركة “وتد للمحروقات” والخبز الذي تسيطر على معظم مخابزه حكومة الإنقاذ، إضافة إلى الأدوية التي لا تصل المنطقة من تركيا في الغالب، لكنّها تخضع لضرائب مرتفعة، جعلت الزيادة في أسعارها لا تطاق.
بين دولرة الاقتصاد أو تتريكه، يعيش نحو خمسة ملايين شخص في الشمال السوري ظروفاً بالغة القسوة، ينامون على أسعار محددة ويستيقظون على أخرى أكثر ارتفاعاً، ليس على صعيد الكماليات، ولكن على أساسيات الحياة، ما يوحي بانهيار جديد يضاف إلى الكوارث التي يعيشها سكان منقسمون بين نازح ومهجر، دون أن يكون لهم أو لحكوماتهم يد في تغيير واقعهم في انتظار ما يعصف بالدول المسيطرة على قرارهم وقوت يومهم.