أصيبت “أم عمار” النازحة من مدينة كفرنبل إلى أحد المخيمات القريبة من مدينة سرمدا شمالي إدلب بقصر النظر، وبدأت تفقد قدرتها على الإبصار تدريجياً منذ تعليق دوام المدارس وتحول التعليم المدرسي إلى التطبيقات الإلكترونية عبر الهواتف المحمولة في تموز 2020 بعد انتشار فيروس كورونا، وذلك لقضائها أكثر من خمس ساعات يومياً أمام هاتفها المحمول لمتابعة دروس أبنائها الثلاثة الذين كانوا بحاجة لمتابعة دائمة.
تقول “أم عمار” بدأت أعراض ضعف النظر تظهر لديّ بصداع وضبابية في الرؤية، علمت حينها أن الجلوس لساعات طويلة أمام الهاتف المحمول هو السبب، إلا أنني كنت مضطرة لمتابعة تعليم أطفالي، لتلافي أي تقصير في ملاحقة دروسهم، في ظل غياب والدهم عن المنزل وانشغاله بالعمل طوال فترة النهار”.
محمود الخطيب (26 عاماً) نازح من بلدة حاس جنوبي إدلب، حاله ليس بأفضل من أم عمار، يشير إلى أنه ابتلي بإدمان الألعاب الإلكترونية، وبات يقضي سبع ساعات يومياً أمام الشاشة الصغيرة، وهذا الرقم كان كفيلاً بالتسبب بإصابته بدسك في الرقبة، ما حدّ من قدرته على الحركة وأثر على عموده الفقري.
يقول الخطيب: كنت أشعر بألم وانكماش في عضلات الرقبة والأكتاف بعد ساعات اللعب الطويلة، اضطررت على إثره للجوء إلى أحد مراكز العلاج الفيزيائي وتلقيت عدة جلسات بالتزامن مع جرعة من المسكنات وصفها لي أحد الأطباء، إلا أن الإدمان والتعلّق بالألعاب قاداني لقضاء المزيد من الساعات خلف هاتفي المحمول بالرغم من ازدياد الألم، ما أدى لإصابتي بدسك في فقرات الرقبة بعد فترة قصيرة.
يعتبر الأطفال الفئة الأكثر تعلّقاً بالهواتف المحمولة، وذلك لوجودهم في المنازل ساعات أطول، وبسبب محاولة بعض الآباء إلهاءهم بها كي يتجنّبوا صراخهم وفوضاهم، إياد ذو الخمسة أعوام واحد من هؤلاء الأطفال، حيث بدأ ذووه بملاحظة ظهور “الحول” على عينيه، نتيجة قضائه معظم النهار بمشاهدة أفلام الكرتون، كما لاحظوا في ذات الوقت إصابته ببعض أعراض مرض “التوحّد”، كانطوائه على نفسه وعدم احتكاكه بالأطفال الآخرين.
إن “ما زاد من إدمان الهاتف المحمول عند إياد” بحسب ذويه، هي حالات النزوح المستمرة التي منعته من بناء علاقات اجتماعية طويلة، مع الأطفال الآخرين، ووجد حينها في جهاز الهاتف المحمول صديقاً دائماً، لكنّه تسبّب له بالحول، وجعل منه انطوائياً، يرغب بالوحدة بشكل دائم.
تقول والدة إياد “اضطررنا لمنعه من استخدام الهاتف بعد عرضه على الطبيب، الذي أكد لنا بداية ظهور الحول في عينيه، وعمدنا إلى تسجيله في إحدى الروضات التعليمية في قرية باريشا قرب مدينة حارم، بهدف إخراجه من العزلة التي أثرت على نفسيته بشكل كبير”.
تجاوزت الآثار السلبية للأجهزة المحمولة حاسة البصر، بحسب الطبيب أيمن جمالو الأخصائي في طب العيون، وأثّرت على المدمنين شمالي سوريا من ناحيتين، الأولى جسدية، كالتأثير على العيون والعمود الفقري والرقبة، والعيادات العينية والعظمية وأخصائيو العلاج الفيزيائي يستقبلون يومياً حالات كثيرة.
والثانية تتمثّل بحسب “جمالو” بالأمراض النفسية وتقوقع المدمنين على أنفسهم، وهذه الأمراض وقعها أكبر على شريحة الأطفال ويعتبر أشد خطورة من الجانب الجسدي، إن الكثير من الحالات النفسية والتوحد والعزلة والانطوائية لدى الأطفال تعود أسبابها إلى إدمان الهاتف المحمول .
اضطررنا لمنعه من استخدام الهاتف بعد عرضه على الطبيب، الذي أكد لنا بداية ظهور الحول في عينيه، وعمدنا إلى تسجيله في إحدى الروضات التعليمية في قرية باريشا قرب مدينة حارم، بهدف إخراجه من العزلة التي أثرت على نفسيته بشكل كبير.
ويشير الطبيب إلى أن الأجهزة المحمولة كانت وراء الكثير من حالات الحول وتشوّش الرؤيا بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من ظاهرة مد النظر، كما تتسبب بـ “تشنّج المطابقة” الشديد للأشخاص الذين لا يعانون من مضاعفات أخرى، بحسب قوله.
يوسف، طفل آخر في ريف إدلب، يقضي جلّ وقته على الهاتف المحمول، تقول والدته إنها وبعد نزوحها من قريتها في جبل الزاوية لم تجد حلّاً آخر سوى السماح لطفلها باستخدام هاتفها، لغياب الروضات القريبة من جهة، وضعف العلاقات الاجتماعية لابتعادها عن محيطها منذ نزوحها وتفرق أقاربها.
تخبرنا أم يوسف أنها تلاحظ عدم تعلق ولدها بالهاتف حين زيارة أقاربها لها، ولعبه مع أطفال بمثل سنه، لكن حالة العزلة المفروضة، تتسبب بـ إدمان الهاتف المحمول والتطبيقات التي باتت جزء من حديثه وشخصيته.
تقول أم يوسف إن مفردات وأسماء جديدة طرأت على حياة طفلها، لم تجد لها تفسيراً إلا بعد شاهدت رفقة يوسف برامج كان يشاهدها، وهو ما دفعها لحظر كثير من التطبيقات التي رأت أنها تركت أثراً سلبياً على حياة طفلها ومفرداته التي يكتسبها.
يرمي مهند كل ما تصل له يده، ما يزال في السادسة من عمره، تقول والدته إن ذلك نجم عن مشاهدته لبرامج أطفال تبثها قنوات على اليوتيوب، وتخبرنا أن العنف سمة بارزة في هذه البرامج، هذا إن استثنينا الأشكال المرعبة لأبطال هذه المسلسلات، على حد قولها.
تذكر والدة مهند برامج كرتونية قديمة كانت “مليئة بالقصص والحكايات اللطيفة، أبطالها شخصيات جميلة وحيوانات أليفة، وفيها مجموعة من القيم تعزز ما تربينا عليه”، لكنها تلحظ في السنوات الأخيرة تغييراً جذرياً في هذه الصناعة نحو مسلسلات مليئة بالرعب والأسلحة، ورسائل عن الخير والشر والقيم لا يمكن للأطفال استنتاجها، تقول ” هم فقط يقلدون هؤلاء الأبطال، يخترعون مما يشاهدونه أمامهم أسلحة أو أشياء أخرى، يقلدون الحركات دون وعي”.
وقد أثبتت العديد من الدراسات أن “المهارات الاجتماعية للأطفال من 5 إلى 10 سنوات تتراجع بنسبة 65 ٪ تقريباً نتيجة استخدام الهواتف المحمولة، كذلك يميلون بشكل كبير إلى التصرفات العدوانية بسبب المشاهد العنيفة التي يتعرضون لها في هواتفهم، يحاكونها ويسقطونها على حياتهم”.
هم فقط يقلدون هؤلاء الأبطال، يخترعون مما يشاهدونه أمامهم أسلحة أو أشياء أخرى، يقلدون الحركات دون وعي.
الطيران والقصف والخوف الذي رافق هؤلاء الأطفال، يضاف له ما يشاهدونه من برامج، عزّز في عقلهم الطفولي صورة للواقع الذي يعيشونه، يمكن اختصارها على حد قول والدة مهند، وهي مدرسة منذ ما يزيد عن عشرين عاماً، بـ “العنف والبشاعة”.
وأشارت دراسة عن أخطار الهواتف المحمولة على الأطفال إلى أن عدد الساعات التي يقضيها الأطفال في المرحلة العمرية ما بين 6 أشهر وحتى عامين يؤدي بشكل كبير إلى تأخرهم في الكلام.
وتوصل القائمون على دراسة بحثت نحو 900 طفل إلى أن الوقت المثالي لاستخدام هذه الأجهزة ينبغي ألاّ يتجاوز 60 دقيقة على مدار اليوم كله، وأن زيادة الوقت الذي يقضيه الطفل بمقدار 30 دقيقة قد يؤدي لزيادة خطر إصابته بما يعرف بتأخر الكلام التعبيري.
وتركّز معظم التحذيرات على الإشعاع المنبعث من الهواتف المحمولة، حيث تطلق طاقة ترددات راديوية يمكن امتصاصها بواسطة الأنسجة الجسدية في الجسم كما أن مستويات الإشعاع التي تصدرها تلك الأجهزة، تتجاوز الحد المسموح به، ويمكن أن يسبب التعرض لها طويلاً أمراضاً خطيرة تصل إلى السرطان.
قلّة النوم واضطرابه والاكتئاب الحاد والميل إلى العزلة والعنف، والسمنة المفرطة والكسل وتأثر القدرات العقلية، وضعف البصر والحول وتشويش الرؤية بعض ما يتركه الاستخدام المفرط للهواتف المحمولة من آثار يمكن تداركها بالحد من استخدامه، وتخصيص ساعات محددة وفق أسس علمية ومنهجية في اختيار ما يمكن مشاهدته وممارسته من ألعاب، والابتعاد بالأطفال عن ضرر الهواتف المحمولة وإدمانها باعتبارها وسيلة لا حلّاً لغياب الأنشطة أو فقدانها في المنطقة.