“لم أكن أعرف كيف سيمرّ الوقت بعد خسارة طفلتي لأصابعها، بدت الحياة نفسها غائمة، وكغريق يبحث عن قشة بات التقاط أي جملة أو معلومة أو حديث عابر يأكل كل وقتي”.
“ست ساعات”
لم أكن أحتاج للنظر في ساعتي لأعرف أن الوقت قد مضى، كان الطبيب يتحدث عن ست ساعات تفصل بين بتر الأصابع وإمكانية وصلها بنجاح، ومع غياب مثل هذه الجراحات التي يطلق عليها الجراحة المجهرية في مستشفيات إدلب، واقتصار وجودها في الأراضي التركية على مستشفيات إسطنبول، وطول مدة الجراحة التي تصل إلى أربع ساعات، شعرت أن كل الحلول لم تكن متاحة، وأن طفلتي ستخسر أصبعيها إلى الأبد.
الوقت يقاس بالساعات في مدينة نسيت الإحساس بالزمن منذ سنوات، يحكمها الترقب والانتظار، وتختصر مفرداتها كلمة “يعاني”، غياب للاختصاصات النادرة والأجهزة الطبية النوعية، طوابير من الواقفين على دور المكاتب الطبية في معبر باب الهوى للحصول على علاج داخل الأراضي التركية، مبتورون يبحثون عن أطراف صناعية تساعدهم على الاستمرار، أوراق رسمية وقوانين، كل ذلك مرّ في مخيلتي وأنا أعيد ترتيب الوقت، قبل أن أسأل نفسي، هل كان ذلك ممكناً لو توافر جهاز جراحة مجهرية، كيف سيعيد وجوده آلاف البتور إلى الحياة من جديد؟
تنهد الطبيب، ومثله أنا، وهو يخبرنا بأسفه لعدم قدرته على إنقاذ إصبعي يارا، قال إنه بتر الإبهام والسبابة، كان الضرر الذي أصاب الأعصاب والأوعية الدموية أكبر من القدرة على إصلاحه لعدم وجود مجهر جراحي متخصص لإجراء مثل هذه العمليات الدقيقة، ووصل الأعصاب والأوعية الدموية التي يقلّ قطرها عن ميليمترات دون تكبير المنطقة المستهدفة على الشاشة.
فقدت توازني وكدت أقع على الأرض لولا مريضة عابرة أمسكت بي وقادتني إلى مقعد في الجهة المقابلة لغرفة العمليات. أثناء سيري كان صوت الطبيب يصل إلى إذني وهو يتحدث عن الأمل والدعاء في عودة التروية إلى أصبع ابنتي الأوسط علّه ينجو من مقصلة البتر.
“التصبير بحجم المصيبة”
“حرارة العالم كانت عالقة في قلبي، نظرت إلى يدي وضممت أصابعي المقابلة لأصابع يارا المبتورة. منذ تلك اللحظة أدركت أني أنا أيضاً فقدت أصابعي وجزء من قلبي”
متسمرة فقدت أي رد فعل، حتى البكاء استعصى عليّ، أنا التي أبكي لصورة وردة جميلة ذابلة، ويقتلني صراخ طفل، ابتلعت صوتي وأنا أستمع من بعيد لأطراف حديث يتبادله زوجي مع الطبيب، كان يواسينا بحديثه عن حالات بتر لأطفال كاملة تمرّ على المستشفى بشكل شبه أسبوعي، معظمها ناتجة عن إصابات حربية أو حوادث سير.
تحدث عن بتر ثلاثة أطراف لطفل لم يتجاوز العاشر إثر إصابته بقذيفة في الشهر الماضي، عن امرأة فقدت ساقاً كاملة إثر حادث سير. علينا أن نتقبل الأمر، نقيسه بمصائب غيرنا، ونشعر بالعرفان لأن باقي أصابع يد طفلتي بخير.
ليس معاندة للقدر كان رفضي لما يحدث، كل ألم هو كبير على صاحبه، لا تقاس الآلام والمصائب بالمقارنة، عليك أن تبحث في قلبي عما أشعر به.
نبحث عما نحتاجه، شتمت وأنا أتخيل عودة أطراف أطفال إلى الحياة، أو ساق المرأة المصابة لتتكئ عليها عائلتها من جديد، أو أن يمسك طفل بقلمه بكل أصابعه، كان الطبيب يتحدث عن الجراحة المجهرية المفقودة والتي من الممكن أن تفعل ذلك لو وجدت، وأن غيابها يقتضي بالضرورة بتر الطرف، في الوقت الذي كنت أبحث فيه داخلي عن إجابات لأسئلة أكثر خصوصية، لماذا إذن، مع أهميتها، غير متوافرة، وكم يبلغ ثمنها، والأهم من ذلك، ألسنا في حرب يومية، ما الذي يحتاجه من ينتظر سقوط قذيفة سوى أطراف مقطعة!
فقدت يارا، ذات الأربع سنوات، إصبعيها في أيلول الماضي بعد حادثة، كانت قد وضعت يدها في “الماكينة الكهربائية” وأنا أعد طعام الغداء، كان ذلك في أيلول الماضي، أيلول الذي ترافق هذا العام مع قصف طال معظم بلدات وقرى جبل الزاوية وخلف عشرات الضحايا والمبتورين.
في القصف على قرية مرعيان، فقد الطفل محمد والدته وذراعه في لحظة واحدة، لينضم لأزيد من 86 ألف شخص تعرضوا لبتر في واحد من الأطراف أو أكثر، بحسب إحصائية صدرت عن منظمة الصحة العالمية عام 2018، والتي أوردت أن أكثر من 300 ألف مصاب زادت حالتهم سوء نتيجة التأخر في العلاج أو نقلهم إلى المراكز الطبية بشكل خاطئ.
تداخلت الأرقام في ذهني وأنا أتأمل وجوه المرضى الشاحبة في المستشفى، جميعهم يجرون آلامهم، بعضهم يتكئ على عكازات خشبية، آخرين يستندون إلى مرافقيهم يحملون أكياس السيروم والدم المعلقة.
كتف عجوز يحملني
“لا تزال باقي أصابعها بخير.. واقع علينا أن نعيشه”
الممر إلى الغرفة، حيث وضعوا يارا بعد العملية الجراحية، كان طويلاً جداً، استندت على الجدران ومسكات الأبواب للوصول إليه. عند سريرها توجهت عيناي إلى أكوام الشاش الأبيض المحيطة بيدها، بينما كانت أذني تلتقط صوت نقط السيروم المحقون بالمسكنات.
خذلتني دموعي هذه المرة، دائماً تأتي في غير موعدها، أبكي حين يكون علي الصبر وتتجمدان حين يريحني الدمع، كانت يارا تناديني متلعثمة بأحرف “ماما” نتيجة تأثير البنج، وتطلب الماء الذي حذرني الطبيب من إعطائه لها قبل ساعة.
الوقت مرّة أخرى يختبر أمومتي، لكني هزمته بقطعة شاش بللتها بالماء ومررتها على شفتيها القشيبتان، قطع المشهد امرأة مسنّة، ثوبها المزهّر وتجاعيد وجهها أجبراني على التحديق، مسحت دمعتي بكف يدها، وسالت دموعي فوق نقش يبدو أنها رسمته منذ زمن طويل.
فقدت المسنة حفيدتها، وفقدت ذراع حفيدة أخرى في قصف على بيتها في سراقب قبل نحو عام، قالت إن نور، اسم حفيدتها، بقيت أزيد من أسبوع أمام محاولات الأطباء لتجنب البتر، لكن ذلك لم يفلح.
يارا، نور، وأسماء أخرى جميلة اختيرت بعناية، وكبر حاملوها أمام أعيننا دون أن نملك القدرة على مساعدتهن، وقفت مجدداً أمام لعنة الأسماء والحرب، فيما كانت المسنة تقول وهي تشاهد يارا إن أكثر أصابعها ما زالت بخير، وهي تلمسها بحنان.
ألم شبحي
“يتألم الجسد لما يفقده، يصل الوجع إلى الفراغ المفقود، لعلّه يبكي مكانه هو الآخر”
نامت يارا بجواري في الليلة الأولى لوصولنا، لم أكن أستطيع النوم وبقيت مترقبة حتى ساعات الصباح ألبي طلباتها المتزايدة من الماء، وأهدئ من بكائها بعد زوال فاعلية مسكنات الألم.
صباحاً أخذ الألم شكلاً مختلفاً، كانت يارا تصرخ بشدة وفشلت المسكنات في إيقاف معاناتها، كنت أترقب ما أخبرني الطبيب أنه سيحدث بعد وقت قصير، وأرجو ألا تمرّ به.
تحدث الطبيب عما أسماه “متلازمة الألم الشبحي”، وشرحها لي بأنها متلازمة تصيب المصابين بعد عمليات البتر لأجزاء من أجسادهم، تتسبب بألم طاعن يشبه آلام الحروق في شدته في الفترة الأولى، وأرجع سببه للأذية التي تعرضت لها الأعصاب عند البتر، ما يؤدي إلى تغييرات في طريقة قراءة الدماغ للرسائل الآتية من الجسم، إذ أن الأجزاء في الدماغ التي تسيطر على الطرف المفقود تبقى نشطة وهذا ما يسبب خداعاً حقيقياً للطرف الشبحي.
عقلها كان يرسل أوامره إلى مكان لم يعد متاحاً، يشبه بذلك ما أعيشه وأنا أتخيل أصابعها كاملة، كأن هناك تواطؤاً بين قلبي وعقلها في آن معاً، كلانا يرفض ما حدث، وكلانا ما يزال يتصرف كأن شيئاً لم يكن، خاصة وأن أصابع يد طفلتي ما تزال ملفوفة بالشاش، ولم أقوى على رؤيتها حتى تلك اللحظة.
أعيش بلا إصبعين
“تجاهلت إبهامي وسبابتي في ذات اليد التي فقدت منها أصبعيها، أعيش اليوم بثلاثة أصابع في يدي”
حين فككنا الضماد عن يد يارا، بدت يدها الصغيرة بشكل جديد، ومنذ رؤيتي له أخذت يدي شكل يدها، ترافقني اليوم عقدة الأصابع. منذ ذلك الوقت وأنا أمارس أعمالي وحياتي بثلاثة أصابع، أطبخ وأغسل وأسرح شعري وأجلي الأطباق وأكتب وأمسك ملعقة الطعام وأقطع الخضراوات بذات الأصابع التي تمتلكها يارا. لدي شعور بأن علّي التكيف مع هذا الوضع لأستطيع تعليمها ومساعدتها لاحقاً.
هو اختبار آخر للأمومة، ومنذ ذلك الوقت وأنا أفشل في كل عمل باستخدام عشرة أصابع، كل ما أنجح به يكون فقط بما تبقى من يدي صغيرتي.
جوجل المتواطئ مع طفلتي
صغر سن يارا أنساها الألم باكراً، تكيفت مع ما حدث أو ربما يكون ذلك، أما أنا فما تزال كلمة البتر محور يومي، في الأحاديث الصباحية، على صفحات التواصل الاجتماعي، في عمليات البحث عبر الإنترنت، حتى بات كل ما يدور في فلك هذه الكلمة يتصدر ما أشاهده وأقرؤه.
مئات التقارير والأبحاث المنشورة في مواقع طبية وعند أطباء اختصاصيين بالبتر، تحدثت عن حلول بديلة كان أفضلها وأصعبها في آن معاً “عملية الزرع”، وتشترط العملية توافق الأنسجة بين الشخص ومن سيتم زرع العضو في وجده، حتى وأن تحقق الشرط فسيعيش من تمت زراعة العضو في جسده حياته مع مثبطات المناعة، وهو ما سيحرم يارا أن تكون أماً يوماً ما، ما جعلني أستبعد هذا الخيار من قائمة الاحتمالات.
الأطراف الذكية كانت الحل الثاني، أراحني ما قرأت عنه بالاستعاضة عن الأصابع المبتورة بأطراف ذكية، وتعتمد هذه التقنية على
قدرة تستخدم الرؤية لتمكين الطرف الصناعي من الإمساك بالأشياء تلقائياً عبر كاميرا تلتقط صورة الأشياء أمامها، وتعطي أوامرها للطرف الصناعي بالتحرك خلال أجزاء من الثانية، وبذلك فستكون قادرة على التحرك والتجاوب بذات المدة التي يستهلكها الطرف الحقيقي.
كان هذا الحل أقرب إلى قلبي، لكن عليّ الانتظار حتي تكبر طفلتي وتصل إلى مرحلة البلوغ، ليأخذ كفها وأصابع يدها الحجم والطول النهائيين.
لا تتوافر هذه التقنية في الشمال السوري، ويتراوح سعر الطرف الصناعي بين 900 إلى 2500 دولار أمريكي للطرف الواحد، وهو ما يجعل هذا الحل بعيداً عن متناول آلاف المبتورين في المنطقة، نتيجة الظروف المادية القاسية التي يعيشونها.
تلعب يارا أمام عيني وأنا أقلب صفحات المواقع الطبية، تمسك بأصابعها لعبتها وتحملها في وجهي، ربما تريد أن تخبرني أنها بخير، لكني لست بخير، أنا أبحث عن أصابع طفلتي وربما يكون الحل في مجهر واحد يريح عشرات المصابين.