“مشوار بعيد”، حلم مدرّسة قضت اليوم في أريحا السورية. تعليقات كثيرة أخبرتها أن أمنيتها قد تحققت بعيداً عن “القهر والقرف” الذي يعيشه سكان المدينة، لكنها لن تسمعهم لترد عليهم هذه المرّة، وتتركنا نحن بين مصدقين وغير مصدقين لما نقوله، نخفف الألم عن أنفسنا دون أن نشتهي مصيراً مماثلاً، لنا، لأطفالنا.
طفل تحمله حقيبة كان يحملها منذ ساعات، لا بدّ أنه على عجل نسق شعره وارتدى ثيابه، وضع فيها بعض كتب أو دفاتر، ربما لا، ربما لم تسعفه الظروف لشراء قرطاسية هذا العام، وأنه لم يستلم أي كتاب أسوة بمئات المدارس في المنطقة، وقبل أن يصل إلى مدرسته كان على موعد آخر مع الموت.
طفلة ووالدها أيضاً كانا في الطريق، لعلنا نتخيل حواراً هادئاً كذلك الذي نخوضه يومياً مع طفلاتنا في رحلة المدرسة، سيسألوننا أسئلة محرجة لا نعرف جوابها، سيطلبون إلينا شيئاً من الحلويات أو البسكويت، سيعدون لنا الأرقام والأسماء، سيغنون لنا أغان لا نعرفها وتطربنا كانوا قد تعلموها ونسيناها، سنطلب إليهم الاستعجال في المشي لنصل على الوقت، سنمسك أصابعهن الصغيرة بحنو، سننظر إليهن غير مصدقين ونحن نحلم بما سيكنّه يوماً.
يجمع المشاهد الثلاثة طريق في أريحا، بعد تعرض المدينة لأزيد من عشرة قذائف، قتلت نحو ثلاثة عشر شخصاً وأصابت أزيد من أربعين آخرين، معظمهم من الباحثين عن التعلم في المدارس أو لقمة العيش في الأسواق.
المشاهد القادمة من أريحا تظهر حجم الدمار في المكان، عشرات المنازل والسيارات والدراجات النارية المدمرة، بقايا الدماء على الإسفلت، والمشافي التي تغص بمرضى كورونا لم تعد تتسع لاستقبال مرضى جدد، خاصة بعد الاستهداف الذي طال المنشآت الطبية في السنتين الأخيرتين، وأخرج معظمها عن الخدمة في أريحا ومحيطها، كان آخرها نقطة مرعيان الطبية في جبل الزاوية، ونقل المنظمات الطبية لمنشآتها نحو مناطق أكثر أمناً في الشمال أو إغلاقها بشكل دائم.
تتعرض أريحا للقصف منذ أيار الماضي، حصة المدينة كانت أكبر دائماً، ومع عودة السكان إليها ووجهة النازحين في محيطها إلى أسواقها ومحالها وخدماتها الطبية تكتظ أريحا بالسكان، خاصة في ساعات الصباح، إذ يزيد عدد العائدين إلى جبل الزاوية وأريحا عن ربع مليون إنسان بعد التهجير الذي طالهم بداية العام الماضي ونزوحهم.
ترتبط زيادة استهداف أريحا بموقعها المهم على الطريق الدولي M4، والذي يسعى نظام الأسد وروسيا للسيطرة عليه، إذ يربط الطريق بين اللاذقية وحلب، ويمر من أريحا، إضافة لوقوعها ضمن مناطق خفض التصعيد التي اتفق عليها في آذار العام الماضي، وسيرت عليه دوريات روسية تركية قبل توقفها، كذلك تدخل في حسابات المناطق منزوعة السلاح المتفق عليها والتي لم تنفذ ضمن الاتفاق، وعند كل استحقاق أو اجتماع دولي تكون حصة هذه المنطقة من القذائف أكبر بكثير من غيرها، لفرض ورقة ضغط على المجتمعين من جهة، ولإخلاء المنطقة من سكانها من جهة ثانية.
تسبب القصف الأخير، بحسب منسقو الاستجابة، في الأشهر الثلاثة الماضية بنزوح آلاف الأشخاص، يقول عناصر من الدفاع المدني خلال إفادات مصورة إن القصف يزيد في كل مرة عدد النازحين من المكان إلى مخيمات ومدن في الشمال السوري، تكتظ هي الأخرى بالسكان، إذ يزيد عدد سكان هذه المناطق عن ثلاثة ملايين إنسان، يفتقرون للخدمات الطبية والصحية، ويعيشون في ظروف قاسية.
في الطرف المقابل، يتداول موالون للنظام، حديثاً عن اقتراب معركة في إدلب، إن حدثت، فستكون في محور جبل الزاوية وأريحا المتاخمة لقوات النظام بعد سيطرته على ريف إدلب الجنوبي، وقبيل كل معركة مرتقبة يتبع النظام سياسة الأرض المحروقة لزعزعة استقرار المنطقة وتهجير سكانها.