“أنا الغريب”
في المطار كان سبعة من أصدقائي في وداعي، حينها شعرت أننا بتنا غرباء جدّاً، غرباء حدّ تضاعف أرقامنا في مطارات اللجوء
في المطار كان سبعة من أصدقائي في وداعي، حينها شعرت أننا بتنا غرباء جدّاً، غرباء حدّ تضاعف أرقامنا في مطارات اللجوء
في العيد الذي يليه قالت لي أمي عند معايدتها إن أخي لا يزال معتقلاً منذ ثلاثة أعياد وستة أشهر وسبعة أيام، وإنها تفتقد لرائحته، وإنها تعلّمت الحساب على الأصابع لعدّ أيام غيابه، بعد أن أمضت خمسة وستين عيداً أميّة لا تجيد الحساب.
دقيقة واحدة حتى العاشرة
الجميع حاول إخفاء علامات الخوف، أبو نضال يجمع فناجين القهوة ويستأذن بالانصراف لبعض الأعمال المنزلية. أبو أيمن يمتطي دراجته النارية بخفة مهرج، تظهر علامات صفراء من الخوف على وجهه، “أتريدون أي شيء من إدلب، سأذهب لشراء بعض الحاجيات”. أنا أحاول أن أشغل نفسي ببناء قن للدجاج بدأته يوم أمس، فيما تتعلق عيني بسماء الطائرات
السوريون عالقون على الحافة بأحلام مؤجلة، من يعيش في الداخل يحاول جاهداً قطع الحدود للوصول إلى تركيا، عشرات الأشخاص قتلوا في سبيل ذلك الحلم، آلاف الدولارات ضاعت في الطريق، مئات المهربين ومكاتب السفر وإعلانات وسائل التواصل الاجتماعي، وتفنيدات الطريق بين نظامي من المعبر، ومرافق في المكتب الطبي، ومن الخندق، وعلى السور، وفي حلة في نهر، وطريق عسكري، وآخر مضمون كلها خيارات تقذف بنفسها أمامك، كل واحدة منها برقم مالي يزيد أو ينقص، بلا ضمانات، وبلا مستقبل أيضاً.
إن كان هدف لبكي تسليط الضوء على معاناة الأطفال، فأحمد الزعبي ماسح الأحذية السوري واللاجئ مع عائلته إلى بيروت، أقرب الأمثلة وأكثرها حداثة في الشارع اللبناني، فمطاردة الأمن اللبناني “اللطيف” حد إخافة الطفل دفعه للهروب والموت، فأين مسؤولية العائلة من الواقعة لطالما أن العائلة في نظر لبكي هي الجاني الأول والمخلّص هو الأمن؟! ألم تتبدل الأدوار بعيداً عن الكاميرا؟
لم تكن الجثث التي وزعت على طرف النهر ترتدي ستر النجاة من الغرق، لم يتح لها التلويح بيديها في الهواء علّها تنجو، كانت ملامحها غائبة مليئة بالطين، معظمها مكبل الأيدي للخلف، بعضها وضع على فمها أشرطة لاصقة، وعلى عيونها “طماش= قطعة قماشية تغطي الأعين”، جثث حافية وأخرى بأحذية دون أربطة.
بـ “سيخ من الحديد” أو الخشب كانت تلتقط الجثث التي تمر من أمامك، لا سنارات صيد تكفي لانتشال جثة، على الممر الاسمنتي بالقرب من ضفة النهر كانت أعداد من تلك الجثث مسجاة على الأرض، ليس ببعيد عنها كانت بعض أشيائها موضوعة في المكان، ليس للموتى أمانات يستردونها، أحذية وحيدة كانت تلخص قصة موت مجهول الهُوية، والجميع كان بلا أوراق ثبوتية.
عربات خضار تكفلت بالرحلة الثانية إلى ساحة المدرسة القريبة، مراراً حاولت أن أتمالك نفسي التي كان يضج فيها سؤال عن شعور الموتى حين يسير بهم الماء وتلتقطهم أسياخ الحديد وينقلون على عربات الخضار إلى الساحات، لا لشيء سوى ليتمكن ذويهم من التعرّف عليهم.
اللجوء إلى واحدة من الدول الأوربية أو إلى تركيا على أقل تقدير، كان قصراً آخر من الرمل، يستدعيه مراد كلما وضع يده في جيبه الخالي من النقود، أو تذكر صورة حبيبته التي ما عاد يراها منذ مدّة، لعلها تزوجت يقول، يفرح لفكرة زواجها فهي على الأقل لن تكون عائقاً أمام سفره، وستريحه من ثقل الوعود الغليظة التي قطعها لها بأن لا يتركها ما دام حيّاً.
فوجئت بالمشهد الذي بدا لي للحظة كلوحة مرسومة بدقة، فريق من الكورال (رجال ونساء وأطفال)، الصوت كان واحداً، والتأثر كان متشابهاً لدرجة التطابق، تشابك الأيدي، وتمايل الرؤوس، خفوت الصوت في أماكن من الأغنية، الاستمتاع بالموسيقا للحظات، ثم الهتاف الواحد الفطري، دون تنسيق مسبق، “الشعب يريد إسقاط النظام”.