فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

الشباب السوري.. وأحلام اليقظة

سيرين مصطفى

اللجوء إلى واحدة من الدول الأوربية أو إلى تركيا على أقل تقدير، كان قصراً آخر من الرمل، يستدعيه مراد كلما وضع يده في جيبه الخالي من النقود، أو تذكر صورة حبيبته التي ما عاد يراها منذ مدّة، لعلها تزوجت يقول، يفرح لفكرة زواجها فهي على الأقل لن تكون عائقاً أمام سفره، وستريحه من ثقل الوعود الغليظة التي قطعها لها بأن لا يتركها ما دام حيّاً.

 

حين تذكر مراد حديث صديقه المقيم في النرويج، وحنينه للاستلقاء على فراش صوفي على الأرض بجانبه منفضة مليئة بأعقاب السجائر المحترقة، واعتبار تلك المشهدية حالة من النعيم المفقود في بلاد يمنع فيها التدخين في المنازل، ما يضطرك لإشعال سيجارتك في المطبخ “تحت شراق الهواء”، أو تجمّد أصابعك في الشرفة وسط مدينته التي لا تغادرها الثلوج حتى في أشهر الصيف، بحث عن علبة سجائره لإشعال واحدة منها على عجل، نفث دخانها في الهواء وهو يفكر بمستقبله المجهول بعد رسوبه للمرة الثانية في دراسة الثانوية العامة، حاله كحال الآلاف من الشباب السوري مجهولي المصير، بعد أن ضاقت أحلامهم رغم اتساع الخيارات غير المتاحة سوى في خيالاتهم وأحلام اليقظة التي باتت رفيق أوقاتهم.

عائلته التي تحاشت النظر إليه أو مناقشته لطالما تبادلت الأحاديث فيما بينها بسرية حول مصيره، نظرات الحنان والشفقة التي كان يراها على وجه والدته كانت تشعره بالاختناق، بات مرور الهواء مستحيلاً، كثيراً ما كان يسمع حشرجة صدره، مع كل ابتسامة من وجه والدته، تليها زفرة تصل إلى مسامعه والكثير من الأدعية كلما أدار ظهره.

والده كان يحتفظ بصلابة هشة، يستدعيها كلما ربت على كتفيه، كلما أطال التحديق بغضون وجهه كان يقرأ معالم كثيرة من التخوف والإحباط مع الرضا، فحال مراد لا يختلف عن حال الكثير من أقرانه الشبان الباحثين عن حلم.

أبنية من الرمل كانت حياة الشاب، ففي كل ليلة وعلى وسادة نومه والكثير من السجائر يبدأ باتخاذ قرار ينهي به حالة الرتابة التي يعيشها، وسرعانما تتهاوى في الصباح، الانضمام إلى واحد من الفصائل كان خياراً يلح عليه تلك الليلة، حلم بأن يحمل بندقيته ليحارب، يرتدي طاقية الإخفاء ويصل إلى القصر الجمهوري، يقتل الطاغية ويسترد بعض حقه، أحياناً وفي الطريق إلى الحلم يمرّ عبر أحد البنوك، يأخذ منها حقيبة مليئة بالنقود تساعده على بناء حياته، يتذكر بعض أقاربه الذين يعيشون في مناطق النظام، يقول في نفسه إن عليه إخبارهم لترك بيوتهم التي ستصبح مستهدفة للأمن بعد انتشار صورته في وسائل الإعلام، يؤكد في أفكار يقظته أنه سيعوضهم عن ما ألحقه بهم، صورة ابن جيرانه علاء والذي فقد ساقه بقذيفة أصابته في نقطة من نقاط الرباط، وصور كثيرة لشبان من قريته قتلوا في المعارك مع النظام، أو في معارك جانبية لاقتتال الفصائل فيما بينها، تمرّ أمامه أيضاً، لتنهي قراره من جديد.

اللجوء إلى واحدة من الدول الأوربية أو إلى تركيا على أقل تقدير، كان قصراً آخر من الرمل، يستدعيه مراد كلما وضع يده في جيبه الخالي من النقود، أو تذكر صورة حبيبته التي ما عاد يراها منذ مدّة، لعلها تزوجت يقول، يفرح لفكرة زواجها فهي على الأقل لن تكون عائقاً أمام سفره، وستريحه من ثقل الوعود الغليظة التي قطعها لها بأن لا يتركها ما دام حيّاً.

أوروبا لا دخان في البيت، ما المشكلة، تلك أكبر همومهم، يشعر مراد بالضيق من المقارنة، يشتم اللاجئين المنفصلين عن الواقع، يحاول استحضار صورة أحدهم لتقريعه وتحميله ما يعتمل في داخله من حنق، أن لا دخان في المنزل وصعوبة اللغة وروتين الإجراءات في المؤسسات الحكومية وبعض النظرات العنصرية من السكان الأصليين، كلها كانت لتغدو مشكلة حقاً، لو كان خيار العودة متاحاً، وإن كان الأمر كذلك لماذا لا تعودون إذن.

ثمّ كل ذلك أهون من نظرات والدتي وهي تعطيني ثمن علبة السجائر، ربما مراعاة لمشاعري تحرم أخوتي من أساسيات أكثر ضرورة، ناهيك عن البرد والجوع والمخيمات والفصائل وغياب المؤسسات وفقدان المستقبل وووو، قائمة طويلة استفاض في شرحها مراد لتمضية ليلته، قبل أن يخلد للنوم كانت وجوه الجندرما التركية على الحدود ترقبه، كشافات الضوء تسلط عليه، شعر بألم مكان وقوع عصيها على أضلاعه، صرخ من الألم. دون جدوى.

“بلم” الموت أيضاً كان له حصة في ترتيب أفكاره، هو سيعاني بشكل أكيد من دوار البحر، وعند غرق البالم سيتمسك بأي جثة ليصل إلى الشاطئ ويعيش في “كامبات” اليونان مع العالقين هناك منذ سنوات، أو ربما يصبح طعاماً للأسماك، مجدداً يفرح أن يعيش في جوف سمكة، ما الذي سيشعر به وقتها، وهل ستستسيغ الأسماء جلده السميك، أكيد أنها ستبصقه.

سيبقى في تركيا إذن، ولن يغامر برحلة البلم، سيبحث طويلاً عن عمل، سيمر بكل الورش، ويسكن في سكن جماعي بارد بدون مدفأة، الليرات القليلة التي سيحصل عليها لن تكفى لأكثر من دخانه وبعض الطعام من المحلات السورية الكثيرة المنتشرة هناك، بنفس الطعم والمذاق، أو سيترك الدخان ليرسل لأبيه بعض النقود تساعده على الحياة، ولكن الرحلة الآمنة إلى تركيا تزيد تكلفتها عن ألفي دولار، لو كان يملكها لما سافر يقول أحد ما في داخله، كان ليفتح دكاناً صغيراً أو ورشة لإصلاح الدراجات النارية، وإن كان سيترك الدخان لماذا سيذهب إذن، هنا في بيته لا مصروف له سوى ثمن علبة السجائر وبضع لقيمات يقتات عليها، بعد أن فقد شهية الطعام منذ فترة طويلة.

ربما سيعيد “البكالوريا” هذه السنة، سيحصل على مجموع يؤهله دخول كلية الحقوق التي يحبها، والتي طالما كانت حلم طفولته، حين بدأت الثورة كان بعمر الثانية عشرة، طفل يرتاد المدرسة بأحلام كبيرة أن يصبح قاضياً بعد تخرجه من كلية الحقوق، الفارق ليس كبيراً ربما سيصبح الآن شرعياً، يبتسم مجدداً وحده كمن يعاني أهلاساً في الذاكرة. زميلا دراسته اللذان رافقاه خلال الصفوف المتعاقبة، دخلا إلى الجامعة في إدلب، أحدهم كان دائماً يغبط مراد على رسوبه، وهو يعمل في واحد من مكابس البلوك، ليؤمن ثمن أجرة الطريق إلى جامعته التي ارتادها لمرات قليلة خلال سنتيه الدراستين ورسوبه فيهما، أما الآخر فقد كان يشعر بالحرج في كل مرة يطلب فيها من والده نقوداً لدراسته، ما اضطر الأب لبيع أرض لتحقيق رغبة ولده الذي دخل إلى كلية التربية، معظم معلمي المنطقة يعملون الآن تطوعاً بلا رواتب، بعد انقطاع الدعم، قال له صديقه إنه يدرس فقط للحصول على الشهادة، فلا أحلام ولا بوادر خير تلوح في أفق دراسته، وأكثر ما يخشاه صدمة والده بعد تخرجه، بجلوسه في المنزل، ينام على فرشة من الصوف، بجانبه منفضة من السجائر المحترقة.