يرتبط اسم منبج، في ريف حلب الشرقي، تاريخياً بينابيع المياه الكثيرة في المدينة ومحيطها، لكنّ سكانها، ومنذ أكثر من أربعة أشهر على التوالي، يشتكون عوز مياه الشرب التي توقّفت مضخاتها، وأصبح الحصول عليها يقتصر على صهاريج مرتفعة الثمن تستهلك ثلث دخلهم الشهري.
يرجع سكان في منبج، أزمة المياه التي يعيشونها، لأسباب كثيرة أهمها توقف وصول مياه البلدية عبر أنابيب شبكات المياه إلى منازلهم، إضافةً إلى انخفاض مخزون آبار المياه، نتيجة التغيرات المناخية، وزيادة الاستهلاك، ما تسبب بارتفاع أسعار المياه المنقولة من آبار بعيدة، في ظل ارتفاع أسعار المحروقات.
المدينة الواقعة على ضفاف الفرات عطشى، يقول سكان تحدثنا معهم في منبج، دون حلول جدّية لإنقاذ مئات آلاف السكان الذي يعيشون في المدينة والقرى المجاورة لها، إذ لا يكاد يخلو حديث بين اثنين عن أزمة المياه وتكلفتها، إضافة للآبار التي شحّت مياهها وصهاريج النقل التي تفتقر لأدنى درجات التعقيم والنظافة، والمياه غير المراقبة. لكن أكبر هموم من التقيناهم كانت تتحدث عن اقتراب فصل الصيف، وما ستتركه الحاجة المتزايدة للمياه من مشكلات وتكاليف لا يملكونها.
بدأت مشكلة نقص المياه في منبج منذ نحو أربعة أشهر، ومع توقف 6 مضخات مياه عن العمل إثر سيطرة الجيش الوطني في الثامن من كانون الأول الماضي على المدينة.

يشرح المهندس محمد الحسن، مدير المكتب الخدمي في الإدارة المدنية لـ منبج، أن مشروع مياه منبج يضم 8 مضخات، 4 منها تقع عند مصدر الضخ في محطة البابيري على نهر الفرات في ناحية الخفسة بريف حلب الشرقي، تضخ المياه إلى محطة تل أسود التي تحتوي على 4 مضخات أخرى تضخ المياه إلى الخزان الأرضي في جبل القرعة الذي يغذي المدينة. كذلك هناك مضخة احتياطية في محطة البابيري لم تكن قيد العمل سابقاً.
ويضيف أن “الاشتباكات بين الجيش الوطني وقوات سوريا الديمقراطية”، تسببت بتعطيل 6 مضخات (3 في كل محطة)، في 8 كانون الأول الماضي، ما أدى إلى انخفاض الضخ إلى الربع، وبمرور الوقت أدى “عدم تدارك المشكلات في المضخات”، إلى انهيار المشروع وتعطّل المضختين الباقيتين، وتوقف المياه عن منبج بشكل كامل.
حلول إسعافية لم تحقق الجدوى المطلوبة اعتمدت لحل مشكلة المياه المنقطعة منذ أشهر، منها إصلاح المضخة التاسعة في محطة البابيري من قبل ورشة إصلاح أرسلتها مؤسسة مياه حلب، لكنها لم تخدّم سوى بلدة الخفسة والقرى المحيطة بها، بحسب المهندس الحسن.
قبل شهرين، ومع تفاقم أزمة المياه وزيادة مطالبات الأهالي بتوفيرها، نقلت مؤسسة مياه حلب المضخات الثمانية إلى مركز المدينة لصيانتها، وقبل أسبوع نشرت المؤسسة على صفحتها في موقع “فيسبوك“، منشوراً أعلنت خلاله مباشرة منظمة Oxfam تنفيذ مشروع صيانة مضخات المياه في مدينة منبج، وذلك بعد توقيع عقد الصيانة مع المتعهد واستلام موقع العمل بهدف “تحسين وصول المياه للسكان وضمان استمرارية الضخ بهدف التخفيف من معاناة السكان، إضافةً إلى تعزيز البنية التحتية المائية في المنطقة”.
يرجّح أن العمل على صيانة المضخات يحتاج لنحو 40 يوماً، إن أنجز في الموعد المحدد، في الوقت الذي سيبقى فيه السكان دون مياه حتى إتمام إصلاحها، ما سيزيد من التكاليف المرهقة على حياتهم اليومية، لتدخل المياه كمشكلة جديدة تضاف إلى سوء الأوضاع الاقتصادية وغلاء الأسعار وضعف مستوى الدخل.

تحتاج عائلة مكونة من خمسة أشخاص إلى نحو 15 برميلاً من المياه أسبوعياً، ومع ارتفاع أسعارها يقنن الأهالي استخدامهم للمياه إلى 5 براميل (1000)، وهو ما يعادل نحو ثلث الحد الأدنى لحاجة الفرد اليومية من استهلاك المياه للشرب والاستخدام الشخصي التي حددتها الأمم المتحدة بنحو (50 إلى 100 لتر يومياً).
تحدد الأمم المتحدة تكلفة مياه الشرب بنحو 3% من دخل الفرد، لكنّ النسبة في منبج تزيد عن 20% بالحد الأدنى، غير المقبول دولياً لحصة الفرد من المياه، وتختلف هذه التكلفة بين مكان وآخر وبائع مياه عن آخر.
ضمن سياسة العرض والطلب، يبحث سكان في منبج عن أرخص تكلفة بين أصحاب صهاريج المياه المتجمعين بالقرب من دوار السفينة وسط المدينة، يقول أحدهم واسمه مجد المطر، يسكن حي الحزاونة جنوب شرقي منبج، إنه يتنقل بين بائع وآخر، بحثاً عن أرخص تكلفة. يعمل المطر في محل تجاري، مواد غذائية، بالقرب من دوار اللبنة في منبج، بأجر أسبوعي يصل إلى 30 دولاراً أمريكياً، يقول إنه يقنن من استهلاك مياه عائلته المكونة من 4 أفراد، ويشتري نحو خمسة براميل أسبوعياً فقط.
أنور خليل (29 عاماً) يسكن في حي البيرم قرب دوار السبع بحرات في منبج ويعمل على “آلة إكسبريس” قال إن عائلته تستهلك عشرة براميل أسبوعياً يشتريها على دفعتين، ويدفع في كل مرة 45 ألف ليرة سورية (نحو 4.5 دولاراً).
ويضيف، أن “أزمة المياه في منبج مرت بمراحل عديدة تسببت في حالة استغلال لحاجة الأهالي بسبب انقطاع المياه بشكل كامل، حيث وصل سعر صهريج المياه سعة 5 براميل إلى 75 ألف ليرة سورية، قبل أن ينخفض إلى 50 ألف ليرة سورية، نتيجة احتجاج الأهالي على ارتفاع الأسعار والشكاوى المستمرة من الاستغلال”.
يكسب مجد وأنور نحو 120 دولاراً شهرياً من عملهما، يشرح أنور أنه يدفع نحو 40 دولاراً (ثلث راتبه) ثمناً للمياه، إضافة لـ 65 دولار إيجاراً لمنزله، و 5 دولارات ثمناً لأمبير كهرباء للإنارة فقط، ويعيش مع أسرته بنحو 10 دولارات لا تكفي ثمناً للخبز!
تزيد تكلفة المياه بحسب مصدرها وأماكن إيصالها وتلعب أسعار المحروقات دوراً هاماً في تحديدها، يقول عيسى جمعة حمادة، صاحب صهريج يعمل بنقل المياه منذ نحو 9 سنوات، وأحد الباعة المتمركزين في دوار السفينة. يقدّر حمادة حاجة الأسرة المكونة من خمسة أفراد من المياه بنحو 10 براميل أسبوعياً، يبلغ ثمنها نحو 10 دولارات، وتزيد عن ذلك كلما كانت المسافة أبعد بين المنهل والزبون.

صهريج مياه حمادة يجرّه جرار زراعي ينقل المياه من مناهل تبعد نحو 5 كيلو مترات عن مركز منبج بعد أن تراجعت كميات المياه في الآبار المحيطة بالمدينة، لأسباب يرجعها إلى تراجع الهطل المطري وزيادة الاستخدام بعد توقف مياه شرب البلدية عن الوصول إلى منازل الأهالي.
يرى حمادة أن الأسعار مرتفعة، وهو ما قلّل من طلب السكان على المياه، رغم حاجتهم لها، لكن أصحاب الصهاريج يتقاضون الحد الأدنى على عملهم، يقول”تراجع عملنا بسبب تقنين الأهالي استخدام المياه نتيجة ارتفاع أسعارها الذي يعود إلى سبب ارتفاع أسعار المحروقات، حيث سجل سعر لتر المازوت 10 ألاف ليرة سورية (دولار واحد)، والنقلة الواحدة تحتاج إلى 3 لترات على الأقل”. ويضيف “يدفع صاحب الصهريج نحو 3 دولارات للوقود، ودولار واحد ثمناً للمياه، ويربح بين نصف دولار إلى دولار عن كل طلبية”.
وعن وجود أسعار متفاوتة يقول حمادة إن هناك مناهل يطلق على مياهها اسم (المنكوبة) نسبة إلى قرية المنكوبة الواقعة شمالي منبج، بسبب قربها من مجرى الصرف الصحي تباع بأسعار منخفضة، رغم عدم صلاحيتها للشرب، حيث تضطر عوائل إلى شرائها بسبب ضيق الأحوال المعيشية.
في انتظار حلّ لمشكلة المياه في منبج ومدن أخرى تشكو الأمر ذاته، تتفتق في كل يوم مشكلة خدمية جديدة بعد انهيار المرافق الحيوية السورية خلال السنوات الماضية وارتفاع تكلفة إصلاحها إلى أرقام تتجاوز مئات مليارات الدولارات، ما يستدعي حلولاً دولية شاملة، وحلولاً إسعافية لتأمين أدنى الخدمات بأسعار معقولة تناسب حياة السكان.