فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

سعد الله الجابري بعيداً عن ساحته في حلب

علاء السيد

حملت ساحة سعد الله الجابري ذاكرة الحلبيين كأهم معالم المدينة.. يعاد اليوم ترميمها ويثار الجدل حول نصب الشهداء فيها، أمام أعين تمثال صاحبها الذي ينظر إليها من بعيد

في ركن طرفي من الساحة الرئيسة بحلب، يقبع نصب سعد الله الجابري (1893 ـ 1947) الذي سميّت الساحة باسمه، بعد أكثر من أربعين عاماً على حبسه في غرفة مظلمة. 

 صورة لـ سعد الله الجابري الذي سميت الساحة باسمه -المصدر: دار الوثائق بحلب 
صورة لـ سعد الله الجابري الذي سميت الساحة باسمه -المصدر: دار الوثائق بحلب 

متهالكاً يبدو، اليوم، التمثال الذي أعاد تنفيذه النحات طه محمد شنن عن التمثال الأصلي للفنان فتحي محمد قباوة ليأخذ مكانه في طرف الساحة، بينما توسطها تمثال حمل اسم “نصب الشهداء” للنحات الحلبي عبد الرحمن المؤقت، منذ ثمانينيات القرن الماضي. 

تمثال سعد الله الجابري الموضوع خارج الساحة في الطرف الجنوبي -تصوير: مهند المصطفى
تمثال سعد الله الجابري الموضوع خارج الساحة في الطرف الجنوبي- تصوير: مهند المصطفى
النحات طه محمد شنن مع تمثال سعد الله الجابري -المصدر: دار الوثائق بحلب
النحات طه محمد شنن مع تمثال سعد الله الجابري -المصدر: دار الوثائق بحلب

مرّت ساحة سعد الله الجابري بمراحل عديدة، وفي الثورة السورية ارتبطت في مخيال الحلبيين بالمكان الأهم الذي يعدّ الوصول إليه غاية المتظاهرين لإسقاط حكم الأسد. 

ومع سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024، عادت الساحة المتهالكة إلى رمزيتها، وغدت مقصد الزائرين إلى المدينة، وأثار ترميمها جدلاً بين الحفاظ على إرثها التاريخي والتمثال الذي يتوسطها، وبين الراغبين بتجديدها وترميم أرضيتها وحدائقها، وإزالة “نصب الشهداء” منها. 

 ساحة سعد الله الجابري بعد سقوط نظام الأسد، يظهر فيه بدء عمليات الترميم ونصب الشهداء- تصوير : وليد عثمان
ساحة سعد الله الجابري بعد سقوط نظام الأسد، يظهر فيها بدء عمليات الترميم ونصب الشهداء- تصوير : وليد عثمان

حكاية الساحة، بدأت قبل ولادة صاحب اسمها، مع نهاية القرن التاسع عشر، آنذاك، كانت حلب لا تتوسع غرباً بسبب نهر قويق الذي يحدّها من الجهة ذاتها، ويفصلها عن سلسلة من البساتين المروية بمياه النهر، تليها أراض جرداء. 

الوسيلة الوحيدة لعبور النهر إلى الجهة الغربية وقتها، كانت جسراً صغيراً كان يسمى “جسر الناعورة”، ويقع بين ثانوية معاوية في حي الجميلية حالياً والمتحف الوطني. وكان على القادمين من غربي المدينة اجتياز هذا الجسر للدخول إلى أحياء المدينة القديمة عبر منطقة باب جنين. 

جسر الناعورة (1915 -1920) -المصدر: دار الوثائق بحلب
جسر الناعورة (1915 -1920) في مدينة حلب- المصدر: دار الوثائق بحلب

محاولات عدة جرت لتوسعة الجسر الضيق، حتى عام 1897، حين طرأت فكرة تحويل مدخل حلب الرئيس إلى الجهة الغربية عبر جادة عريضة (12 متراً)، أنشئت فوق خندق المدينة التاريخي من جهة باب الفرج، بعد ردمه، سميت بـ “جادة الخندق”. 

 جادة الخندق 1898- المصدر: دار الوثائق بحلب
جادة الخندق في مدينة حلب عام 1898- المصدر: دار الوثائق بحلب

العمل على جادة الخندق استمر لثلاث سنوات، ردم فيه الخندق من أكوام الأتربة والأنقاض التي تشكل اليوم “منطقة التلل”، وظهرت ساحة باب الفرج، وشارع القوتلي الذي يصلها بالجادة الجديدة. 

فوق مجرى النهر، وفي عام 1900، بُني جسر حديث عريض لاجتيازه، وهو ما أسس لوجود الساحة. 

 الجسر الجديد عام 1922- المصدر: دار الوثائق بحلب 
الجسر الجديد في مدينة حلب عام 1922- المصدر: دار الوثائق بحلب 

لربط القسم الحديث الغربي من حلب بقسمها الشرقي القديم، مُدّت خطوط “الترام” فوق الجسر في عام 1929، وتحوّلت الساحة إلى مدخل رئيس للمدينة، وبدأت الأبنية الخاصة والمتنزهات تنشأ على طرفي الجادة الجديدة، بدء من شارع جادة الخندق حتى حي الجميلية وجامع الصديق، كان أهمها: منتزه لونا بارك وقهوة الدب ومسرح الشهبندر وقهوة الأزبكية.

الترام عام 1929 يمر فوق الجسر الجديد- المصدر: دار الوثائق بحلب
الترام عام 1929 يمر فوق الجسر الجديد في مدينة حلب- المصدر: دار الوثائق بحلب
الترام يجتاز المنطقة الممتلئة بالمتنزهات والتي ستشكل نواة ساحة سعد الله الجابري عام 1930- المصدر: دار الوثائق بحلب
الترام يجتاز المنطقة الممتلئة بالمتنزهات والتي ستشكل نواة ساحة سعد الله الجابري في مدينة حلب عام 1930- المصدر: دار الوثائق بحلب

بعد عشر سنوات، وفي أربعينيات القرن الماضي، توسعت المنطقة وردمت جهة الحديقة العامة، ومنذ عام 1945، وفي أول زيارة للرئيس السوري شكري القوتلي إلى حلب، والذي أطلق اسمه على الشارع الذي يصل بين ساحة باب الفرج والساحة الجديدة التي تحولت إلى ساحة رئيسة لاستقبال الاستعراضات الرسمية في المدينة. 

الاستعراض الأول عام 1945 في ساحة سعد الله الجابري ترحيبا بالرئيس السوري شكري القوتلي- المصدر: دار الوثائق بحلب
الاستعراض الأول عام 1945 في ساحة سعد الله الجابري بمدينة حلب ترحيبا بالرئيس السوري شكري القوتلي- المصدر: دار الوثائق بحلب

في عام 1946، انطلق من الساحة موكب مهيب احتفالاً بجلاء الفرنسيين عن سوريا، وبني على الطرف الجنوبي منها بناء ضخماً اشتهر باسم “بناية سينما الجمهورية”، استقبلت في أحد بيوتها الزعيم الحلبي سعد الله الجابري، خلال إحدى زيارته إلى المدينة قادماً من مكان إقامته في فندق أمية بدمشق. 

 احتفالات الجلاء عام 1946 في ساحة سعد الله الجابري- المصدر: دار الوثائق بحلب
احتفالات الجلاء عام 1946 في ساحة سعد الله الجابري بمدينة حلب- المصدر: دار الوثائق بحلب

بعد عام واحد، وبعيد وفاة سعد الله الجابري سنة 1947، أطلق اسمه على الساحة التي عرفت منذ ذلك الوقت باسم ساحة سعد الله الجابري، التي شهدت أول استعراض عسكري في المدينة عام 1948.

الاستعراض العسكري عام 1948 في ساحة سعد الله الجابري- المصدر: دار الوثائق بحلب
الاستعراض العسكري عام 1948 في ساحة سعد الله الجابري بمدينة حلب- المصدر: دار الوثائق بحلب

توسّعت ساحة سعد الله الجابري بعد تأسيس الحديقة العامة في حلب عام 1949، وسُقف قسم من مجرى نهر قويق الذي بات يمرّ تحتها وبدأت ملامحها بالظهور، إذ أضحت السيارات تعبرها إلى جانب الترام. في ذلك الوقت كان الجانب الجنوبي من بناء الجسر ما يزال ظاهراً للعيان. 

القسم الغربي من ساحة سعد الله الجابري جهة حي الجميلية عام 1950- المصدر: دار الوثائق بحلب
القسم الغربي من ساحة سعد الله الجابري من جهة حي الجميلية في مدينة حلب عام 1950- المصدر: دار الوثائق بحلب


عام 1952 جرت احتفالات ضخمة ومهيبة بمناسبة فصل المصالح السورية عن اللبنانية بعيد الاستقلال (مصلحة الجمارك ومصلحة البريد)، فيما اعتبر استقلالاً حقيقياً لسوريا، كان لساحة سعد الله الجابري في ذلك اليوم رمزية خاصة بعد أن تجمع فيها آلاف السوريين ورفعت الأعلام على “بناية الجمهورية”.

احتفالات فصل المصالح عام 1952 في ساحة سعد الله الجابري و تظهر بناية الجمهورية المطلة عليها- المصدر: دار الوثائق بحلب
احتفالات فصل المصالح عام 1952 في ساحة سعد الله الجابري بمدينة حلب و تظهر بناية الجمهورية المطلة عليها- المصدر: دار الوثائق بحلب

منذ تأسيس مهرجان القطن السنوي في حلب عام 1954، ارتبط تقليده السنوي بمرور العربات المزينة بالقطن أمام منصة تعد في ساحة سعد الله الجابري لذلك الغرض. 

عربات مهرجان القطن تمر أمام المنصة الرئيسية في ساحة سعد الله الجابري عام 1960- المصدر: دار الوثائق بحلب
عربات مهرجان القطن تمر أمام المنصة الرئيسية في ساحة سعد الله الجابري بمدينة حلب عام 1960- المصدر: دار الوثائق بحلب

زادت أهمية ساحة سعد الله الجابري ومركزيتها بالنسبة لمدينة حلب بعد الانتهاء من بناء مركز البريد المطلّ على الساحة، نهاية خمسينيات القرن الماضي، والذي أصبح مقصد جميع سكان المدينة ومنفذهم الوحيد للتواصل مع العالم.  

 مبنى البريد بعد الانتهاء من بنائه المطلّ على ساحة سعد الجابري في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي- المصدر: دار الوثائق بحلب
مبنى البريد بعد الانتهاء من بنائه المطلّ على ساحة سعد الجابري في مدينةحلب، نهاية الخمسينيات من القرن الماضي- المصدر: دار الوثائق بحلب

حتى ذلك الوقت كانت السيارات تمرّ في جميع اتجاهات ساحة سعد الله الجابري، لكن ومنذ منتصف ستينيات القرن الماضي بنيت في  القسم الشمالي منها، “برك مياه وأحواض زرع”، في الوقت ذاته أحاط بالساحة مبان حكومية جديدة أهمها مديرية الأوقاف وبناء الجمهورية. 

ساحة سعد الله الجابري منتصف الستينات من القرن العشرين- المصدر: دار الوثائق بحلب
ساحة سعد الله الجابري في مدينة حلب، منتصف الستينات من القرن العشرين- المصدر: دار الوثائق بحلب

الصورة رقم 11:ساحة سعد الله الجابري منتصف الستينات من القرن العشرين -المصدر: دار الوثائق بحلب.

الفندق السياحي، وهو أول فندق بيتوني مؤلف من سبعة طوابق في حلب، وأحد أهم معالم المدينة، وجد لنفسه إطلالة على ساحة سعد الله الجابري على أنقاض البناء السكني القديم العائد لمديرية الأوقاف، إذ بدأت أعمال بنائه في عام 1967.

البناء الجديد للفندق السياحي بحلب مطلاً على ساحة سعد الله الجابري التي كان الترام ما يزال يعبرها- المصدر: دار الوثائق بحلب
البناء الجديد للفندق السياحي بحلب مطلاً على ساحة سعد الله الجابري التي كان الترام ما يزال يعبرها- المصدر: دار الوثائق بحلب

مع الانتهاء من بناء الفندق السياحي في عام 1969، ألغي الترام في حلب، واستبدل بباصات نقل داخلي تسير على مسار الترام ذاته، وحافظت السيارات على طريقها من وسط ساحة الله الجابري التي لم تكن قد توسعت بعد باتجاه الجنوب. 

 ساحة سعد الله الجابري يطل عليها الفندق السياحي المفتتح حديثاً عام 1969- المصدر: دار الوثائق بحلب
ساحة سعد الله الجابري يطل عليها الفندق السياحي المفتتح حديثاً في مدينة حلب، عام 1969- المصدر: دار الوثائق بحلب
ساحة سعد الله الجابري بعد إلغاء خط الترام عام 1970- المصدر: دار الوثائق بحلب
ساحة سعد الله الجابري في مدينة حلب بعد إلغاء خط الترام، عام 1970- المصدر: دار الوثائق بحلب

مثل الترام الذي كان شاهداً على بدايات ساحة سعد الله الجابري، أزيل في عام 1982 بناء الجمهورية المطل على الجهة الجنوبية منها، وبدأت، بقرار من بلدية حلب، توسعة الساحة وإلغاء الشارع الذي يمر وسطها، وتبليطها بالحجر الأصفر وفق أشكال هندسية، كذلك إعادة بناء برك المياه وأحواض الزرع بأشكال جديدة، وسقف المساحات المكشوفة فوق مجرى نهر قويق، ضمن مشروع انتهى في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. 

بعد انتهاء أعمال توسعة وتجديد الساحة عام 1985، وضع فيها تمثال للنحات الحلبي عبد الرحمن المؤقت، حمل اسم “نصب الشهداء” وهو التمثال الذي أثيرت حول نقله أخيراً ضجة كبيرة .

ساحة سعد الله الجابري وفيها تمثال نصب الشهداء عام 2010  -المصدر: أجواء حلب في صور
ساحة سعد الله الجابري في مدينة حلب وفيها تمثال نصب الشهداء عام 2010 -المصدر: أجواء حلب في صور

لم ينصب تمثال صاحب اسم الساحة سعد الله الجابري، النصفي الذي نسخه النحات الحلبي طه شنن عن عمل للفنان الحلبي فتحي قباوة، وسط الساحة، إذ اختير له مكان طرفي في أقصى جنوبي الساحة، يكاد يغيب عن أنظار المارة، ويجهل وجوده معظم المارين بها، كان ذلك في عام 1996. 

 تمثال سعد الله الجابري الموضوع خارج الساحة في الطرف الجنوبي- المصدر: دار الوثائق بحلب
تمثال سعد الله الجابري الموضوع خارج الساحة في الطرف الجنوبي- المصدر: دار الوثائق بحلب

منذ ذلك الوقت لم تطرأ تغيرات شكلية على ساحة سعد الله الجابري، حتى عام 2012، إذ شهدت الساحة تفجيراً طال موقع نادي صف الضباط المطل عليها. 

ساحة سعد الله الجابري وفيها تمثال نصب الشهداء عام 2010  -المصدر: أجواء حلب في صور
ساحة سعد الله الجابري في مدينة حلب وفيها تمثال نصب الشهداء عام 2010 -المصدر: أجواء حلب في صور

لكن تغيرات رمزية طالتها بعد أن تحوّلت في عام 2017 إلى مكان لإحياء مهرجانات دينية تقودها “ميليشيات إيرانية” عرفت باسم “الليالي الساطعة”. 

 مهرجان الليالي الساطعة في ساحة سعد الله الجابري 2018- المصدر: فيسبوك
مهرجان الليالي الساطعة في ساحة سعد الله الجابري في مدينة حلب، 2018- المصدر: فيسبوك

قبل ذلك، ومنذ عام 2012،  كانت الساحة مقرّاً لأجهزة أمن نظام الأسد، ومكاناً لاعتقال مئات الحلبيين في المدينة.

بعد أيام من سقوط نظام الأسد، تحوّلت الساحة إلى مقصد للحلبيين والزائرين من مختلف المحافظات السورية، دخلوا إليها وأعلنوا منها نهاية حقبة من الظلم والموت، في الوقت الذي وجد فيها سكان المدينة المتعبة مكاناً لبيع بضائعهم فغصّت بالبسطات

بعد أيام أزيلت البسطات، وبدأت عمليات ترميم وتجديد الساحة، وجدل حول الحفاظ على شكلها وبلاطها ونصب الشهداء فيها، لم يتخذ القرار بعد، لكن سعد الله الجابري وتمثاله يبدوان خارج الجدل والذاكرة. 

ساحة سعد الله الجابري عام 2025 قبيل مباشرة أعمال إعادة صيانتها -تصوير: وليد عثمان
ساحة سعد الله الجابري عام 2025 قبيل مباشرة أعمال إعادة صيانتها -تصوير: وليد عثمان