في أحد أحياء بلدة معرة حرمة بريف إدلب الجنوبي، نصبت السبعينية شموس الحسن خيمةً أمام منزلها المهجور لتحرسه بنفسها، بعد أن تعرضت مواد البناء التي اشترتها لترميمه للسرقة أثناء وجودها في مخيم الأنوار شمالي إدلب.
لكن فرحتها لم تكتمل. فبينما كانت العائلة في المخيم، سُرقت مواد البناء التي اشترتها من إسمنت وحديد ورمل، لتتضاعف الخسارة التي تجاوزت ألفي دولار، عدا عن تكاليف النقل المتكرر بين المخيم والبلدة.
في ظل غياب أي مركز للشرطة في البلدة، قررت شموس تولي الحراسة بنفسها. تقول: “جلبتُ خيمتي معي، سأبيت هنا، أراقب البلوك وأكياس الرمل والإسمنت والحديد حتى أصلح ما دُمّر من البيت”.
السرقات التي طالت منازل العائدين إلى قرى وبلدات ريف إدلب الجنوبي لم تقتصر على مواد البناء فحسب، بل شملت أيضاً الأثاث والأبواب والنوافذ التي وضعها بعض الأهالي فور عودتهم. فمنهم من تمكن من تأمين المواد اللازمة لإعادة الترميم دفعة واحدة، ومنهم من اضطر لجلبها تدريجياً بسبب التكلفة الباهظة لإعادة الترميم التي تُقدّر بآلاف الدولارات، ما جعل من العودة والاستقرار تحدياً يفوق قدرات كثيرين.
يعزو عامل البناء أبو فجر، أحد أبناء البلدة، ارتفاع تكلفة ترميم المنازل إلى الزيادة المستمرة في أسعار مواد البناء. ويشير إلى أن تكلفة صب سقف بمساحة 100 متر مربع قد تتجاوز ألفي دولار. يوضح: “تتراوح تكلفة صب المتر المربع من السقف بين 15 إلى 20 دولاراً، بينما يبلغ سعر قطعة البلوك 26 سنتاً، وكيس الإسمنت 6.5 دولار. أما الأرضيات، فيتراوح سعر المتر المربع من أرخص أنواع السيراميك بين 8 إلى 10 دولارات.

كما تبدأ أسعار النوافذ والأبواب من 40 دولاراً للقطعة، وتختلف حسب النوع والجودة”. يقول أبو فجر إن هذه المبالغ تفوق قدرة معظم أهالي ريف إدلب الجنوبي، الذين دمرت الحرب منازلهم وتركتهم عاجزين عن إعادة إعمارها.
حلم يواجه السرقة
تصرّ شموس على شراء مواد البناء مجدداً، لكن هذه المرة سيكون المنزل تحت حراستها الدائمة. تمضي نهارها في مراقبة الطريق وحراسة ما اشترته من مواد بعد أن اقترضت مبلغاً من المال لتتمكن من ترميم جزء بسيط من بيتها. تقول بحسرة: “بعد ست سنوات من النزوح والعيش في الخيام، عدنا إلى قرانا… ومعنا خيامنا”.
حتى الأشجار والجذوع المتبقية في حدائق المنازل التي نجت من يد عناصر نظام الأسد، لم تسلم من اللصوص، فغياب الرقابة في بعض القرى وقلة عدد العائدين إليها أسهما في تفشي السرقات. تتأمل شموس فسحة منزلها الترابية التي لم تعد تعرفها جيداً، بعدما غيّرت الأنقاض والحجارة والأعواد اليابسة ملامحها.
تنظر إلى الحفر التي خلّفها لصوص حاولوا اقتلاع جذور الأشجار، بعضها رأته للمرة الأولى عند عودتها. تقلب الحجارة بيدها وتقول: “ما سلم من يد عناصر النظام، لم يسلم من يد اللصوص”.
رغم كبر سنها ونحول جسدها، تساعد شموس ابنها في ترحيل الحجارة من غرف المنزل. تجمع القطع الصغيرة في القُفّة، (وهي سلة صغيرة تستخدمها لحمل الأغراض)، ثم ترميها خارجاً وهي تُتمتم بعبارات الشكوى والدعاء على من خلّف هذا الدمار.

آخر الخيام.. أكثرها قسوة
تنقّلت عائلة شموس، كحال معظم النازحين، بين عدة مخيمات خلال سنوات النزوح، عاشت خلالها ظروفاً قاهرة واختبرت صبرها على أمل العودة يوماً إلى بلدتها. لكنّ الإقامة في “الخيمة الأخيرة”، كما وصفها الحاج خليل الحسن 78 عاماً، زوج شموس، كانت الأقسى والأكثر مرارة. يقول: “تمنّيت لو كانت إقامتي في المخيم هي آخر أيّامنا في الخيام، عوضاً من أن نعيش أيّاماً أُخرى في خيمة أمام بيتنا”.
عائلة شموس واحدة من نحو 250 عائلة فقط عادت إلى بلدة معرة حرمة، حيث نصب معظمهم خياماً للإقامة المؤقتة قرب منازلهم التي ماتزال غير صالحة للسكن، يراقبون أملاكهم عن قرب، تفادياً لتكرار حوادث السرقة.
تتبع معرة حرمة لناحية كفرنبل في منطقة معرة النعمان في محافظة إدلب وبلغ عدد سكانها سبعة آلاف نسمة في عام 2004، “حسب مكتب الإحصاء”. لكن علي الحمود أبو عبدو ابن المنطقة وعضو المجلس المحلي للبلدة يؤكد أن عدد السكان قبل النزوح وصل إلى قرابة 25 ألف نسمة بمعدل 2300 عائلة.
يقول أبو عبدو إنه قبل نحو شهر ونصف الشهر كانت معرة حرمة والقرى المحيطة بها في ريف إدلب الجنوبي شبه مهجورة، وعدد العائلات فيها قليل جداً. أما اليوم، وبعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على استعادة المنطقة وسقوط نظام الأسد، بدأت أعداد العائدين ترتفع رغم شح الخدمات أو انعدامها تماماً.
“لا مياه، لا أفران، لا كهرباء، لا مدارس، لا مخفر، لا مركز صحي، ولا حتى أشجار… المنطقة حتى الآن خالية من مقومات الحياة”، بهذه الكلمات يصف أبو عبدو حال البلدة. ورغم ذلك، فإن رغبة السكان في العودة إلى منازلهم حتى وإن كانت مدمرة، دفعتهم لتقبّل هذا الواقع الصعب.

وفقاً لتقرير صادر عن منسقو استجابة سوريا، شهدت عدة محافظات سورية، من بينها إدلب وحلب وحماة وحمص ودمشق وريفها ودير الزور، تدمير نحو 178,454 منزلاً بين تدمير طفيف وجزئي وكامل، من بينها أكثر من 64 ألف منزل تعرّضت لدمار كامل.
سرقات متكررة.. هل تحل الخيام محل المخافر الأمنية؟
لا تختلف حكاية شموس كثيراً عن قصة الأربعينية نصرة حاج أحمد التي كانت تستعد للعودة إلى قريتها معرة حرمة مع أطفالها الأيتام وأبناء أخيها الذين فقدوا والدتهم منذ مدة، فتولّت تربيتهم إلى جانب أولادها في خيمتها في بلدة كللي بريف إدلب الشمالي.
“لم تعد الخيمة تتسع لنا جميعاً، أصبحنا تسعة أشخاص فضلاً عن أغراضنا المتراكمة في الخيمة. فكرت في إرسال جزءٍ من الأغراض إلى ما تبقى من منزلي في معرة حرمة لتخفيف الازدحام واستعداداً للعودة بعد عدة أيام” تقول نصرة. لكن يد السارقين كانت أسرع من نصرة وأطفالها. تخبرنا أنها عند وصولها للمنزل وجدت الأغراض مسروقة بكاملها، فهو بلا أبواب أو نوافذ ولا شيء يحمي المنازل من السرقات.
وأكملت نصرة: “قام نظام الأسد بسرقة أسقف بيوتنا وأثاثه، وقام اللصوص بسرقة ما تبقى لنا من أمتعة ولوازم بيتية جئنا بها من المخيم ولم يبقَ لنا سوى الحجارة المهدمة وقماش الخيمة”.
تكرار حوادث السرقة بشكل متفرق في عدة مناطق من الريف الجنوبي جعلت إبراهيم حمادة ذا الـ 75 عاماً، من أهالي معرة النعمان، ينصب خيمته داخل أحد مستودعات منزله الذي هدم سقفه، ليحرس المواد والأثاث التي عاد بها من نزوحه إلى معرة النعمان.
يروي الحاج إبراهيم أن معظم جيرانه الذين عادوا فور تحرير المعرة جلبوا معهم بعض الأثاث المنزلي وأغراض بسيطة وحطب للتدفئة ريثما يقومون بتنظيف منازلهم من الركام وإصلاحها، قد تعرضوا للسرقة، وهناك عوائل اشترت مواد بناء لترميم غرفة من منزلها تسكن فيها تعرضت للسرقة أيضاً.
يقول إبراهيم إن جميع السرقات تحصل ليلاً حيث يستر الظلام السارقين ويسهل حركتهم خاصة في منطقة مهجورة مثل الريف الجنوبي، مستغلين عودة الأهالي إلى المخيمات بعد أن أمضوا النهار بالعمل على إزالة الركام وتنظيف المنازل.
جيران إبراهيم في الحي ذاته تعرضوا للسرقة عند عودتهم للمعرة، ومع تكرار الحوادث، بدأ الأهالي يحذّرون بعضهم البعض عبر تسجيلات صوتية في مجموعات “واتس آب” أنشؤوها لمتابعة أخبار المدينة. في تلك التسجيلات، يصف كل منهم حال منزله عند العودة، وصدمته بعد سنوات من الصبر والانتظار في مخيمات النزوح، ليجد بيته منهوباً أو مدمّراً.

يمشي إبراهيم في الأزقة الخالية وبين الأحياء المدمّرة، مسترجعاً الأُنس الذي كان يملأ شوارع المدينة. يقول: “رغم أن معرة النعمان تُعد ثاني أكبر مدن محافظة إدلب وكان عدد سكانها يصل إلى نحو 150 ألف نسمة، إلا أن العائلات التي عادت إليها حالياً لا تتجاوز الألف”.
تغيب دوريات الأمن والحواجز عن تلك المناطق لقلة عدد السكان العائدين بعد، إلا أن عبد السلام خالد اليحيى، وهو معاون قائد الشرطة، أكّد أن الجهات الأمنية قد فعَّلت أربعة مخافر جنوبي إدلب لتلقي الشكاوى وملاحقة السارقين متوزعة بين معرة النعمان وخان شيخون وإحسم وسراقب.
وأضاف: “نقوم بتوجيه دورية كل يوم نحو قرية، لأن كوادرنا قليلة ولا نملك الآليات الكافية”، مشيراً إلى أن أجهزة الأمن تعمل على تأهيل وتدريب كوادر سيتم نشرها في مناطق جنوبي إدلب من أجل الحدِّ من عمليات السرقة هناك، وتخضع هذه الكوادر إلى دورات تدريبية لحماية الأهالي وخدمتهم. من بين الحوادث التي رصدتها إحدى الدوريات في الفترة الماضية، وفق عبد السلام، كان إلقاء القبض على ثلاثة أشخاص مشتبه بهم عند أحد الطرقات، بحوزتهم مسروقات وسيارة ومعدات تساعد على الفك والسرقة.
جهود فردية لتعويض غياب الشرطة
في مدينة كفرنبل تم تفعيل مخفر الشرطة بجهود تطوعية من قبل ثمانية شبان من أهالي المدينة. يقول أبو أحمد، وهو مدير المخفر، إنهم تطوعوا من تلقاء أنفسهم للعمل على حفظ أمن تلك المناطق والحد من السرقات وتلقي الشكاوى من الأهالي العائدين، يعمل هؤلاء المتطوعون دون تقاضي أي أجور سواء في عملهم نهاراً أو الحراسة ليلاً، إضافة إلى دفع أجور المواصلات والتنقّل. وبرأي أبو أحمد فإنه من الضروري أن يقوم هؤلاء الشباب بحراسة قراهم.

يبلغ عدد العائلات التي عادت إلى كفرنبل منذ سقوط نظام الأسد وحتى اليوم نحو 400 عائلة، معظمهم من الذين يعملون في الترميم والبناء وحراسة المواد إلى جانب أُسَرهم.
وبحسب أبو أحمد فإن شباب المنطقة شكلوا فرقاً تسعى لحماية ممتلكات الأهالي من خلال تسيير دوريات ليلية على مفارق القرى وفي داخلها لضبط اللصوص ومصادرة المسروقات من أجل إعادتها لأصحابها، مؤكداً أن المتطوعين تمكنوا في أول يومين من انطلاقهم من حجز سيارات محمَّلة بالحطب ومواد بناء وأغراض منزلية متجهة خارج الريف الجنوبي. وأكمل: “بعد ضبط عدة عمليات سرقة انتشر خبر وجود المخفر ودوريات على الطرقات فانخفضت نسبة السرقة بشكل كبير”.
لكن ورغم السرقات المتكررة وظروف العيش القاسية، يصرّ العائدون على البقاء في قراهم، وحمايتها بأنفسهم إلى أن يكتمل بناء منازلهم بجهود فردية. وإلى أن يحين ذلك، تظلّ الخيام بديلاً مؤقتاً عن البيوت، والخوف شريكاً يومياً في غياب الأمان، بانتظار أن تستعيد قرى ومدن ريف إدلب الجنوبي ملامح الحياة من جديد.