فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

عمال خلف فوارغ البلاستيك.. إصابات مستدامة وحقوق ضائعة

وئام عبد القادر

في معامل لصناعة البلاستيك في أعزاز يشتغل عشرات العمّال في ظروف تفتقر لأدنى معايير السلامة، ويجدون أنفسهم عرضة للإصابات المتكررة والخطر اليومي مقابل أجور زهيدة

داخل أحد معامل البلاستيك في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي يقف محمد عيسى، 24 عاماً، على قدم واحدة مستنداً على عكازه، أمام آلة ضخمة تزن نحو خمسة أطنان. كان قد فقد ساقه بقصف روسي على منزله في حلب قبل عشرة أعوام، ومنذ عامين ونصف العام يعمل لـ 12 ساعة يومياً في ظروف قاسية، بعد أن عجز عن إيجاد فرصة عمل بديلة بسبب إعاقته.

يقضي محمد وزملاؤه ساعاتٍ طويلة في معامل البلاستيك، مقابل أجور أسبوعية لا تتجاوز 21 دولاراً، وسط بيئة عمل محفوفة بالمخاطر قد تؤدي إلى إصابات جسيمة مثل البتر أو هرس الأصابع أو الأطراف، بعضهم يُحرم من القدرة على العمل نهائياً، وآخرون يعودون رغم الألم إلى المكان ذاته.

يؤكد محمد أن جميع العمال دون عقود رسمية أو أي ضمانات قانونية تكفل لهم تعويضات عادلة عند التعرض للإصابة أو المرض، مشيراً إلى أن غياب التشريعات التي تحمي عمال المياومة جعل كثيرين منهم فريسة لظروف العمل القاسية و المحفوفة بالمخاطر.

يعود محمد إلى منزله في مخيم المرندية شمالي أعزاز متكئاً على عكازه، يقول: “كثيراً ما أعود سيراً على قدمي وعكازي التي لم تفارقني منذ عشرة أعوام”. إصابته وبتر قدمه حرماه من فرص عمل، بعد أن طرق أبواب مهن كثيرة دون فائدة، ما دفعه لتحمّل مشاق عمله في معمل البلاستيك رغم قسوته.

قلة فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة في منطقة شمال غربي سوريا إلى نحو 88 بالمئة العام الماضي، حسب تقرير فريق”منسقو استجابة سوريا” أجبرت محمد وأشخاصاً آخرين على العمل في مهن خطرة. يتمسك محمد بعمله في مصنع البلاستيك في الوقت الذي يتركه آخرون بسبب ظروف العمل القاسية والخطر المرافق لها. أحمد  السالم 17 عاماً، واحدٌ منهم، أجبرته ساعات العمل الطويلة والأجرة القليلة على ترك العمل بعد عدة أسابيع.

ماكينة سحب بلاستيك أحد المعامل في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي، نيسان 2025.
ماكينة سحب بلاستيك في أحد المعامل بمدينة أعزاز في ريف حلب الشمالي، نيسان 2025.

استطاع محمد أن يجمع بين عمله ودراسته في الثانوية العامة لفترة قصيرة قبل أن يتخلى عن عمله، فالمسافة بين مكان سكنه في عفرين والمصنع بمدينة أعزاز جعلته يبيت في إحدى غرف المعمل رغم أنها باردة و رطبة ومظلمة. يقول إنه كان يمضي كامل الأسبوع هناك بسبب صعوبة المواصلات وطيلة ساعات العمل فلا مجال للذهاب والعودة يومياً.

يتولى أحمد العمل على آلة من ثلاث آلات كبيرة لكل واحدة منها مهمة معينة، داخل مصنع متخصص بتصنيع فوارغ أوعية للمواد الغذائية مثل اللبن وعلاقات الملابس.

يشرح أحمد آلية العمل قائلاً: “تبدأ العملية بتعبئة المواد الأولية في جزء من الآلة يُعرف بالقالب، وتُعالج تحت حرارة محددة وفق نوع المادة، ثم تخرج القطعة جاهزة عند فتح باب الآلة”. يلتقط أحمد الوعاء البلاستيكي المُصنّع والمخصص لتعبئة اللبن، ويثبت عليه يدوياً قطعة أخرى أُنتجت سابقاً، يواصل تكرار هذه العملية باستمرار، بينما يتوزع باقي العمال على مهام أخرى داخل المعمل.

أحمد واحدٌ من نحو أربعين عاملاً آخرين يتوزعون في ستة معامل تصنيع بلاستيك في مدينة أعزاز، تتراوح أعمارهم بين 15 عاماً و35 عاماً يعملون بتقنيتي النفخ والحقن. تتطلب طبيعة عملهم جهداً بدنياً مثل الوقوف أو الجلوس لساعات وحمل المواد البلاستيكية ووضعها داخل القالب حسب اختصاص كل عامل، وتصل أجرة “الريس” منهم إلى 30 دولار أسبوعياً مقابل 12 ساعة عمل.

تساهم بعض المعامل بتوفير فترة تدريبية  للعمال الجدد مدتها ثلاثة أشهر، تؤهلهم  للتعامل مع الآلات وتجنبهم أي إصابة ناجمة عن العمل، غير أن “معظم معامل أعزاز لا تلتزم بهذه الدورة”. حسب معن شلاش، مسؤول تنفيذي في أحد المعامل.

تعمل معامل البلاستيك على مدار الساعة ضمن ورديتين صباحية ومسائية، ويشدد معن على ضرورة استمرار تشغيل الآلات دون انقطاع، موضحاً: “توقف الآلات يُصعّب إعادة تشغيلها، إذ يتطلب الأمر الوصول مجدداً إلى درجات حرارة عالية تتراوح بين 150 و300 درجة مئوية، بحسب نوع القوالب المستخدمة سواءً كانت للنفخ أو الحقن”.

ماكينة سحب بلاستيك في أحد المعامل في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي، نيسان 2025.
ماكينة سحب بلاستيك في أحد المعامل بمدينة أعزاز في ريف حلب الشمالي، نيسان 2025.

يوضح شلاش طبيعة المواد التي تُنتَج حسب كل آلية، مشيراً إلى أن أدوات المطبخ والأقلام وأجهزة الكمبيوتر والمعدات الطبية تُصنَع بآلية الحقن، بينما تُستخدم آلات النفخ في إنتاج زجاجات المياه ومرطبانات التخزين والأوعية المخصصة لمواد التنظيف.

تستورد هذه المعامل آلاتها وموادها الخام من تركيا والسعودية عبر معبر باب الهوى، وتسمى المواد الخام المستخدمة “الغذائية”وهي مواد آمنة لا تتفاعل مع المواد الغذائية بعد عمليات التعبئة، وفق ما أكده أدهم الريس، صاحب أحد المعامل في أعزاز.

يختلف حجم وكمية الإنتاج حسب حجم القوالب المستخدمة في التصنيع، وتسهم القوالب الصغيرة في إنتاج كميات كبيرة مقارنة بالقوالب الضخمة التي تنتج في الوقت نفسه مواد أقل. يقول الريس “تفوق معدلات إنتاج فوارغ المنظفات وأواني المطبخ ملحقات السيارات الثقيلة نظراً لصغر حجم قوالبها وسهولة تشكيلها، في حين تتطلب القوالب الكبيرة وقتاً أطول ومواد أكثر، مما يقلل كمية الإنتاج”.

قبل أربع سنوات تعرض نضال دباغ  (25 عاماً، اسم مستعار) لإصابة هرس في يده اليمنى أثناء عمله على آلة حقن بلاستيك في أحد مصانع مدينة أعزاز، كادت أن تؤدي إلى بتر كفه لولا تدخل زملائه في اللحظة الأخيرة وإطفاء الآلة. الحادث أسفر عن تهتك في عضلة الكف، وأربعة كسور في أصابعه وساعده. يقول نضال متذكراً تلك اللحظات: “لم أذق طعم النوم لأيام من شدة الألم… كانت أصعب أيام حياتي”.

في حالة نضال علقت قطعة بلاستيك كبيرة منعت نزول المواد المعبّأة، حاول إيجاد سبب المشكلة لمعالجتها. يقول “صعدت إلى أعلى الماكينة، وقفت بجانب الخزان ونزعت قطعة البلاستيك، ثم أكملت العمل من الطرف الثاني للماكينة، حينها حقنت الماكينة قطعة جديدة، وصلت المهمة لي باستلام القطعة المحقونة، وهنا حدثت الكارثة عندما تأخر نزول القطعة.. حاولت استلامها بيدي عوضاً عن انتظارها ونزولها بشكل أتوماتيكي إلا أن الماكينة كانت أسرع مني وأغلقت بابها وبقي كفي معلقاً داخل القالب”.

لم يستوعب نضال ما حدث، شعر بألمٌ شديد وكانت الدماء قد ملأت المكان، علا صراخه بينما زملاؤه العمال يحيطون به، لا يدرون ما يفعلون. في النهاية تم إسعافه إلى أحد المستشفيات لإجراء عملية جراحية.

واجه رجب المصطفى ذو الـ 33 عاماً مصيراً مشابهاً لنضال، وهو عامل مياومة ترك مقاعد الدراسة منذ صغره وانتقل للبحث عن أي عمل يعيل عائلته، إلا أن عمله في مصنع البلاستيك تسبب له بعاهة مستدامة، خسر نصف إصبع الخنصر أثناء عمله على آلة نفخ قبل عدة سنوات. يقول “ثوانٍ معدودة جداً كانت كفيلة بقطع إصبعي.. لم أستطع استيعاب ما حصل”.

يخبرنا كلّ من نضال ورجب أن صاحبي المعملين الذين كانا يعملان بهما تكفلا بجميع مصاريف العلاج الذي امتد لعدة أشهر دون وجود ضمانات صحية أو قوانين ملزمة، إنما من مبدأ العرف والواجب الأخلاقي، بحسب معن شلاش صاحب أحد المعامل.

ويضيف شلاش أن صاحب المعمل تكفّل بعلاج أحد العمال بعد تعرضه لحروق من الدرجة الثانية في وجهه أثناء عمله على آلة تصنيع فوارغ المنظفات، واستغرقت فترة علاجه نحو ثلاثة أشهر قبل أن يتعافى ويعود إلى عمله. ويشير إلى أن أرباب العمل غالباً ما يتحملون تكاليف العلاج عند وقوع إصابات، في ظل غياب قوانين تحمي حقوق العمال أو توفر لهم تغطية صحية شاملة.

ماكينة سحب بلاستيك في أحد المعامل بمدينة أعزاز في ريف حلب الشمالي، نيسان 2025.
ماكينة سحب بلاستيك في أحد المعامل بمدينة أعزاز في ريف حلب الشمالي، نيسان 2025.

تشكلت أول نقابة عمال مياومة في مدينة صوران الواقعة شمالي شرقي مدينة حلب عام 2021، تلاها بعد عامين تشكيل ثماني نقابات للعمال في المدينة ذاتها، و توسع امتداد النقابة ليصل مدينتي أعزاز و صوران، بحسب تقرير نشره “فوكس حلب” عن نقابة العاملين،  لكن أي من تلك النقابات لم تشمل عاملين ضمن مصانع البلاستيك وغيرها من المصانع الأخرى.

سقوط نظام الأسد جمد أنشط نقابة العمال حتى اليوم بانتظار التنسيق مع الجهات الحكومية الجديدة، لإعادة ترتيب أوراقهم، حسب ما أكده رمضان رمضان، أمين سر النقابة. وأضاف أن أهم تحدٍّ يواجه النقابة هو الانفتاح على المحافظات السورية وما يتطلبه من قدرات بشرية ومالية، إضافة لعدم معرفة كيفية دمج النقابات العمالية في مناطق شمال سوريا مع باقي مناطق ومحافظات سوريا، مؤكداً أن العامل الأساسي والأكبر هو العامل الاقتصادي، وعدم وجود دعم قانوني وحكومي لعمل النقابة.

شهدت مدينة أعزاز تطوراً في صناعة البلاستيك بعد عام 2017  إثر وصول اليد العاملة والخبيرة في صناعة البلاستيك من حلب إلى أعزاز بعد عمليات التهجير القسري.

نقل أبو محمد وهو صاحب معمل بلاستيك في حلب معمله إلى مدينة أعزاز بعد تهجيره قسرياً. آلتان  فقط من مصنعه، فتح بهما معملاً صغيراً لإنتاج فوارغ أوعية اللبن، وعلاقات الملابس، يقول إن إنتاجه يغطي الاحتياج المحلي لريف حلب الشمالي. عاد أبو محمد إلى حلب لتفقد معمله بعد سقوط نظام الأسد. يقول إنه وجد عدة آلات قديمة تحتاج للصيانة في معمله نقلها إلى أعزاز لإصلاحها والعمل عليها.

تعكس قصص رجب و أحمد و نضال ومحمد واقعاً عملياً صعباً، يتقاطع مع غياب التنظيم المهني والقانوني لهذه المهنة، لذلك قرر نضال العودة إلى الدراسة بعد إصابته وهو اليوم على مشارف التخرج من الجامعة وقد حمل ندبة في كفه الأيمن لا تفارقه، واختار أحمد مهنة أقل خطورة، فيما قرر محمد ترك العمل والتفرغ لدراسة البكالوريا.