أكوام من الألبسة المستعملة تتراكم داخل محل أم رمسيس التي ودّعت زبونتها سعاد بوجه عابس بعد أن أمضت وقتاً طويلاً بالبحث عن فستان ترتديه للعيد مثلما فعلت العام الماضي، لكن الأسعار التي ارتفعت فجأة جعلتها تخرج “مكسورة الخاطر”، تقول أم رمسيس.
لم توفر سعاد جهداً في نثر قطع الألبسة القديمة الملونة في الركن المخصص للفساتين بحثًا عن قطعة “لقطة” حسب وصفها، وبفحص قماش كل قطعة تعجبها قبل أن تحاول البحث عن أخرى أفضل منها. تضحك في وجه أم رمسيس وتقول مبررة الفوضى التي سببتها: “الاختيار من البالة يحتاج لصبر طويل وحظ جيد”. تأسف أم رمسيس لأنها لم تستطع إرضاء زبونتها، لكن ارتفاع الأسعار لم يترك لها مجالاً لإرضاء الزبائن أكثر.
مشهد الزبائن الباحثين بفضول بين القمصان، والفساتين التي كانت يوماً موضة العام، والأحذية التي خطت خطوات في أماكن تبدو أن طرقها أفضل من شوارع هذه المدينة، لم يعد مشاهداً اليوم، فالمحال خالية إلا من أولئك الذين لم يعلموا بارتفاع رسوم استيراد البالة الذي سبق منع إدخالها بشكل كامل.
بعضهم يغادر بخيبة أمل مثلما حدث مع سعاد، والبعض الآخر يساوم الباعة علّه ينتزع تخفيضًا بسيطًا، أما أصحاب المحال فيقفون في حيرة بين كسب الزبائن أو البيع بخسارة، تشرح أم رمسيس المهجرة من مدينة الميادين إلى مدينة أعزاز شمالي حلب.
قرارات رسمية دون إعلان
تواجه تجارة الملابس المستعملة (البالة) في أعزاز تحديات بسبب القرارات الحكومية الجديدة التي رفعت تكاليف الاستيراد والجمارك، ما أثر على التجار والمستهلكين على حد سواء. وبينما يسعى بعض التجار إلى إيجاد حلول بديلة مؤقتة، مثل تخزين الملابس ذات الجودة العالية أو تقليل الاستيراد، يواجه الكثيرون صعوبات في الاستمرار بهذا المجال.
قبل عشرة أيام من شهر رمضان منعت إدارة معبر باب الهوى إدخال البضاعة من تركيا، فتوجه تجار البالة لإدخالها بعد الحصول على إذن من معبر باب السلامة الذي ألغى الإذن فيما بعد. يقول أبو جعفر، تاجر بالة في مدينة سرمدا إنه وباقي التجار توجهوا لإدخال بضائعهم من العراق عن طريق مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، ليفاجؤوا باحتجاز السيارات غربي تل رفعت من قبل الضابطة الجمركية التابعة للحكومة الجديدة، بحجة أن البضاعة تهريب.

بعدها، تداول تجار البالة عبر مجموعات واتس آب خاصة بهم قراراً لم ينشر على الصفحات الرسمية للمنافذ الحدودية جاء فيه: “إلى الإخوة المواطنين التجار الراغبين بإدخال البضائع الموجودة شمال شرقي سوريا إلى مناطق سيطرة الدولة السورية، سيتم فتح المجال لإدخال البضاعة وترسيمها وفق التعرفة الجمركية النافذة في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية بإدخال البضاعة وتسليمها لأقرب ضابطة جمركية إقليمية: مديرية حلب (معمل الجرارات)، مديرية حماة (جمارك حماة)، مديرية حمص (مركز ترانزيت شنشار)، اعتباراً من يوم الثلاثاء 4 رمضان ولغاية يوم الخميس 20 رمضان تحت طائلة الملاحقة والحبس والغرامة بعد انقضاء المدة المحددة أعلاه، لأخذ العلم والالتزام بمضمونه”.
يقول أبو جعفر إن بعض التجار شككوا بالقرار لأنه لم ينشر بشكل رسمي، لكن مستوردي البالة واجهوا مشاكل ومطالبات تتوافق مع ما ذكر في الرسالة. ففي يوم إصدار القرار نفسه، دخلت سيارة شحن بضاعة ولم يسمح لها بقطع المعبر. يقول: “اضطررت لأن أتركها على الحدود في الرقة ريثما نجد حلاً”.
للسماح للبضاعة بالدخول إلى مناطق الحكومة السورية طلب من أبي جعفر دفع مبلغ قدره أربعة آلاف دولار على الطن الواحد، وبعد المفاوضات انخفض المبلغ إلى ألف دولار على الطن الواحد.
هذه التكلفة المرتفعة بالكاد ستجعل التجار يعوضون ما دفعوه ثمناً للبضاعة أو لربح القليل من المال الذي لن يعوض مشاق السفر وإجراءات الشراء. يشرح أبو جعفر الذي تخلص من البضاعة ببيعها لأحد التجار بجانب المعبر، كما اضطر لتسريح ثلاثة عمال بسبب عدم قدرته على دفع الرواتب، وعلى إثر ذلك يفكر بترك هذا العمل.
لم يكن هذا القرار الذي طال سوق البالة الأول من نوعه، فبعد سقوط نظام الأسد منع الجانب السوري استيراد البالة التي كانت تدخل عن طريق تركيا، وكان الإعلان منقولاً بشكل شفهي من المخلص الجمركي للتجار، لأن القرارات العاجلة لا تنشر بشكل رسمي، بحسب عبدالرحمن السيد علي، مخلص جمركي في معبر باب السلامة.
يخبرنا السيد علي أن القرار الأخير بمنع الاستيراد جاء أيضاً بشكل مفاجئ دون التشاور مع التجار أو المستفيدين. يشرح: “في الغالب، عندما يصدر قرار ينفذ دائماً ولا يتم التراجع عنه، والعقوبات ضد المخالفين تبدأ بمصادرة البضاعة عند المخالفة الأولى، وعند المخالفة الثانية تفرض غرامة مالية تقدر بثلاثة أضعاف سعر البضاعة المحملة”. يبرر السيد علي هذه الإجراءات على أنها جاءت لتفعيل وتشجيع الإنتاج المحلي وتشغيل اليد العاملة في البلد.
رحلة البالة
بعد سقوط نظام الأسد، دخلت البالة الأوربية من أسواق الشمال السوري إلى باقي المحافظات، حتى أن معظم بائعي البالة اتجهوا حديثاً للساحات العامة، مثل ساحة سعدالله الجابري في حلب. ولاقت البسطات إقبالاً كبيراً عند الزبائن لجودة البضاعة ورخص ثمنها، خاصة أنها لم تكن متوفرة على زمن نظام الأسد الذي كان يمنع استيرادها، واليوم، بعد القرار الأخير أصاب ارتفاع الأسعار كل المناطق وتراجعت تجارة البالة في عموم المحافظات السورية الخاضعة للحكومة.
أبو محمد تاجر بالة في مدينة أعزاز منذ عام 2012، يشرح الطريق الذي تسلكه البضاعة قائلاً: “نستورد البالة ضمن حاويات من أوروبا إلى المنطقة الحرة في تركيا والمعروفة باسم “سربست بولغا”. قبل وصولها إلى سوريا تمر الملابس المستعملة بمرحلة الفرز في مستودعات مرسين التركية. ومن شمالي العراق إلى القامشلي ومنبج شرقي سوريا، وتستغرق الشحنة للوصول إلى سوريا مدة أسبوع”.

تصنف الألبسة المستعملة إلى ست مستويات، أجودها تسمى (كريم) وتعني أن القطع غير مستخدمة وما تزال تحمل ورقة الشركة المصنعة، وأنها من بلد تراعي تطبيق معايير الجودة، وتحمل علامة تجارية كبيرة. تكون قيمة هذا الصنف مرتفعة أكثر من الأخرى، وتحتوي أيضا على ملابس صيفية وشتوية، تراعي جميع الأعمار والمقاسات للذكور والإناث.
سابقاً ولمدة 14 سنة كان استيراد الملابس المستعملة مسموحاً مما شكل فائضاً كبيراً في المستودعات انعكس على الأسعار وهذا ما يفسر رخص ثمنها، أما بعد وضع رسوم مرتفعة على الاستيراد ثم منعه بشكل كامل، فقد تراجعت نسبة الشراء نحو خمسين بالمئة، حسب تقديره.
بعد المفاوضات بين التجار وإدارة المعابر، خفّضت الرسوم إلى ألف دولار عن الطن الواحد من ملابس البالة، وعادةً تحتوي الحاوية على 26 طناً من الملابس، ما يجعل تكلفة الجمارك 26 ألف دولار لكل حاوية، أيضاً يترتب على التجار تكاليف أخرى لن يستطيعوا تعويضها إن لم تتراجع الحكومة عن هذه القرارات، بحسب تجار التقيناهم.
معظم التجار عادوا بعد سقوط نظام الأسد إلى مناطقهم لفتح معامل الألبسة وإنتاج وطرح البضاعة في السوق، ومن خلال عدة مناقشات مع الحكومة الجديدة تم طرح إيقاف البالة ومنعها، لتفعيل الصناعة المحلية ما سينعكس بشكل سلبي على فئة كبيرة من تجار البالة والفقراء الذين لا يستطيعون شراء الألبسة الجديدة، بحسب أبومحمد.
محاولات للحل
سامر الحمصي، 30 عاماً، بائع ملابس مستعملة، يشكو أثناء توضيبه ما تبقى من بضائع في محله من انخفاض المبيع بشكل ملحوظ، ويحكي عن نيته قبل صدور القرار بالعودة إلى حمص لأنه كان يتوقع إقبالاً أكثر هناك بسبب قلة المحلات، لكن بعد ارتفاع الأسعار سينتظر حتى يدرس السوق جيداً لربما يتغير الحال إلى الأفضل إذا التفتت الحكومة لسماع التجار وحل مشاكلهم.
تأثير الجمركة أصبح واضحاً على الألبسة والإكسسوارات المستعملة، يخبرنا عبدالله حياني 27 سنة، عامل في محل ملابس مستعملة، فـ السعر تضاعف، والزبائن يعرضون عن الشراء بعد معرفة ثمن القطعة الواحدة في الأكوام المصنفة، حسب السعر والجودة.
يتجول عبدالله بين البضائع المكدسة في المستودع، يتساءل عن مصير التجار الصغار الذين كانوا يختارون قطعاً لبيعها، منهم نساء أرامل يكسبن قوتهن من هذا العمل ويسددن ثمن القطع بعد المبيع، إلا أنهنّ أيضاً تأثرن بارتفاع الأسعار وأعرض زبائنهنّ عن الشراء. يقول عبدالله “حاولنا الانتقال إلى مدينة حلب، لكن الإيجار مرتفع جداً هناك، وصاحب المحل لن يكون قادراً على دفع رواتب للعمال، لذلك نفتح المحل كل يوم لتأمين المصروف وإن كان بسيطاً”.
يقترح أبو محمد وأبو جعفر توصيات بأن تعيد الحكومة النظر في القرار، بما يتناسب مع حفظ مصالح التاجر والبائع والمشتري، وأن يتم فتح طريق شرعي لمرور البالة لدفع الرسوم الجمركية مرة واحدة للمعابر في الداخل السوري عوضاً عن دفعها لأكثر من جهة كما كان يحصل عند دخولها من العراق إلى مناطق سيطرة الإدارة الذاتية ثم إلى مناطق الحكومة السورية.
رؤية الحكومة
مازن علوش، مدير العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، يعتبر أن قرار منع استيراد الألبسة المستعملة (البالة) عبر المعابر الحدودية السورية يحمل أهمية كبيرة من عدة جوانب، سواء الاقتصادية أو الصحية أو الاجتماعية.
ولفت علوش إلى إنشاء الحكومة السورية لهيئة موحدة للمعابر بعد سقوط نظام الأسد، كما صدرت تعرفة جمركية موحدة تشمل كل المعابر، وأكدّ أنه من اللحظة الأولى لإصدار التعرفة الجمركية كانت الملابس المستعملة على قائمة البضائع الممنوع استيرادها وغير مسموح بدخولها كحال كثير من المواد الأخرى، وقال إن البضاعة المتواجدة في السوق حالياً دخلت قبل قرار المنع.
يقول علوش: “من أهم إيجابيات القرار، حماية الصناعة الوطنية، فاستيراد الألبسة المستعملة كان يشكل ضرراً مباشراً على قطاع صناعة الألبسة السورية، والذي يتمتع بجودة جيدة وكفاءات محلية”. يؤكد العلوش أن القرار يهدف إلى دعم المنتج الوطني، وتشجيع المصانع وورش الخياطة المحلية على زيادة الإنتاج، ما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد وتشغيل اليد العاملة.
كذلك، وبحسب العلوش، يسهم منع استيرادها بالحفاظ على الصحة العامة، “فالألبسة المستعملة غالباً ما تكون مصدراً للأمراض الجلدية أو نقل العدوى، خاصة إن لم تخضع لعمليات تعقيم وتنظيف دقيقة”. لذلك فإن المنع، بحسب العلوش، يهدف إلى حماية المواطنين من المخاطر الصحية المرتبطة بارتداء ملابس سبق استعمالها في بيئات غير معلومة.
“تجارة البالة كانت باباً واسعاً للتهريب واستنزاف القطع الأجنبي، ويدخل في إطار الاقتصاد الموازي غير المنظم”. يشرح العلوش مؤكداً أنه غالباً ما كانت تُهرب كميات دون رقابة أو تنظيم، ما يفقد الدولة إيرادات جمركية مهمة، وبقرار المنع، يتم تعزيز ضبط المعابر وتوجيه التجارة إلى القنوات القانونية المنظمة.

وبرأيه فإن سوق الألبسة السورية بحاجة للارتقاء والابتعاد عن ثقافة الاستهلاك السلبي، إذ يُفضل تحفيز المستهلك على شراء ملابس جديدة بجودة مناسبة، عوضاً عن الاعتماد على المستعمل. أيضاً يساهم القرار بتعزيز عوائد الدولة من قطاع الجمارك، لأنه مع إغلاق باب البالة، تتوجه الاستثمارات نحو استيراد المواد الخام اللازمة للصناعة المحلية بدلاً من الملابس الجاهزة المستعملة، ما ينعكس على زيادة الصادرات السورية مستقبلاً عوضاً عن الاعتماد على الاستيراد.
يعتبر العلوش أن القرار يمثل خطوة إصلاحية تهدف إلى دعم الاقتصاد الوطني، حماية الصحة العامة، وضبط حركة التجارة الخارجية من خلال المعابر الحدودية السورية.
مختصون يؤيدون القرار
يؤكد مدير العلاقات العامة في وزارة الصناعة، الأستاذ إياد نجار، أن قرار منع استيراد البالة يسهم في تعزيز الصناعة المحلية عبر تشجيع الشركات على زيادة الإنتاج، مما يفيد الاقتصاد الوطني ويعزز استقلالية السوق. ويرى أن دعم المصانع لا يقتصر على المنع، بل يمكن تحقيقه من خلال تقديم حوافز استثمارية تعزز القدرة الإنتاجية وتوفر فرص عمل جديدة.
ويشير النجار إلى أن القرار يعد خطوة استراتيجية لحماية سوق الملابس الجديدة، إذ يحفز الطلب على المنتجات المحلية ويشجع الاستثمار في الصناعة النسيجية. كما أن تأثيره على قطاع التجارة سيكون إيجابياً من خلال زيادة النشاط التجاري المحلي، ما يساعد في تأسيس شركات جديدة وتوفير فرص عمل للشباب والنساء.
أما بالنسبة لتأثير القرار على الأسعار، فيتوقع النجار أن زيادة الإنتاج المحلي ستؤدي إلى انخفاض أسعار الملابس، مع تحسين جودتها لتنافس المنتجات العالمية. ويرى أن دعم الابتكار والتدريب الفني للعاملين، كما هو الحال في المعاهد التقانية للصناعات النسيجية، سيساهم في تطوير الصناعة المحلية وتوفير بدائل ذات جودة عالية، مما يقلل الاعتماد على الألبسة المستعملة.
كما يشدد على أن القرار قد يخفف الضغط على الأسعار عبر زيادة العرض وتحسين جودة المنتجات، ما يساعد في استقرار السوق وتقليل الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. ومن الحلول الممكنة تقديم تخفيضات ضريبية للتجار المحليين، لمساعدتهم على التكيف مع هذه التغييرات وتعزيز قدرتهم التنافسية. ويختم النجار بأن هذا القرار سيؤدي إلى انتعاش اقتصادي في قطاعات مثل النقل والتخزين والتوزيع، نتيجة زيادة الطلب على المنتجات المحلية، معتبرًا أنه خطوة إيجابية نحو دعم الصناعة، توفير فرص العمل، وتحسين القدرة الشرائية للمستهلكين.
ورغم إيجابيات القرار التي يراها مختصون في قرار منع استيراد البالة، يواجه التجار والبائعون صعوبات تهدد استمرار مصدر الرزق لعدد من العائلات في هذا القطاع، لذلك فإن إعادة النظر في سياسات الجمركة، وفتح طرق استيراد قانونية، قد يسهم في تخفيف الضرر على الفئات الأكثر هشاشة، مع العمل على تحقيق توازن اقتصادي يضمن حماية جميع الأطراف ويسهم في الاستقرار، بحسب بائعين وتجار التقيناهم.
يبقى سوق البالة في أعزاز أكثر من مجرد مكان للبيع والشراء، فالبعض يهوون اقتناص لحظات من الفرح عند عثورهم على قطعة ملابس مثالية بسعر لا يرهق جيوبهم. في هذا المكان، تظل الأناقة حلماً ممكناً، حتى لو كان على رفوف المستعمل.