قرر عبد القادر الذي يحمل بطاقة شخصية صادرة عن المجلس المحلي في صوران بريف حلب الشمالي، العودة إلى منزله في حي كرم حومد في مدينة حلب بعد سقوط نظام الأسد، ومضي قرابة 8 سنوات على التهجير القسري، إلا أنه يشكو عدم الاعتراف بالوثائق الشخصية الخاصة بأطفاله المسجلين ضمن دفتر العائلة.
يواجه سكان ريفي حلب الشمالي والشرقي مخاوف عدم اعتراف الحكومة الجديدة في دمشق، بالوثائق الشخصية الصادرة عن المجالس المحلية التابعة للحكومة السورية المؤقتة المنبثقة عن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، قبل أن تحلّ نفسها بعد سقوط نظام الأسد، بعد رفض معاملاتهم ضمن مؤسسات ودوائر حكومية رسمية.
فقد عبد القادر وثائقه الشخصية نتيجة تنقله من حي لآخر عام 2016، قبل أن يهجر قسريًّا من قبل نظام الأسد نحو إدلب، حاله حال كثير من المهجرين، وفي عام 2018 اضطر لدفع مبلغ من المال لشخص يسكن في حلب ليحصل على إخراج قيد ثم استخرج وثائق جديدة من المجالس المحلية لتثبيت عقد الزواج الذي كتب عند رجل دين (شيخ) بهدف تسجيل أطفاله في المدرسة.
عبد القادر الذي تزوج في ريف حلب الشمالي، استخرج وثائق كاملة لأسرته من المجلس المحلي في المنطقة، مثل الهوية الشخصية له ولزوجته، وعقد الزواج، وشهادات الولادة الخاصة بالأطفال، وبطاقات شخصية، للحصول على الخدمات في المستشفيات والمدارس والمؤسسات الخدمية.

يخشى عبد القادر من عدم قبول الوثائق الصادرة عن المجالس المحلية التي بحوزته، لأنه سيواجه في هذه الحالة مشاكل لحين إعادة تسجيل عقد الزواج واستخراج وثائق وبيانات جديدة لأسرته، فالحصول عليها يحتاج لوقت وإجراءات وتكاليف مالية، لذلك يرجو من السلطات المحلية في حلب الاعتراف بالوثائق لأنها لا تقتصر على شخص واحد وإنما آلاف العقود.
للسكان والنازحين الوثائق المحلية حاجة ملحة
أبناء مدن أعزاز والباب وعفرين ومارع وجرابلس، والراعي وجنديرس وأخترين والبلدات والقرى التابعة لها، والنازحون المقيمون في المنطقة منذ عام 2017 الذين يفوق عددهم مليوني نسمة، حسب إحصائيات فريق “منسقو استجابة سوريا”، جميعهم يحملون وثائق شخصية صادرة عن المجالس المحلية، باللغتين العربية والتركية، وموثقة بنظام إلكتروني لدى أمانة السجل المدني.
المجالس المحلية فرضت على كل السكان استخراج وثائق رسمية بناءً على شهادة تعريف ورقية يشهد عليها شخصان من معارف صاحب العلاقة، يضاف إليها كفيل من السكان المحليين في حال كان صاحب العلاقة من النازحين. ويحصل على وثائق الأطفال منذ ولادتهم وصولًا إلى كبار السن، بالاستعانة بالسجلات والوثائق الصادرة عن السجل المدني الذي ينتمي إليه صاحب البطاقة في حال توفرها أو ما يثبته.
الحاجة إلى الوثائق لتسيير المعاملات دفعت الأهالي في ريفي حلب الشمالي والشرقي لاستخراج بطاقات شخصية وتسجيل عقود الزواج والطلاق والولادات وغيرها من الوقائع. إضافة إلى الحصول على الخدمات مثل المياه والكهرباء، والطبابة، والخبز، والخدمات الاجتماعية والإنسانية، بعد إلغاء التعامل بالبطاقات الصادرة عن السجل المدني التابع لنظام الأسد.
يقول حميد بعاج، الذي شغل منصب رئيس ديوان محكمة الأحوال الشخصية في أعزاز بين عامي 2014 إلى 2020، إن عدم الاعتراف بوثائق المجالس المحلية يضر السكان المحليين والنازحين، ففي حال استطاع الوالد إثبات هويته بإخراج قيد من أمانة السجل المدني في مسقط رأسه، قد لا يكون قادرًا على إثبات نسب أولاده، لأنه وخلال سنوات التهجير تزوج وأنجب أطفالًا في ريف حلب، ولا يوجد وثائق لهم في سجلات الدولة السورية، وبالتالي سيحتاجون إلى إعادة تسجيل عقود الزواج، وإثبات نسب الأطفال.

في المحكمة التي كان يعمل بها، نظم بعاج آلاف عقود الزواج والطلاق والوثائق ودعاوى إثبات الزواج وإلحاق النسب. إضافةً إلى مئات قرارات التفريق بكافة أنواعه ومسمياته “شقاق، غياب، فقد” وغيرها من القرارات المتعلقة بالأسرة والحقوق المدنية والعقوبات الجزائية والجنائية، فأمانات السجل المدني التابعة للمجالس المحلية كانت تصدر بطاقات تعريفية ودفاتر عائلة وكل ما يتعلق بالأحوال المدنية وهي أشبه بدور الحكومة.
“لا يمكن إهدار قيمة الوثائق الصادرة عن المجالس المحلية، لأنها تحفظ حقوق الأفراد والمجتمع، ويجب التعامل معها باهتمام من خلال التأكد منها ودمجها ضمن السجلات المدنية في مؤسسات حكومة دمشق” يقول بعاج.
بعد سقوط الأسد أوقفت أمانات السجل المدني استخراج البطاقات الشخصية، وإصدار نمر للمركبات (السيارات، الدراجات النارية)، في إطار الإجراءات الأمنية الاحترازية بعد أن فتحت منطقة شمال حلب على باقي المناطق السورية.
الصفوف الانتقالية خارج الاعتراف
ترتبط الوثائق الشخصية بالوثائق التعليمية، لاسيما شهادتي التعليم الأساسي (الصف التاسع) والثانوي (الثالث الثانوي) إضافةً إلى وثائق إتمام مراحل الصفوف الدراسية الانتقالية الصادرة عن المجالس المحلية التي كانت تجريها مديريات التربية والتعليم بالتعاون مع مديريات تربية الولايات التركية التي تشرف على إدارتها، كذلك الشهادات الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في الحكومة السورية المؤقتة آنذاك.
في 13 آذار الجاري أصدرت وزارة التربية والتعليم في حكومة تصريف الأعمال قرارًا يقضي بالاعتراف بالشهادات الصادرة عن وزارة التربية في الحكومة السورية المؤقتة، والمجالس المحلية من عام 2013 إلى عام 2024، ومنح الحاصلين عليها حقوقًا كاملة مثل الشهادات الصادرة عن حكومة الإنقاذ والشهادات الصادرة عن وزارة التربية والتعليم لدى نظام الأسد.
لكن قرار الاعتراف لم يشمل الصفوف الانتقالية ضمن المراحل الدراسية، كما أوضح شدوان الأمين، تاجر من مدينة الباب، بعد أن رفضت مديرية تربية حلب تسجيل ابنته في امتحانات الشهادة الثانوية على الرغم من حصولها على وثيقة إتمام صف الحادي عشر من مديرية التربية والتعليم في مدينة الباب.

ابنة شدوان كانت تقيم في تركيا قبل عودتها إلى سوريا رفقة عائلتها، حيث حصلت على شهادة التعليم الأساسي (التاسع) لكنها أتمت دراسة الصفين العاشر والحادي عشر في إحدى مدارس الباب، وترغب في تقديم امتحان الثانوية العامة لدى تربية حلب.
يخبرنا أنه قدم طلب تسجيل لابنته، إلا أن الموظفين رفضوه متذرعين بقرار وزارة التربية والتعليم الذي اعترف بالشهادتين فقط دون الاعتراف بباقي الصفوف الانتقالية، وطالبه الموظفون بتصديق شهادة التاسع في وزارة التربية بدمشق، ثم إرسالها إلى تركيا للتصديق، ما يضاعف العناء والتكلفة المالية، إضافةً إلى التأخر عن موعد التسجيل.
حرمان قانوني يهدد الحقوق
نقابة المحامين أصدرت في 26 شباط الماضي قرارًا حمل الرقم (130) لتنظيم الوكالة في حال توكيل محامٍ، حددت فيه الوثائق الشخصية للموكلين على أن تكون واحدة من الوثائق التالية: الهوية السورية، هوية حكومة الإنقاذ السورية، جواز السفر، وبيان قيد نفوس فردي للموكل ممهور بخاتم رسمي وعليه صورة شخصية.
كما حددت إدارة الهجرة والجوازات في وزارة الداخلية لحكومة تصريف الأعمال، ضرورة إثبات هوية المتقدمين للحصول على جواز السفر من خلال إحدى الوثائق التالية: “هوية سورية، هوية حكومة الإنقاذ السورية، ودفتر عائلة، وإخراج قيد”، دون أن تشمل الوثائق الصادرة عن المجالس المحلية.
قرارات المؤسسات التابعة للحكومة المركزية في دمشق تحرم سوريون من الحصول على الخدمات، لا سيما القضائية وجواز السفر وفرصة إتمام مسار التعليم، وعلى الرغم من وضع وثائق بديلة كإخراج قيد إلا أنه من الصعب الحصول عليها بسبب إغلاق أمانات السجل المدني في العديد من المناطق بسبب تضررها أو فقدان محتوياتها.
يقول المحامي يوسف حسين: “إن الأشخاص الذين لا يملكون سوى هوية المجالس المحلية، لا يستطيعون توكيل محامٍ للمطالبة بحقوقهم ضمن المحاكم، وبالتالي وقع المواطنون في حيرة من أمرهم بسبب عدم امتلاكهم وثائق تخولهم المطالبة بحقوقهم عبر القضاء”. ويضيف، أن سكان شمالي حلب تضرروا جراء عدم الاعتراف بالوثائق رغم أنها كانت بديلًا مهمًّا في توثيق حقوق الأفراد والحصول عليها لاستخدامها في الدوائر والمؤسسات الحكومية، لأن معظمهم فقد الوثائق الأساسية، وبلغ أبناؤهم السن القانوني دون استخراج البطاقة الشخصية، إضافةً إلى تسجيل الوقائع بمختلف أنواعها.
الهوية السورية، هوية حكومة الإنقاذ السورية، بطاقات المجالس المحلية، إخراج القيد، الكملك الخاص باللاجئين السوريين في تركيا، وجواز السفر الصادر عن النظام السابق، وجواز السفر الصادر عن الائتلاف الوطني، كلها وثائق كانت تمنح للسوريين خلال السنوات الماضية بسبب تقسيم الجغرافية السورية وتعدد السلطات، إضافة إلى فقدان المهجرين لوثائقهم الرسمية.
وتعتبر جميع الوثائق منفردة أو مجتمعة مهمة للغاية ولا يجوز إهدار قيمتها الثبوتية لما لها من دور جوهري في حفظ حقوق الأفراد وتمكينهم من ممارسة شؤونهم اليومية وضمان الموازنة بين حماية الحقوق ومنع التزوير وانتحال الشخصية، حسب ما أوضح الحقوقي نادر المطروح، على صفحته في منصة “فيسبوك”.

وأكد المطروح، أنه على السلطات السورية اتخاذ تدابير احترازية للحفاظ عليها، من خلال توثيق متقاطع عبر إنشاء قاعدة بيانات مشتركة للمعلومات بين الجهات المصدرة للوثائق، إضافةً إلى إجراءات احترازية بفرض التحقق المزدوج عند إجراء المعاملات الحساسة مثل التصرفات العقارية عبر تقديم أكثر من وثيقة إثبات، وتشكيل لجنة قانونية مستقلة تتولى مراجعة الوثائق ووضع آليات لتوحيد معايير الاعتراف بها.
ورغم تنسيق مديريات محافظة حلب مع المجالس المحلية التي تدير مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي، إلا أن عدم الاعتراف بالوثائق الصادرة تزيد من مخاوف السكان المطالبين بالاعتراف بها لأنها لا تقل أهمية عن الوثائق الصادرة عن حكومة الإنقاذ السورية، كما أنها موثقة ضمن نظام إلكتروني، ولا تقتصر على البطاقات الشخصية، وإنما تشمل تسجيل الولادات وعقود الزواج والطلاق ودفاتر العائلة، وشهادة سوق وملكيات عقارية ومركبات، وشهادات المرحلتين الإعدادية والثانوية.
غياب الاعتراف الرسمي بالوثائق لا يعطل المعاملات القانونية فحسب، بل يضع حامليها في حالة من الضياع، مطالبين الحكومة الاعتراف بوثائقهم أو إيجاد حلول للتثبت من صحتها.