فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

ألبسة البالة.. مقياس جديد لحياة الحلبيين وعيدهم

علاء السيد

لم تعد ألبسة البالة “وصمة” يخشاها الحلبيون، بعد أن أزال الفقر الحواجز وصنّف معظمهم تحت خطه، بل باتت “معايير البالة” من يحدد شرائح المجتمع في المدينة

أكوام من الألبسة الملونة على بسطات تحميها أسقف من “شوادر” قماشية، بعضها كتب عليه عبارات وأخرى ملونة أفقدتها الشمس وطول الاستخدام ألوانها، مربوطة إلى أعمدة حديدية صدئة، ألبسة أخرى وجدت في الأرض، وعلى شرشف متسخ، مستقرّاً لها بعد أن عزّ المال لدى أصحابها وأفقدهم القدرة على شراء حتى طاولة خشبية، أخرى وجدت في ما يشبه الخيام مكاناً لها، علّقها أصحابها لتجذب أنظار الزبائن، تظهر عليها علامات من الجودة وكتابات لماركات عالمية مقلّدة أو بقايا ألبسة جديدة كسدت وما عاد لها مكان على رفوف المحلّات التي استعانت هي الأخرى ببسطات أمامها لبيع بضائعها، وأخيراً محلّات مسقوفة اختصت ببيع هذا النوع من الملابس والأحذية، تحدّد هذه المواصفات سعر ألبسة “البالة” ونوعية زبائنها.

بالة خمس نجوم وبالات أخرى بنجوم أقل، والأكثر انتشاراً بالات بلا نجوم، هو ما يمكن أن نصف به أسواق البالة في مدينة حلب والتي بات لها أسواق معروفة وروّاد وزبائن، من شارع أدونيس وشارع النيل إلى باب جنين فالعبارة و ساحة الرئيس وجسر الصاخور وميسلون داخل المدينة.

يشبه هذا التصنيف حال الحلبيين، يقول أبو النور، صاحب محل ألبسة البالة في باب جنين، “كلنا أصبحنا بالة.. حلب بمجملها”، لكن هناك بالة بسمن وبالة بزيت، في إشارة لتنوعها واختلاف أسعارها. وتقسّم البالة في حلب إلى ثلاثة أصناف بحسب “الصنف”، وهي الشتوي والصيفي والموسمي، أما من حيث “العيارات” فتقسم إلى ستة أقسام، بحسب أبي عمران، أحد تجار البالة (الجملة والمفرق) الذي نقل عمله من تركيا إلى حلب قبل شهرين.

سوق البالة في حي باب جنين بمدينة حلب، آذار 2025- تصوير: مهند المصطفى.
سوق البالة في حي باب جنين بمدينة حلب، آذار 2025- تصوير: مهند المصطفى.

“سوبر كريم” هو العيار الأعلى قيمة بين البالات، إذ يصل سعر الكيلو غرام منه (بالجملة) إلى ثمانية دولارات، ويضم فقط بضائع “بالإتكيت أي ما تزال تحتفظ ببطاقة السعر والمواصفات” غير مستعملة “جديدة أو تصافي محلات”، وهو عيار لا يباع على البسطات، شأنه بذلك شأن عياري “كريم” و “اكسترا”.

ويباع الكيلو غرام من عيار كريم (بالجملة) بنحو خمس دولارات، وهو نوع من الألبسة بجودة عالية ضمن البالة الواحدة التي تزن 40 كيلو غراماً هناك نحو 5% بـ “الإتكيت”، أما الإكسترا فيتراوح سعر الكيلو غرام منه بين 3.5 إلى 4 دولارت، وهي “بضاعة مستعملة نظيفة غير معذورة أي أنها سليمة”.

تختص المحلّات، خاصة في أحياء (نزلة أدونيس وشارع النيل) ومحلّات في باب جنين والعبارة ببيع هذه العيارات من الألبسة، بحسب أبي عمران، لكنها الأقل مبيعاً وفقاً لرأيه، إذ تنتشر في أسواق بالة حلب باقي العيارات (الأول، المختلط، الثاني) وهي الأكثر مبيعاً.

يميز أبو عمران بين العيار الأول، ويحوي بضائع “معذورة مثل عطل في السحاب أو زر مقطوع أو جيب مفتوق، بنسبة تصل إلى 5% ويباع الكيلو غرام منها بين 3 إلى 3.5 دولار، أما المختلط فتصل نسبة المعذور فيه إلى نحو 10% وبـ أعذار أكبر من العيار الأول يصفها أبو عمران بأنها “للكب أي ترمى ولا يمكن الاستفادة منها”، أما العيار الأخير ويطلق عليه الثاني فهو ما تجد فيه بين 5 إلى 10% من ألبسة البالة الصالحة للاستخدام، يباع في البسطات وأكوام الألبسة على الأرض.

سوق البالة في حي باب جنين بمدينة حلب، آذار 2025- تصوير: مهند المصطفى.
سوق البالة في حي باب جنين بمدينة حلب، آذار 2025- تصوير: مهند المصطفى.

سوق البالة في باب جنين، السوق الأكبر لهذا النوع من الألبسة اليوم، والتي تباع في محلّات أو على بسطات أو “فرش على الأرض”، بأصناف مختلفة من الشتوي والصيفي، الرجالي والنسائي والأطفال، الحقائب والأحذية، يقابله في ذلك، في حلب الشرقية، سوق تحت جسر الصاخور بالمواصفات ذاتها لكن دون محلات مختصة.

تصل البالة من الدول الموردة عبر تركيا إلى سرمدا والدانا بريف إدلب أو إلى مدينة الباب شرقي حلب، ويشتري منها تجار الجملة ويبيعوها لأصحاب المحلات والبسطات، ومنذ سقوط نظام الأسد، نقل خمسة تجار بالة عملهم إلى مدينة حلب وفتحوا مستودعات داخل المدينة.

مئات أطنان البالة تنتشر اليوم في أسواق حلب، يقابله زحام شديد في أسواقها، لكن دون جدوى، إذ يتهافت حلبيون بشكل يومي على أكوام البالة ينتظرون فتح بالات جديدة علّ الحظ يسعفهم بشراء ملابس لأولادهم بأسعار مناسبة، هرباً من أسعار الملابس باهظة الثمن في المحلات.

عشرات الأيدي تقلّب بين الأكوام التي يترواح سعر القطعة فيها بين 20 إلى 50 سنتاً، يقول أبو محمود (من ذوي الإعاقة، يملك بسطة بالة في سوق باب جنين) إن الأرباح ضئيلة، لكن الجميع “يبيعون بالبركة ولا يعرفون حجم الربح والخسارة”.

سوق البالة في حي باب جنين بمدينة حلب، آذار 2025- تصوير: وليد عثمان.
سوق البالة في حي باب جنين بمدينة حلب، آذار 2025- تصوير: وليد عثمان.

أبو النور الكّل، صاحب محل بالة في باب جنين يعمل داخله بينما يعمل ولده على بسطة أمام المحل، قال إن الأسعار رخيصة هذا العام، ومع ذلك هناك كساد في البيع. وأضاف “اليوم وقفات العيد و لم نستفتح حتى الآن، لم نبع و لا حتى قطعة واحدة!”. وهو ما سيدفعه، على حد قوله لإغلاق محله بعد انتهاء موسم العيد.

وقدّر أبو النور تراجع سعر ألبسة البالة اليوم بنحو 75% عما كانت عليه، مرجعاً السبب إلى الجمارك و الإتاوات، فـ البالة سابقاً كانت تأتي من لبنان ويدفع عليها رسوم ورشى للحواجز وتباع القطعة منها بنحو دولارين ونصف الدولار، أما اليوم فيحصل على بضائعه من سرمدا دون رسوم. رغم ذلك، يقول أبو النور إن “غلته” لا تتجاوز 10 دولارات يومياً، وهي لا تكفي ثمن خضار البيت.

أبو هشام سعيد صاحب محل من أقدم محلات البالة في باب جنين، وضع على واجهته لافتة بسعر القطعة ( 20 ألف ليرة سورية أي نحو دولارين)، يقول إنه، رغم الزحام الشديد، لا يبيع يومياً أكثر من عشرين قطعة، فمعظم السكان لا يملكون قوت يومهم في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشونها، “رخصنا الأسعار ومع ذلك بقي الحال على حاله”.

سوق البالة في حي باب جنين بمدينة حلب، آذار 2025- تصوير: مهند المصطفى.
سوق البالة في حي باب جنين بمدينة حلب، آذار 2025- تصوير: مهند المصطفى.

تتلقف حديثنا سيدة وابنها (في سن المراهقة) لتشاركنا الحديث، تقول حنان (كما أخبرتنا عن اسمها) إنها ومنذ ثلاثة أيام تحضر باكراً لتسبق غيرها في الحصول على قطعة ملابس جيدة لابنها، لكنها لم توفق، ما دفعها لمسايرة ابنها في رفضه لشرائها، تضيف “سعر القطعة هنا مناسب إذ لا يتجاوز سعر البلوزة دولاراً ونصف الدولار، لكن غالباً لا نجد قطعة تعجب أطفالنا”.

ليس ببعيد عن سوق باب جنين، وفي سوق العبارة، أحد أشهر الأسواق المتوسطة في مدينة حلب، والذي كان يضم سابقاً محلّات للأحذية والألبسة الجديدة تغزو ألبسة البالة والبسطات السوق في العام الحالي.  يقول محمد ناولو، صاحب بسطة ألبسة جديدة في السوق، إنه يبيع حالياً بين سبع إلى ثمان قطع يومياً، مؤكداً أن أسواق البالة أثّرت على حركة البيع والشراء في محلات المدينة.

تتراوح أسعار الألبسة في بسطة ناولو بين 5 إلى 15 دولاراً، لكنها عصيّة على القسم الأكبر من الحلبيين، آملاً أن تتحسن حركة البيع في الأيام القادمة قبل العيد، بعد قبض الموظفين للمنحة التي قدّمتها لهم الحكومة الجديدة.

سوق العبارة وسط مدينة حلب، آذار، 2025- تصوير: مهند المصطفى.
سوق العبارة وسط مدينة حلب، آذار 2025- تصوير: مهند المصطفى.

رخص الثمن في العام الحالي لم يشفع لأصحاب محلّات الألبسة، إذ يسيطر على المدينة ضعف شديد في الإقبال على الشراء، بحسب ناولو الذي تركنا وهو يقول “الي ما لو بالة ما لو عيد”، يلتفت نحونا وهو يخبرنا أن ذلك كان مثلاً عن أيام قاسية في حلب، ويبدو أنها عادت اليوم من جديد.

يتبعنا من بسطة إلى أخرى، رجل ستيني يتجول بين بسطات سوق العبارة، قال إن اسمه أبو محمود وإنه موظف متقاعد لا يتجاوز راتبه ثمن حذاء من النوع الرديء في المحلات. يضيف أبو محمود أنه يتجول يومياً في الأسواق، يرى الحيرة في عيون الأمهات وأطفالهن، بعد عجزهم عن شراء ما يفرحهم في العيد حتى وإن كان من سوق “الدراويش”، للدلالة على أسواق “البالة”. ودون جدوى يعود يومياً دون أن يستطيع شراء أي قطعة ملابس لأبنائه.

أسواق حلب للألبسة الجديدة بمجملها محلات خاوية، أصحابها يترقبون لساعات طويلة زبوناً يحيي أملهم ببقاء نشاطهم على قيد الحياة، يقدّر جورج كيروز صاحب محل كيروز في العزيزية، أحد أهم أسواق حلب للألبسة عالية الجودة، عدد القطع التي يبيعها بين عشرة إلى عشرين قطعة يومياً، وانخفاض الأسعار بنحو 30% عما كانت عليه، إذ تتراوح سعر قطعة الثياب في محله بين 15 إلى 25 دولاراً.

سوق البالة في حي باب جنين بمدينة حلب، آذار 2025- تصوير: وليد عثمان.
سوق البالة في حي باب جنين بمدينة حلب، آذار 2025- تصوير: وليد عثمان.

أما في محلات Brands Store ICE CUBE & more، في حي الموكامبو، فتتراوح أسعار قطعة الثياب فيها بين 7.5 دولاراً إلى 35 دولاراً، ويقول أحد أصحابها إن الإقبال جيد خلال الفترة الحالية، إذ تعتبر أسواق منطقتي الفرقان والموكامبو مختصة لزبائن من أصحاب القدرة الشرائية الجيدة.

أزال الفقر والبطالة الحواجز بين شرائح المجتمع الحلبي، وقسّمت، أسواق البالة الجديدة سكّانه اليوم، الناس، بحسب قدرتهم الشرائية، آلاف قليلة قادرون على الشراء من محلّات محددة بأسعار تزيد عن راتب موظف حكومي، أما بقية السكان فينقسمون بين باحث في أكوام البالة أو مكتف بالتحديق لتزداد حسرتهم يوماً بعد يوم وهم يصّبرون أطفالهم بالصمت على طلب ملابس لعيدهم، حتى من “البالة”، مكتفين بما لديهم من ملابس “بالية”.