في الوقت الذي يفترض أن ينشغل أطفال منار الأربعة بكتابة الواجبات ومتابعة الدروس في مدارسهم بمدينة الحسكة شمال شرقي سوريا، يمضون نهارهم باللّهو واللعب بسبب خروج المدارس عن الاعتراف الحكومي منذ نهاية الفصل الدراسي الأول، إضافة لقرارات الإدارة الذاتية التي لم تناسب أهالٍ في المنطقة.
منار القاطنة في مدينة الحسكة امتنعت عن إرسال أطفالها إلى المدارس العامة منذ سقوط نظام الأسد، تقول: “لم أستطع إرسال أولادي إلى مدارس غير معترف بها حكومياً، فحتى على مستوى الدراسة الجامعية، “روجآفا” هي الجامعة الوحيدة التي تتبع للإدارة الذاتية، وسيكون أطفالي في المستقبل أمام خيارات محدودة في حال لم تحظ دراستهم بالاعتراف الحكومي”.
المنهاج السّوري كان محصورًا فقط في المدارس الواقعة ضمن المربعين الأمنيين في كل من الحسكة والقامشلي، ونظرًا لعدد الطلاب الكبير في المدارس الحكومية القليلة ضمن المربعين الأمنيين، فقد سمح نظام الأسد بترخيص مدارس خاصّة جديدة بشكل مؤقت وتمت تسمية هذه المدارس بالخاصّة المؤقتة، لأنها كانت في أبنية مستأجرة.
أطفال منار هم أربعة من أصل نحو 167 ألف طالب وطالبة، يتوزعون على 164 مدرسة تديرها مديرية التربية التابعة لنظام الأسد في الحسكة، وفق تصريح إلهام صورخان، مديرية التربية في الحسكة، وهي الآن تحت سيطرة الإدارة الذاتية منذ 8 ديسمبر، وهي تشكّل 5% فقط من عدد المدارس الكلي في المحافظة.
منذ عام 2013 تفرض الإدارة الذاتية في مدارس الحسكة منهاجاً خاصاً من الصف الأول الابتدائي وحتى الصف الخامس، وفي عام 2015 تم تدريس المنهاج حتى الصف الثامن، ليفرض حتى الصف التاسع عام 2018 ثم طبق على الصف الحادي عشر بعد عام.
استمر تطبيق منهاج الإدارة الذاتية تدريجيًا إلى أن منعت تدريس المنهاج الحكومي بكل مراحله الأساسية والثانوية، وتحول عدد من المدارس إلى نقاط عسكرية مثل مدرستي “المعتصم بالله” وإعداديّة “علي بكر”، وغيرها من المدارس. كما خرجت مدارس رأس العين، أقصى شمال شرقي سوريا، عن الاعتراف الحكومي بعد سيطرة فصائل موالية لتركيا عليها منذ عملية “نبع السّلام” عام 2019.
تراقب منار أطفالها وتشعر أن أعصابها تحترق عند رؤيتهم طوال الوقت في الشارع و خلف شاشة التلفاز أو الجوالات. تنتظر بفارغ الصبر بدء تنفيذ الاتفاق الأخير بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي الموقع في العاشر من آذار الجاري، وأن تعود جميع مدارس الحسكة للاعتراف الحكومي وأن تتوحد المناهج. تقول: “مستقبل أولادنا ليس ورقة قابلة للتضحية به أو المساومة عليه”.
الاتفاق بين الحكومة السورية وقسد نص على ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة، ودمج المؤسسات المدنية والعسكرية شمال شرقي سورية بمؤسسات الدولة، ودعم الدولة السورية في مكافحة فلول نظام بشار الأسد المخلوع والتهديدات الأخرى، ورفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية. إلا أن التنفيذ سيتم على مراحل تنتهي أواخر العام الحالي، وربما لن يستطيع تلامذة المدارس تعويض ما فاتهم هذا العام، وهذا ما يقلق الأهالي.
خلاف على المنهاج
بعد سقوط نظام الأسد بأيّام قليلة أصدرت هيئة التّعليم التابعة للإدارة الذّاتيّة قرارًا يقضي بإغلاق المدارس الخاصّة (الدائمة والمؤقتة) شمال شرقي سوريا، باستثناء تلك التّابعة للكنائس، مثل “الأمل”، “الموحدة”، ومدرسة “النّهضة” في مدينة الحسكة.

أما المدارس العامّة التي تدرس المنهاج السّوري فقد سمحت للتلاميذ باستكمال دروسهم فيها لغاية بداية العام الدراسي القادم على أن يتم تعميم المنهاج الكردي المعتمد من قبل الإدارة الذّاتية على جميع المدارس في المنطقة التابعة لسيطرتها.
قبل أكثر من شهر على الاتفاق بين الرئيس الشرع وعبدي، كتب الإعلامي إيفان حسيب، على حسابه الشّخصي في منصة التواصل الاجتماعي فيسبوك: “إنقاذ مستقبل التّعليم مسؤولية لا تحتمل التأجيل، الإدارة الذاتيّة مطالبة بتسهيل عودة مؤسسات الدولة، والمدارس الحكومية للعمل بالتنسيق مع الإدارة السوريّة الجديدة… لاستئناف العملية التعليمية”.
المنهاج السّوري المعتمد كان يدرّس شمال شرقي سوريا في حدود المربعين الأمنيين في الحسكة والقامشلي، أمّا في بقيّة المدارس الواقعة ضمن مناطق سيطرة قسد فإنّها تدرّس منهاجًا خاصًّا بالإدارة الذّاتيّة بثلاث لغات (الكرديّة، العربيّة، السريانيّة).
منذ عام 2016 بدأت هذه المدارس بتدريس نموذج تعليم مزدوج، (منهاج يدرّس باللغة الكردية وآخر بالعربية)، ويحق للتلاميذ الاختيار بينهما، بينما أضيفت اللغة السريانية عام 2017 كلغة ثالثة، وذلك للصفوف الثلاثة الأولى من مرحلة التعليم الأساسي، لكن المدارس الّتي تعتمد هذا المنهاج لا تلقى إقبالًا من أهالٍ في المنطقة الّذين يعتبرونه سياسيًا مؤدلجًا يهمّش المكون العربي.
ملكة (50) عامًا مديرة متقاعدة لمدرسة في رأس العين، كانت تفضل السفر إلى الحسكة أثناء العام الدّراسي ليتمكن ابنها محمد الّذي صار الآن في الصّف السّابع من استكمال دراسته في مدارس حكومية، ثم تعود صيفًا إلى بيتها في رأس العين. تقول إنها كانت تعبر مناطق قسد عن طريق التّهريب رغم ما يحمله من مخاطر، واليوم بعد خروج هذه المدارس أيضًا عن الاعتراف الحكومي قررت الانتقال إلى دمشق لتسجّل ابنها في إحدى مدارسها.
قرارات لم تلقَ اعترافًا حكوميًّا
الرئيسة المشتركة لهيئة التّعليم شمالي شرق سوريا، كليستان إسماعيل، قالت في مقابلة لها مع إذاعة آرتا إف إم، إنّ الإدارة الذاتية سمحت بإعادة افتتاح المدارس الحكومية، والأخرى التّابعة للكنائس في مدينتي الحسكة والقامشلي، منذ بداية عام 2025، وإنّ هذا القرار يأتي حرصًا على استمرار العمليّة التعليميّة للتلاميذ الذين مازالوا في منتصف العام الدراسي، لتجنّب أي أضرار قد تلحق بتعليمهم.
أما المدارس المؤقتة التي تم إغلاقها، فيسمح لطلابها بالانتقال إلى المدارس الحكوميّة أو مدارس الإدارة الذّاتيّة مع حرية اختيار الكردية أو العربية كلغة تعليميّة وفقًا لإسماعيل. كما صادرت الإدارة الذاتية أختام مديرية التربية والمدارس الحكوميّة وأغلقت المدارس الخاصّة (الدائمة والمؤقتة).
مديرة التربية والتعليم في الحسكة إلهام صاروخان، أبلغت مدراء المدارس التّابعة للحكومة، من خلال مجموعات واتس آب، بأنّ مديرية التربية غير مسؤولة عن العمليّة التعليمية ولن تختم أو تصادق على الجلاء المدرسي الّذي سيصدر عن المدارس الّتي ستستأنف عملها تحت إدارة وتوجيه الإدارة الذّاتية.
المدارس الخاصّة التابعة للكنائس مثل مدرسة الأمل والموحدة والنّهضة لم يشملها قرار الإيقاف الذي أصدرته الإدارة الذاتية، والعملية التعليمية فيها مستمرة، بينما أغلقت المدارس الخاصّة الدائمة مثل مدرسة البر، والمؤقتة مثل مدرسة براعم السّعادة، براعم المستقبل، ومدرسة روّاد المستقبل وغيرها.
استثناء يخلق تمييزًا
“هذا الاستثناء والتمييز من قبل الإدارة الذّاتية قرار غير حكيم” تقول لمياء، ناشطة مدنيّة فضّلت عدم ذكر اسمها الصريح. تعتبر لمياء أنّ القرار من شأنه أن يخلق حساسية بين المسلمين والمسيحيين المتعايشين منذ مئات السّنين مع بعضهم البعض في شمال شرقي سوريا.
يشعر أهالٍ ممن التقيناهم بالظلم من قرار إغلاق المدارس، خاصة أنه جاء في منتصف العام الدراسي، ولأن المدارس الخاصّة المسيحية لم يشملها قرار الإغلاق هذا، بالإضافة إلى النّزاع القائم بينهم وبين إدارات المدارس المؤقتة على الأقساط الّتي ترفض الأخيرة إعادتها بحجة الالتزامات المترتبة عليهم مثل دفع إيجارات البناء.
إجراءات واجتماعات
لمناقشة المستجدات الّتي ستنتج عن قرار إغلاق المدارس اجتمعت الرئاسة المشتركة لهيئة التّعليم التابعة للإدارة الذّاتية بمعلمين ومعلمات في صالة طيفور عند دوّار سينالكو، واقترحت تشغيل المعلمين التّابعين لوزارة التربية في دمشق مع الإدارة الذّاتية عن طريق عقود تشغيل مؤقتة.
لم يلقَ هذا الاجتماع ترحيب المعلمين أو مديري المدارس الحكومية أو المدارس الخاصة الّتي تمّ إغلاقها بحسب منار عيسى (اسم مستعار) 43 عامًا، معلمة في إحدى المدارس في المربع الأمني الّذي كان تحت إدارة حكومة الأسد في المدينة.
لم تحضر عيسى الاجتماع لأنّ تطمينات وصلتها وزملاءها عن طريق مديرة المدرسة بأنّ وزارة التّربية تتابع وضع التّعليم في الحسكة، وعلى المعلمات والمعلمين البقاء في بيوتهم إلى حين التّوصل إلى تفاهم بين قسد والحكومة المؤقتة في دمشق، وبأنّهم سيستلمون رواتبهم بطبيعة الحال، ومن يختار منهم العمل مع الإدارة الذّاتية عليه تحمّل تبعات هذا الأمر.
تقول عيسى: “لم أحضر الاجتماع الّذي دعت إليه هيئة التعليم لأنّني لا أفكر بتوقيع عقد تشغيل مع هيئة التعليم، ولا يمكنني التّضحية بسنوات طويلة من الخدمة والبدء من جديد مع هيئة التّعليم الّتي ربما ستستغني عن خدماتي وأخسر تعويضاتي كمعلمة منذ 18 عام.
طلاب الشهادات.. لا امتحانات في المنطقة
جاء الاتفاق بين الرئيس الشرع وعبدي ليعيد الأمل لتلاميذ شهادتي التعليم الأساسي والثانوي بتقديم امتحاناتهم في مدنهم بعد أن كان عليهم النقل إلى مدارس محافظات أخرى بشكل حر أو نظامي. ففي الرابع من آذار الجاري أرسلت وزارة التربية والتعليم في دمشق توجيهاتها لمديري المدارس بالسماح للتلاميذ بالبدء بإجراءات النقل، وأوعزت لرؤساء الدّوائر والمديرين المساعدين بالدوام في دائرة الامتحانات في الحسكة لتسيير الأوراق الضرورية للنقل، مثل وثيقة النقل وتسلسل الدّوام.

الوقت يمر وموعد انتهاء مهلة التسجيل المحددة في السابع والعشرين من آذار الجاري للطّلاب النّظاميين، والسابع عشر من نيسان القادم للطّلاب الأحرار يقترب، ولا مؤشرات على بدء تنفيذ الاتفاق باندماج مؤسسات التعليم في المنطقة مع المؤسسات الحكومية في الفترة القريبة، وعلى التلاميذ أو ذويهم البحث عن مركز في محافظة أخرى تتبع مدارسها للحكومة يعطيهم ورقة لا مانع قبل انتهاء مهلة التسجيل.
تبدو هذه المهمّة صعبة مع كثافة أعداد التلاميذ وضعف إمكانات الاستيعاب، خصوصًا في مدينة دير الزور الأقرب إلى مناطق الإدارة الذّاتية والتي يتوقع أنها ستكون وجهة طلاب هذه المناطق. هذا الخيار أيضًا ليس في متناول الفقراء منهم مع ما يحمله من تكاليف إضافيّة مرهقة للمواصلات أو إيجار منزل ومصاريف أخرى ضروريّة للطالب.
سعاد النويجي، من دير الزور، تقيم مع عائلتها التي افتتحت محلًّا للخياطة في محافظة الحسكة منذ عام 2012. اضطرّت سعاد منذ بداية شهر رمضان لأن تسافر إلى منزل جدّيها في دير الزّور لتسجّل على امتحان الشّهادة الثّانوية، لكنها بعد إعلان الاتّفاق قررت الانتظار حتّى آخر يوم قبل انتهاء مهلة التّسجيل على أمل أن تتمكن من العودة والتقديم في الحسكة حيث تقيم.
لا رواتب حتى الآن
استلم موظفو بعض المؤسسات مثل الكهرباء والماء، رواتبهم منذ أيام، إلا أن موظفي التّربية والتعليم لم يستلموا رواتبهم منذ سقوط نظام الأسد، على الرّغم من ضعف هذا الرّاتب الذي يعتبر، البحصة الّتي تسند الجرّة، يقول معلمون التقيناهم.
منذ حوالي شهرين طالبت وزارة التّعليم الموظفين بتحميل بياناتهم الشّخصيّة على تطبيق شام كاش. كان هذا الطلب بارقة أمل بالنسبة للمعلمات والمعلّمين، خاصة أنهم في شهر رمضان وعلى أبواب العيد الذي تزداد فيه الالتزامات.
معاذ يوسف (اسم مستعار) موظف لدى تربية الحسكة، وزوجته معلّمة أيضًا، يقول: “كلانا لم يستلم راتبه. لدينا أربعة أطفال أكبرهم طفلة من ذوي الإعاقة، حتى الأدوية التي كنت أحصل عليها من الصيدلية التّابعة لنقابة المعلمين لم تعد متاحة بعد إغلاقها من قبل الإدارة الذّاتية”.
تلتزم زوجة يوسف الجلوس في البيت مع أطفالها الثّلاثة منذ أن أغلقت المدارس أبوابها، على الرّغم من السّماح للمدارس الحكومية باستكمال العام الدّراسي، إلّا أنّها ترفض إرسالهم لأنّ وزارة التّربية والتّعليم في دمشق لن تعترف بهم لاحقًا، ناهيك عن الخلاف على المنهاج. تخبرنا أن الأهالي ينتظرون حلّاً لقضية التعليم في المنطقة فما زال لديهم أمل باستدراك ما فات أبناءهم من دروس حتى لو كان ذلك على حساب عطلتهم الصيفية كحالة استثنائية.