بطرف علويّ واحد، تجلس مروة، 34 عاماً، خلف طاولة مكتبها مستعينة بيدها اليمنى فقط لأداء مهامها الموكلة إليها في إحدى المنظمات الإنسانية بإدارة حالة ذوي إعاقة أيضاً.
مروة التي وُلدت دون طرف علوي أيسر، مهجرة من مدينة تل رفعت إلى مدينة أعزاز شمالي حلب، لم تحصل على وظيفتها هذه دون المرور بأماكن عمل أخرى تعرضت فيها للتنمر والتمييز بأساليب مختلفة منها نظرات الشفقة وأحيانًا الغرابة والخوف، والتساؤل عن سبب الإعاقة وتفاصيل خاصة أحياناً. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل حدّ الاعتذار عن توظيفها بشواغر عمل تقدمت لها رغم أن إعاقتها لا تؤثر على أداء مهامها.
مروة واحدة من 1168 منذ ذوي الاحتياجات الخاصة في مدينة إعزاز بحسب دراسة بحثية أعدها فريق خطى الأمل عام 2019- 2020، كما أنها واحدة من 30 بالمئة من السوريين ذوي إعاقة (من الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 12 عاماً فما فوق)، والذين هم أكثر عرضة لخطر العنف والاستغلال وسوء المعاملة، ويواجهون عوائق في الوصول إلى الخدمات الأساسية، بحسب تقرير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين الصادر عام 2023 التي قدرت أن هذه النسبة هي ضعف المعدل العالمي البالغ 15 بالمائة.
ذاكرة لا تمحى
“صاحبة اليد المقطوعة” لقب لا يفارق ذاكرة مروة، التي لم تنسَ كيف كان زملاؤها التلاميذ يرشقونها بالحجارة مطلقين عليها هذا اللقب عند انتهاء الدوام المدرسي. كان ذلك عندما كانت في الثانية عشر من عمرها. تنمّر زملائها الدائم جعلها تقرر ترك المدرسة ومتابعة تعليمها في المنزل. لكن معلماتها رفضن تركها تعيش العزلة متأثرة بما حدث فتواصلن مع عائلتها وعادت إلى المدرسة محاولةً التكيف مع بيئة وأشخاص لايتقبلون ذوي الإعاقة، حسب وصفها.
تسحب مروة نفساً عميقاً ثم تتابع سرد تفاصيل انتقالها إلى الحلقة الثانية من مرحلة التعليم الأساسي، أو ما كان يعرف قبل العام الدراسي 2002- 2003 بالمرحلة الإعدادية. تقول: “كانت دراسة الصف السابع ومن ثم الثامن كفيلة بتدميري نفسياً” مشبهة نفسها آنذاك بالمحاربة التي استسلمت وانسحبت من مقاعد الدراسة لتتابع دراستها في المنزل وحصلت فيه على شهادتيّ التعليم الإعدادي و الثانوي.
مخاوف الطفولة عادت بعد ذلك عند التحاق مروة بالجامعة، لكن أصدقاءها كانوا على عكس أولئك الذين آذوها في المراحل السابقة، فدعموها وساهموا بتشجيعها وتحفيزها للمتابعة. في تلك الفترة تقدمت مروة بطلبٍ لشاغر وظيفة معلمة صفّ في مدرسة بأحد مخيمات مدينة أعزاز شمالي حلب.
ينخرط ذوو إعاقة بسوق العمل في الشمال السوري، ومنهم من يلتحق بوظائف في مؤسسات مختلفة، إلا أن التعرض للإيذاء النفسي في أماكن العمل قد يشكل مصدر قلق أكبر من باقي الأماكن، لأن التنمر فيه أو الرفض قد يساهم بخفض مستويات الثقة التي قد تكون منخفضة أساساً عند تفكيرهم باختلاطهم مع أقران أصحاء في بيئة جديدة.
تصف مروة شعورها حين دعيت للمقابلة بأنها ظنت أن الحياة ستكون عادلة هذه المرة، لكن سعادتها بعد قبولها والتحاقها بالمدرسة لم تزد عن ثلاثة أيام، تقول إن إحدى زميلاتها بالقرب منها همست في أذنها قائلةً: “الطلاب يخافون منك، لماذا لا تضعين يداً صناعية”. تظاهرت مروة بأنها لم تتأثر بهذا الحديث وأكملت مهامها بقلب مكسور، ثم لم يمضِ وقت طويل حتى أبلغتها الإدارة بالإقصاء عن المدرسة فكانت الصدمة أكبر هذه المرة.
“ابحثي عن عمل آخر” عبارة ألقتها مديرة المدرسة التي ادّعت صدور قرار يقضي بعدم قبول توظيف ذوي إعاقة في التعليم، لتواجه مروة طريقاً مسدوداً أبعدها عن قطاع التعليم الذي طالما اعتقدت أنه الأنسب لها. وصارت تنهال عليها نصائح من حولها “اجلسي في البيت”..
اليوم، وصلت مروة للسنة الرابعة في قسم الإرشاد النفسي بجامعة الشام قرب مدينة أعزاز، متغلبة على الضغط النفسي والمجتمعي الذي لم ينقطع في كل المراحل التي مرت بها معتبرة نفسها محظوظة بحصولها على فرصة عمل بإحدى المنظمات الإنسانية في مكان لا ترى فيه النظرات ذاتها التي تراها بعيون الناس في الأماكن العامة، بل على العكس تقول إنها تستمد القوة والعزيمة من أقرانها ذوي الإعاقة، فهي تعلم أنهم يقصدون مكتبها طلباً للمساعدة، ولعلها أقدر على فهم أوجاعهم من الأصحاء كونها تحمل الألم ذاته وقد تفهمهم دون أن تنطق ألسنتهم.
كشف تقرير بحثي صادر عن جمعية ذوي الهمم بعنوان “ذوو الإعاقة في ريفي حلب الشمالي والشرقي، الواقع ومساحات التدخل المطلوبة” أن أقل مـن نصف العينة البالغ عددها 381 مستجوب ومستجوبة يشعرون بالقلق دوماً بشأن إمكانية تعرضهم للإيذاء الجسدي أو التنمر في الأماكن العامة بسبب إعاقتهم وهي لدى الذكور أكثر من الإناث. لعل ذلك يفسر -بحسب التقرير- شعـور أكثر من ثلثي العينة بمستويات ثقة منخفضة تجاه أفـراد المجتمع المحلي، والانخراط الجزئي لأقل مــن ثلثي العينة في الأنشطة الاجتماعية في منطقتهم.
آمنوا بقدراتنا.. نحن نستطيع
ما أن دخلت جوى (فضلت ذكر قصتها باسم مستعار) باب جامعة حلب الحرة في مدينة مارع للتسجيل بفرع الصيدلة حتى توجهت أنظار جموع الطلاب والطالبات نحوها، ورغم حرصها على عدم الالتفات إلى أحد عند قفزها على قدمها اليمنى فقط، كونها فاقدة للطرفين العلويين والطرف السفلي الأيمن ما يمنعها حتى من استعمال العكازات، إلا أنها شعرت بنظراتهم المعبرة عن الشفقة.
تصالحت جوى مع وضعها بعد تجارب قاسية علمتها أن الإعاقة والنظرة النمطية تجاه ذوات الإعاقة لن تمنعها من الوصول لهدفها. تابعت قفزها نحو غرفة التسجيل وعند دخولها وجدت نفسها مضطرة مرة أخرى لسماع تساؤلات مسؤول التسجيل: “كيف وصلتِ إلى المكتب؟ وكيف سيكون بمقدورك العمل بالصيدلة لاحقاً”؟ تقول جوى إن هذا الموقف أثر بها لدرجة أنها فكرت بمغادرة سوريا إلى تركيا التي عادت منها قبل سبع سنوات.
قبل انطلاق الثورة السورية عام 2011 كان حال ذوي الإعاقة في سورية متردياً بحسب معاقين التقيناهم وزادت الحرب التهميش والخذلان لهذه الشريحة، ثم التفتت منظمات إنسانية لبعضهم فأعلنت عن أنشطة متخصصة لكنها لا ترقى لنسبة الاحتياج الحقيقي، ومع تقليص الدعم عن الشمال السوري كانت فئة ذوي الإعاقات الأكثر تأثراً كونها الشريحة الأضعف في المجتمع ما يجعل همومهم تزداد يوماً بعد يوم بالتوازي مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لأسرهم.
أسهم الفقر وغياب الوعي لدى بعض الأسر شمالي سوريا، وقلة المدارس الحكومية المخصصة لذوي الإعاقة، وصعوبة المواصلات بحرمان العديد من حقهم في التعليم والرعاية، وحتى حين تتوفر أنشطة في مراكز متخصصة فإنهم لا يستطيعون الوصول إليها لعدم توفر تسهيلات خاصة بالمعاقين، بحسب من التقيناهم.
تؤكد جوى ما سبق، تقول “صعوبة التنقل يزيد حجم التحدي فأنا غير قادرة على قطع الطرق بسهولة بسبب عدم وجود ممرات مخصصة للمشاة أو لذوي الإعاقة. في كل مرة أضطر للاستعانة بعائلتي للوصول لأي مكان أحتاجه”. ترفض جوى الصورة النمطية التي تشير إلى أن ذوي الإعاقة غير قادرين على العمل في أغلب المجالات مؤكدة أن الوظائف المكتبية تناسب بعضهم وكذلك الميدانية أحياناً معتبرة أنها كطالبة صيدلة ومترجمة للغة التركية مثال على أن ذوي الإعاقة قادرون على الإنجاز.
يشير مصطلح ذوي الإعاقة بحسب اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة إلى “كل من يعانون من عاهات طويلة الأجل بدنية أو عقلية أو ذهنية أو حسّيَة، قد تمنعهم عند التعامل مع مختلف الحواجز من المشاركة بصورة كاملة وفعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين”.
كثيرة هي المواقف العالقة في ذاكرة جوى، منها رد إحدى الزميلات في فريق تطوعي عندما أعربت جوى عن نيتها المساهمة بترتيب بعض المواد المتناثرة في المكتب لتصدها مباشرة قائلة “الله يعطيكِ العافية اللي فيكِ مكفيكِ”. تقول جوى إنها شعرت بالحزن حينها لأن ردها هذا كان قبل أن تعرف قدراتها حتى لو كانت دون أطراف علوية.
تتمنى جوى أن يؤمن المجتمع بإمكانيات ذوي الإعاقة، معتبرة أن معتقداتهم تجاههم هي أساس التمييز، كما تأمل أن يدركوا أن تنفيذ أي عمل يتعلق بتكيف صاحب الإعاقة مع وضعه، تقول: “أستطيع القيام بكل ما يقوم به الأسوياء لكن بطريقة مختلفة. ليس بالضرورة أن نتشابه بطرق التنفيذ، المهم أن نركز على النتائج”.
كسرت جوى النظرة السائدة عن ذوي الإعاقة في معظم الأماكن التي عملت بها، واعتاد كل من يعرفها على أسلوب حياتها مستعينة بقدمها الوحيدة لتنفيذ مهامها. كما أنها لا تحرم نفسها من ممارسة هواياتها كالكتابة والشعر، عزف البيانو، تنسيق الكتب وتلخيصها بشكل سماعي ومكتوب، الرسم، حتى إنها حصلت على المركز الرابع في مشروع لقراءة الكتب وتلخيصها يسمى “أصبوحة”، وتعمل حالياً في جمعية ذوي الهمم التي تعنى بتدريبات بناء القدرات.
يد واحدة لا تصفق
استطاع محمد هلال 21 سنة، من مدينة سراقب تجاوز الضغوط النفسية والجسدية التي نجمت عن إصابته قبل عشر سنوات بشلل نصفي نتيجة إصابة حربية، لكنه لم يستطع التأقلم مع عجزه عن الحركة لولا مساندة عائلته التي دعمته في رحلة طويلة من العلاج الفيزيائي، بالإضافة إلى عدة عمليات جراحية ساهمت بتحسن حالته الصحية.
يروي محمد مقتطفات من رحلة علاجه وكيف تسبب له خطأ طبي أثناء العلاج الفيزيائي بتمزق أربطة أعاده إلى نقطة الصفر مجدداً، ثم بعد مرحلة علاج جديدة تمكن من المشي باستخدام العكاز، وصار قادراً على التنقل باستخدام السيارة.
وجود محيط داعم وأصدقاء يقفون إلى جانب محمد ساعده على تجاوز لحظات الضعف. يقول إنه يكتسب مهارات متعددة، منها الكتابة والتصميم الغرافيكي، وانضم إلى تجمعات مدنية وتطوع بفريق محلي إلا أنه عاطل عن العمل حالياً. يقول: “أتمنى أن يُتاح لذوي الإعاقة الفرصة والمساحة لطرح أفكارهم والمشاركة في العمل، وأن تتغير نظرة المجتمع تجاه ذوي الإعاقة فبدون دعم المجتمع لن نستطيع الإنجاز، فَيَد واحدة لا تستطيع التصفيق”.
في مخيم تلال الشام بريف أعزاز يعيش حسين خالد الشيخ 24عاماً، إجازة باللغة العربية وطالب في السنة الثالثة من قسم الإرشاد النفسي في جامعة الشام، متحدياً إعاقته الحركية في الطرف السفلي الأيمن بعد أن حالت الإعاقة دون حصوله على فرصة عمل في مجال التدريس حسب مؤشرات واجهته أثناء تقديمه المتكرر لطلب التدريس.
في الجامعة التي تبعد عن خيمته مسافة كيلومتر واحد بدأ حسين بمواجهة صعوبات لم تكن بالحسبان، فلا بد له من أن يبدأ يومه بالبحث عن شخص من عائلته أو الجيران يساعده بالذهاب للجامعة، وعليه أن يجد شخصاً آخر لإيصاله عند انتهاء الدوام، ولا بد له من سلوك الطريق الطيني للمخيم باستخدام كرسيه المتحرك.
البنية التحتية للجامعة تزيد الوضع سوءاً، فبالرغم من مرور ثلاث سنوات على دراسته، إلا أنه لم يستطع الدخول إلى المكتبة أو معرفة محتواها، كما أنه لا يستخدام الحمامات، وإذا اضطر الأمر فإن العودة للمنزل هو الحل الوحيد أمامه.
لم يستطع حسين إيصال رسالته بشكل مباشر لإدارة الجامعة أو لعمادة الكلية لتخصيص قاعة محاضرات مهيأة لدخول ذوي إعاقة، يقول: “يتطلب الوصول لمكتب إدارة الجامعة صعود درجة واحدة، ومع ذلك هذه الدرجة تحول دون قدرتي على الوصول دون الاستعانة بأحد، لذا فإنني أرسل زملائي أحياناً لإبلاغهم عن وضعي، إلا أن طلبي لم يلقَ تجاوباً”.
يستعين حسين بزملائه لتجاوز الدرجة عند باب الدخول للقاعة. يقول: “في أيام الامتحانات التكميلية تم تخصيص اسمي في قاعة أستطيع الوصول لها دون المرور بهذه الدرجة، لكن باب القاعه ضيق لا يسمح بدخول الكرسي المتحرك، فيضطر زملاء لحملي للدخول والخروج، الأمر الذي يجعلني أشعر بالحرج الدائم ولم يخلصني من المشكلة”.
يأمل حسين أن تراعي الجامعة وضع ذوي الإعاقة من حيث رسوم التسجيل التي تصل في بعض الجامعات لنسبة 60 بالمائة، أما في جامعته فلا تتوفر أي حسومات، ورغم ذلك يضطر للدراسة في هذه الجامعة كونها الأقرب لمكان سكنه، مع أنه لا يملك عملاً ولا مصدر دخل، حسب قوله.
كما يرجو أن تلتفت السلطات لاحتياجات ذوي الإعاقة في الأماكن العامة، بتعديل البنى التحتية مثل المداخل والأبواب والحمامات وأن يتم تصميم “رامب” عند مدخل ومخرج كل بناء يساعد ذوي الإعاقة في الحركة، وكذلك تهيئة الطرق لتتناسب مع الكراسي المتحركة أو آليات ذوي الإعاقة، فعلى الرغم من حصوله على دراجة كهربائية من إحدى الجهات إلا أنه لا يستطيع الاعتماد عليها كثيراً كون الطرقات في المخيم لا تناسبه كما أنه يحتاج للشحن غير المتوفر خاصةً في فصل الشتاء.
لدمج مصابات الحرب في المجتمع أنشأت مجموعة من ذوات الإعاقة عام 2023 فريقاً يعنى بإصابات الحرب في منطقة عفرين حمل اسم “رابطة مصابات الحرب”. يركز عمل الرابطة بشكل أساسي على تمكين ذوات الإعاقة و مساعدتهنّ على البحث عن فرص عمل وحصولهنّ على منح تؤهلهنّ لفتح مشاريعهنّ الخاصة وتقديم الدعم النفسي لهن بحسب بشرى، المديرة التنفيذية للرابطة.
تقول بشرى “معظم مصابات الحرب لديهن خوف من نظرة المجتمع الدونية التي تشعرهنّ بعدم القدرة على الإنجاز، لذلك نعمل من خلال جلسات الدعم النفسي على تقديم الدعم المناسب لتخطي التحديات من خلال التشبيك مع المنظمات والجمعيات في المنطقة لدعم أنشطة المستفيدات، كان آخرها معرضاً لأشغال يدوية من عمل المصابات”.
يجمع ذوو إعاقة قابلناهم على أن نظرة المجتمع تجاه هذه الشريحة، رغم كل الرسائل التي حاول ناجحون منهم إرسالها، إلا أنها ما تزال نظرة تخلو من الاعتراف بقدرتهم على العطاء والإنجاز، وهذا أكثر أشكال التمييز إساءة لهم، حسب تعبيرهم. فمروة وجوى ومحمد وحسين أمثلة عن ذوي إعاقة لم يستسلموا لإعاقتهم واستطاعوا بناء قدراتهم متحدين التمييز والتنمر المجتمعي وضعف الخدمات الحكومية.