يتنقل السبعيني أبو جمعة الزهري بين صفوف النرجس المزروعة بعناية على مساحة عشرة دونمات من أرضه الزراعية في مدينة دارة عزة بريف حلب الغربي. يتفحص بصيلاتها واحدة تلو الأخرى بعين الخبير. إلى جانبه زوجته، الحجة أم جمعة، تحمل بين يديها خبرة الجدات في رعاية هذه الزهور العطرة.
بصعوبةٍ يحني ظهره ليقترب من الشتلات الصغيرة، يزيل الأعشاب البرية التي تنافس النرجس على غذائه، يقول لزوجته وهي تراقب البراعم المغلقة وكأنها تستعد للتفتح، بينما أخرى قد تفتحت حديثًا كالأجراس بين الأوراق: “هذا العام خذلنا الشتاء.. قلة الأمطار أثرت على الإنتاج”.
تراجع إنتاج محاصيل الزهرة المزروعة في حقول دارة عزة بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة بسبب قلة الأمطار وجفاف التربة، إذ تحتاج بصيلات النرجس إلى كميات كافية من الماء لتنبت بشكل أفضل. يضيف أبو جمعة عوامل أخرى تسببت بتراجع الاهتمام بزراعة النرجس في السنوات الماضية”. صعوبة بيعه وتسويقه خارج المدينة كالوصول إلى المدن الكبرى مثل حلب ودمشق اللتين كانتا تحت سيطرة النظام أدت إلى تقلص المساحات المزروعة بالنرجس عاماً بعد عام”.

ينتشر النرجس عند سفح جبل الشيخ بركات في مدينة دارة عزة التي تقع على بعد 30 كم غربي مدينة حلب، ويبلغ عدد سكانها نحو 41 ألف نسمة، تزينها وتميزها زهور النرجس في الشتاء، يُجمع في باقات تُعرف محلياً بـ “مضعف النرجس” ويُباع في المدن مشكلاً مصدر رزق لكثير من عوائل المدينة.
من زهرة برية إلى محصول اقتصادي
“لم يكن النرجس محصولاً زراعياً تقليدياً، بل كان زهرة برية تنمو تلقائياً في الحقول، وبات يحتل جزءاً من هوية المكان”. يقول أبو علي جاتيلة ذو الـ 65 عاماً، أحد مزارعي المدينة ومهندس ميكانيكي موضحاً إن مزارعي دارة عزة أدركوا قيمته الاقتصادية مع ازدياد الإقبال عليه في الأسواق، خاصة في المدن الكبرى مثل حلب ودمشق.
في ثمانينيات القرن الماضي بدأ الاهتمام بزراعة النرجس وإكثاره ليتحول من زهرة برية تنمو في الحقول والمناطق الجبلية إلى محصول زراعي يُعتنى به من قبل مزارعين في المنطقة، محققاً حضوراً ثابتاً في المواسم الزراعية الشتوية.
أصبحت زهرة النرجس مصدر رزق لكثير من أهالي دارة عزة الجبلية، تُزرع إما بشكل مستقل على مساحات واسعة أو بين أشجار الزيتون. في أرض الحاج أبو جمعة، التي تمتد على مساحة هكتارين، يحتل النرجس جزءاً كبيراً من المكان، بينما تتناثر أشجار الزيتون في المساحات المتبقية، ليشكل الحقل لوحة طبيعية تجمع بين الزهور وظلال الأشجار العتيقة.
يعود الحاج أبو جمعة بذاكرته إلى ما قبل اندلاع الثورة، إذ كان يعتمد على موسم النرجس كمصدر دخل رئيسٍ رغم رحلة نموه القصيرة الممتدة من كانون الثاني حتى شباط. يقول:”قبل 15 عاماً كنت أجمع وزوجتي يومياً من حقل النرجس قرابة 500 ربطة، تضم كل واحدة منها عشرين عوداً، كانت تدر علينا دخلاً جيداً آنذاك”.

يتذكر أبو علي تلك الأيام التي كان فيها تصريف النرجس سهلًا، حين كانت الأسواق مفتوحة والتنقل متاحاً إلى حلب. لكن مع القصف والحصار، باتت الأراضي مهملة وخطرة. يقول: “كم مرة كنت في الحقل أجهز النرجس، لتسقط القذائف حولي، فأترك كل شيء وأهرب”. اليوم، زادت مخلفات الحرب والألغام من معاناة المزارعين، ما جعلهم أكثر حذراً في الوصول إلى حقولهم.
تراجعت كمية الإنتاج هذه حالياً عما كانت عليه سابقاً ولم يعد يحقق موسم النرجس الدخل ذاته. فشحّ الأمطار أثر بشكل مباشر على الموسم باعتباره محصول بعلي يعتمد على مياه الأمطار مع صعوبة تأمين مياه كافية للسقاية لارتفاع تكاليف الري، وفق ما أكده أبو جمعة. هذا المزارع أوضح أن المشكلة تكمن في أن المناطق المزروعة تمتد على مساحات جبلية واسعة ما يجعل نقل المياه إليها أمراً صعباً. “لو كانت لدينا طرق معبدة توصل إلى الحقول، لكان بإمكاننا إيصال المياه بسهولة، لكن الوضع هنا ليس بهذه السهولة”.
يتكاثر النرجس بالبصيلات، ويفضل زراعته في تربة رملية أو طينية خفيفة غنية بالمواد العضوية، لأنها تمنع تجمع المياه حول البصيلات وتقلل من خطر تعفنها. وهو يُزرع عادةً في الخريف، بين شهري أيلول وتشرين الأول، ويبدأ بالإزهار مع بداية الشتاء إذ تلعب درجات الحرارة المنخفضة دوراً أساسياً في تحفيز نموه، وفق المهندس الزراعي جمعة عبد الوهاب.
يشرح عبد الوهاب أن “أهم العوامل التي تجعل دارة عزة بيئة مناسبة لزراعة النرجس طبيعة تربتها القراجية أو الجبلية، إذ لا تنجح الزراعة في الترب العميقة”. ويضيف أن المراحل الأساسية لزراعة النرجس لا تحتاج إلى الكثير من العناية بل بعض العمليات الزراعية مثل تفريد الأبصال لزيادة المساحات المزروعة وقد تحتاج إلى القليل من السماد.
هذا العام أطلق أبو جمعة اسم “نرجس النصر والتحرير” على أزهاره لارتباط فترة تفتحها بموعد انطلاق معركة ردع العدوان التي كانت مدينة دارة عزة نقطة الانطلاق فيها، ومنها امتد التحرير إلى كامل سوريا، ليصبح إرسال النرجس إلى جميع المحافظات السورية متاحاً. يهز رأسه مستبشراً بعودة سوق تصريف واسعة لزهرة النرجس في السنوات المقبلة.
في دارة عزة هناك نوعان من النرجس؛ البري الذي ينبت تلقائياً في الحقول والجبال بزهوره الصغيرة وأوراقه الأربعة الصغيرة، والمزروع الذي يتميز بزهوره الأكبر والأكثر امتلاءً. و”النرجس المزروع يحتاج إلى كميات كافية من المياه فإذا لم تصل المياه إلى بصلة النرجس تصبح ساق الزهرة ضعيفة وعدد أوراقها أقل أما إذا ارتوت بصلة النرجس تصبح الساق قوية وتزداد عدد الأوراق”، بحسب أبي جمعة.

تأثر موسم النرجس بالأوضاع الأمنية والقصف السابق الذي كانت تعيشه المدينة وباقي مناطق شمالي غربي سوريا الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، فقد أثرت الحرب على العناية بالمحصول من ناحية زراعته وطقوس إكثاره. يقول أبو جمعة “في شهر حزيران، تحتاج بصيلات النرجس اليابسة إلى حرقها لتنشيط التربة وتقوية الموسم المقبل، ويمنع انتشار الأمراض والحشائش الضارة، غير أن مجرد إشعال النيران في الحقول كان يجعلنا هدفاً للطيران الحربي، لذا أصبح النرجس ينمو بلا رعاية”.
في شهري كانون الثاني وشباط، تتفتح أزهار النرجس، ويواجه المزارعون صعوبة في بيع وتصريف الأزهار، فالأسواق الصغيرة في القرى والمناطق المجاورة لا تستوعب المحصول، والأهالي هناك لا يشترون النرجس لأنه ينمو بكثرة في الحقول والأراضي. وحتى في المدن، حيث يمكن تصريف الكميات الأكبر، يقف الفقر وضعف القدرة الشرائية عائقاً أمام شراء الزهور والتي تبدو ترفاً لا مكان له في حياة كثير من الناس.
“الخبز أولى”، تقول الحجة أم جمعة، مختصرة واقع الحال، إذ باتت الأولويات واضحة، فيما تبقى أكوام النرجس تنتظر من يشتريها في موسم يمضي سريعاً دون أن يترك أثراً في جيوب مزارعيه.
حكايا النرجس
بالنسبة لنرجس، اسم مستعار، رغبت السيدة بإطلاقه على نفسها من حبها للزهرة، فهي لم تكن مجرد نبتة جميلة، بل كانت رمزاً لذكرى غالية عليها. قبل أكثر من 15 عاماً، جمع عمها والد زوجها تكاليف زواجهما من محصول النرجس، لتصبح هذه الزهرة شاهدة على بداية حياتها الجديدة.
اليوم، وكما كان الحال مع عائلتها قديماً، ما تزال نرجس تعتمد على الزهرة في تأمين لقمة العيش، تماماً كما يفعل كثير من مزارعي دارة عزة. بالنسبة لهم موسم النرجس كان وسيلة لتأمين احتياجاتهم الأساسية، مثل تزويج أبنائهم، وملء بيوتهم بالمؤن، لكن في ظل الأوضاع المعيشية المتدهورة، لم يعد موسم النرجس يحمل الخيرات نفسها.
في حقل صغير ورثه زوجها عن والده، كانت نرجس تجمع الأزهار مع أطفالها، تصنع منها باقات صغيرة، كل واحدة تحوي اثني عشر عوداً، وتعرضها على الأقرباء والجيران مقابل 15 ليرة تركية فقط (أقل من نصف دولار تقريباً). كانت تبيع بعضها، وأحياناً تهديها لمن لا يملك ثمنها.
قبل سنوات، كانت حياتها مختلفة وتبيع يومياً أكثر من سبعين باقة تكفيها لشراء المؤونة واحتياجات أسرتها، أما اليوم، فلا تكاد تحصل إلا على ربع ما كانت تجنيه. تشير نرجس إلى أن تراجع المحصول لم يكن فقط بسبب قلة الأمطار، بل لأن الأوضاع المعيشية السيئة جعلت شراء النرجس رفاهية لا يقدر عليها كثيرون. تقول بحسرة: “لم يعد الناس يشترون كما في السابق، الجميع يواجه صعوبة في تأمين لقمة العيش، والنرجس آخر ما قد يفكرون فيه”.

للأطفال أيضاً مواقف وحكايا مع النرجس، إذ يرافق خالد ذو الـ 12 عاماً والده كل صباح إلى حقل الزيتون حيث تمتد بين الأشجار مساحات صغيرة تملؤها بصيلات النرجس. رغم البرد القارس الذي يلفح وجهه ويداه الصغيرتان المرتجفتان من شدة الصقيع، يقطف خالد الأزهار ثم يربطها في باقات صغيرة ليضعها في سلّته قبل أن يتجه إلى سوق المدينة لبيعها.
تتفاوت أسعار الباقة الواحدة بين 15 و 20 ليرة تركية حسب عدد الأعواد في كل ربطة، ويحرص خالد على عدم العودة إلى منزله قبل أن يتمكن من بيع جميع باقات النرجس حاملاً معه النقود ليعين أسرته في مصروفها اليومي.
أما بالنسبة لفاطمة عمايا، وهي طالبة جامعية نازحة إلى دارة عزة، فيحمل النرجس معنى خاصاً يتجاوز كونه مجرد زهرة. كل عام، تنتظر بفارغ الصبر وصول باقة منه كهدايا من صديقاتها، لتضعها في كأس ماء على طاولتها الدراسية إذ تفوح رائحتها في أرجاء غرفتها لأيام طويلة، محتفظة برونقها لأكثر من أسبوع.
تتأمل فاطمة النرجس وهو يزهر وسط الشتاء القاسي، فتراه زهرة مختلفة عن غيرها. تقول “تبدو أزهاراً رقيقة، لكنها في الحقيقة قويّة”، كأنها ترى في صمود زهرة النرجس انعكاساً لصبرها على ظروف النزوح، فـ في عالم تغلب عليه القسوة يبقى النرجس شاهداً على الجمال الذي يقاوم الظروف، تماماً كما تفعل هي.