توقع المدرس فهد الغجر، ابن قرية التح بريف إدلب الجنوبي، مصيره المأساوي قبل أيام من وفاته، إذ كتب على حسابه الشخصي في فيسبوك: “سامحونا إذا متنا بشي لغم”. وبعد وقت قصير، قضى الغجر بانفجار لغم أرضي أثناء عمله في نزع الألغام بقرية الفطيرة بجبل الزاوية.
ترك فهد عمله في المدرسة ليسهم في إزالة المتفجرات التي خلفها نظام الأسد في مناطق ريف إدلب عقب سقوطه، موظّفاً خبرته الشخصية المتواضعة بإزالة الألغام بشكل تطوعي لمساعدة الأهالي والمدنيين العائدين إلى مناطقهم.
بعد سقوط نظام الأسد وبدء عودة خجولةٍ للأهالي إلى المدن والقرى التي كانت تحت سيطرته في أرياف حلب وإدلب وحماة بالإضافة إلى مناطق أخرى، أصبح خبر مقتل أشخاص بانفجار ألغام يتكرر يومياً سواءً من الأهالي أو العاملين في مجال تفكيك الألغام والأجسام غير المنفجرة المزروعة في تلك المناطق.
قلة عدد الخبراء وندرة الفرق الهندسية المتخصصة في نزع الألغام، دفعت أشخاصاً غير متخصصين يملكون خبرة بسيطة ناتجة عن تجارب فردية في تفكيك الألغام، أو تعلّموها خلال خدمتهم العسكرية السابقة ليتم تطبيقها على أرض الواقع في السنوات الأخيرة، فضلاً عن وجود فئة متحمسة من أهالي المناطق الملغمة للمشاركة في تكفيك ونزع الألغام إلى المشاركة بالعمل دون توفر الأدوات اللازمة وأدنى معايير الأمن والسلامة ليصبح العمل أشبه بمغامرة مع الموت.
أحمد السيد المعروف باسم، أبو علي، من مدينة تل رفعت بريف حلب قتل في 25 شباط الماضي بانفجار لغم أرضي زرعته قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على أطراف المدينة أثناء قيامه بتفكيكه. عمل أبو علي قبل الثورة في مشاريع البناء والإنشاءات ثم التحق بفصيل مسلح واختص بهندسة الألغام وتصنيعها وتفكيكها وترحيلها من المناطق مكتسباً خبرة لم تحمه من انفجار لغم أثناء تفكيكه عند أطراف تل رفعت، وفق ما أكده أحد أصدقائه.
أحمد السيد وفهد الغجر كانا من ضمن 68 مدنياً بينهم 13 طفلاً و3 نساء، وثقهم الدفاع المدني السوري منذ تاريخ 27 تشرين الثاني 2024 حتى 1 آذار 2025،قضوا في انفجار لمخلفات الحرب والألغام في المناطق السورية فضلاً عن إصابة 105 مدنيين بينهم 38 طفلاً بجروح منها بليغة.
تشير هذه الأرقام التي وصفها تقرير الدفاع بأنها “كبيرة” خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، إلى انتشار الذخائر غير المنفجرة بين منازل المدنيين، وفي الأراضي الزراعية وأماكن لعب الأطفال، وهي ناجمة عن قصف ممنهج طوال السنوات الـ 13 الماضية وعن ألغام مزروعة قد تكون قابلة للانفجار لعقود قادمة، إن لم يتم تفكيكها.

لا يوجد فرق متخصصة بإزالة الألغام في الدفاع المدني السوري إنما يقتصر عمل الفرق الحالية على مسح المناطق وتحديد أماكن حقول الألغام مع وضع إشارات تحذيرية وتوعية السكان، وفق حميد قطيني متطوع في الدفاع المدني.
يضيف قطيني أن هذه المهمة تتولاها فرق إزالة الذخائر غير المنفجرة (UXO) في الدفاع المدني وتواصل أعمالها بتطهير المناطق الملوثة بمخلفات الحرب، إذ تشمل الأعمال إجراء عمليات مسح غير تقني وتحديد المناطق الملوثة بمخلفات الحرب وإتلاف الذخائر وتقديم جلسات التوعية بتلك المخلفات.
خلال الفترة من 26 تشرين الثاني 2024 و2 آذار العام الجاري، نفذت فرق التخلص من الذخائر غير المنفجرة 1229 عملية إزالة، تم خلالها التخلص من 1813 ذخيرة غير منفجرة ثلثها من القنابل العنقودية، وبلغ عدد المناطق المؤكد تلوثها بالذخائر 362 منطقة، إضافة لتحديد 141 حقلاً ونقطة تحوي ألغاماً، سواء تلك المضادة للدبابات الأفراد، وفق التقرير.
مغامرة محفوفة بخطر الموت
يمتلك الستيني علي الحمود من بلدة معرة حرمة بريف إدلب الجنوبي خبرة تراكمية في نزع الألغام اكتسبها أثناء خدمته العسكرية في ثمانينيات القرن الماضي، فقد التحق بدورة مدتها ستة أشهر في كلية هندسة الميدان بحمص عندما كان عسكرياً.
مع انطلاق المعارك بعد الثورة السورية وسيطرة نظام الأسد على العديد من المناطق وزراعتها بالألغام عمل الحمود على تفكيكها في بلدته والقرى المجاورة لها دون أن يتبع لأي مجموعة متخصصة أو فصيل عسكري، معتمداً على خبراته فقط.
يعيش علي الحمود في مخيمات كفر جالس قرب مدينة إدلب. يصف لحظات وداعه اليومية لزوجته وأطفاله الثلاثة -أصغرهم لا يتجاوز عاماً ونصف العام رزق بهم بعد عقدين من الانتظار- أنها أصعب من فك اللغم.
مع ذلك يودعهم قبل ذهابه في مهمة نزع الألغام، لا يدفعه سوى إحساسه بواجب المشاركة في تأمين المناطق وإنقاذ الأهالي والأطفال. يقول “عند مغادرتي، تمسك زوجتي بيدي بقوة، ويلتف طفلاي التوأمان حولي، كأنهما يرفضان تركي أذهب. لا أجد في داخلي إلا عبارات تطمين كاذبة لا أؤمن بها، أتلعثم وأكتفي بقول: سأعود، إن شاء الله. إن كُتب لي عمر جديد”.
يحمل الحمود مفكّ براغي، كماشة، مسباراً، وحبلاً طويلاً يستخدم لربط اللغم وتفجيره عن بعد من خلف ساتر. هذه الأدوات البسيطة، التي يعتمد عليها الحمود وغيره من العاملين في إزالة الألغام، تفتقر إلى معايير الأمن والسلامة الأساسية، ما يجعل مهمتهم محفوفة بالمخاطر ويحولها إلى مقامرة بحياتهم مع كل محاولة.
يركب الحمود سيارته الخاصة، وفي بعض الأحيان يصطحب أحد أصدقائه لمساعدته، ثم يتجه إلى الأماكن الملغمة. يوضح أنه يتلقى يومياً عشرات الاتصالات من سكان يعثرون على قنابل أو ألغام بحاجة لإزالتها من منازلهم أو أراضيهم. أحياناً يقبل منهم فقط ثمن وقود السيارة، وغالباً ما يقوم بعمله بشكل تطوعي دون مقابل.

في المناطق التي يعمل بها الحمود في قرى ريف إدلب تنتشر المخلفات الحربية والذخائر الخطيرة من رؤوس صواعق صواريخ راجمة وقنابل يدوية وألغام ورؤوس قنابل مدفعية، تتوزع في المنازل ومحيطها وفي الشوارع والأراضي الزراعية.
يقدّر الحمود أنه فكك أكثر من عشرة آلاف قطعة من القنابل العنقودية التي أسقطتها الطائرات الحربية على أرياف إدلب منذ بدء الهجمات. يقول “إن معظم هذه القطع هي مخلفات قنابل عنقودية محرمة دولياً، مشيراً إلى خطورتها الشديدة كونها تنفجر بمجرد تحريكها”. يصف هذه القنابل بأنها تشبه كرة صغيرة بأجنحة، وغالباً ما يظنها الأطفال لعبة، مما يزيد من خطرها على المدنيين، خاصة الأطفال.
خلال عمله في تفكيك ونزع الألغام والمخلفات الحربية منذ ست سنوات حتى االيوم ساهم الحمود في ترحيل كثير من الصواريخ غير المنفجرة التي كانت تلقيها الطائرات الحربية على أماكن تجمع المدنيين، ليتم التخلص منها بعيداً عن المناطق السكنية، تزن الواحدة منها مابين 200 إلى 300 كيلوغرام، وتصبح غير قابلة للانفجار بعد نزع الصاعق منها.
يحدثنا عن أحد أكثر أنواع الألغام انتشاراً وخطورة في قرى ريف إدلب الجنوبي وهو اللغم الوثاب، الذي يمثل تحدياً كبيراً لنازعي الألغام. يتم إخفاء هذا اللغم تحت التراب، ويُترك صاعقه فوق الأرض ليبدو كعقب سيجارة، بينما يمتد منه سلك رفيع جداً بطول يصل إلى عشرة أمتار، موزعاً على أربعة اتجاهات ومثبتاً بأطرافه بسكة حديدية.
عندما يمر شخص دون ملاحظة السلك ويتعثر به، ينفجر اللغم ليُقذف حوالي متر ونصف المتر في الهواء، ما يزيد من خطورته لأنه ينشر شظاياه في جميع الاتجاهات، بمدى يصل إلى 50 متراً. وهذا يجعل العثور والسيطرة عليه أمراً صعباً، خصوصاً على رعاة الأغنام الذين غالباً ما يمرون في تلك المناطق ولا يلاحظون وجوده.
أما النوع الثاني هو الألغام الفردية وتكون عبارة عن طبقتين من النايلون وبداخلها قطعة حديد صغيرة جداً لا تكشف بالعين المجردة ولا بالأجهزة الكاشفة للألغام وتزرع تحت الأرض، حجم هذه الألغام صغير ومن الصعب العثور عليها.
الإمكانيات والخبرات الموجودة في المنطقة حالياً غير كافية للتعامل مع حجم المخاطر التي تشكلها مخلفات الحرب، برأي الحمود الذي يؤكد أن المهمة “تحتاج جهود فرق هندسية دولية متخصصة وسنوات من العمل حتى تتخلص الأراضي من هذا الحمل المميت الذي يقتلنا يوماً بعد يوم”. ويتابع “الكثير من الأراضي لم يتجرأ الأهالي على الاقتراب منها لخطورتها خاصة في مناطق التماس الحدودية بين مناطق فصائل المعارضة وقوات نظام الأسد سابقاً، حيث الأعشاب متراكمة منذ سنوات والتفتيش فيها عن الألغام بالطريقة التي نقوم بها حالياً يعد انتحاراً”.
أنواع مختلفة من الألغام عُثر عليها في الحقول والمناطق السكنية، تشمل ألغاماً مضادة للأفراد وأخرى مضادة للدروع، كما تتنوع طرق تشغيلها، فبعضها يعمل بالضغط، والآخر عن طريق الأسلاك، وهناك أنواع مثل الألغام الموجهة بالمسطرة المعروفة بـ “اللغم التلفزيوني الموجه” الذي يعتمد على الكهرباء. وتتفاوت خطورة هذه الألغام من المتوسطة إلى الشديدة، ويمكن أن تتسبب بإصابات قاتلة أو بتر أطراف، ما يجعلها مصدر قلق دائم يمنع الكثيرين من الاقتراب من أراضيهم أو فلاحتها.
رحلة صيد الألغام
ينطلق الشاب العشريني عبد الحميد العمر فجر كل يوم مع سبعة من رفاقه مشكلين مجموعة واحدة يديرها قائد يعطي أوامره بطريقة السبر، بينما ينتشر الستة الآخرون، كل اثنين في جهة، مصطحبين معداتهم البدائية من خوذ وأدوات السبر والكشف عن الألغام للعمل على تفكيكها وإزالتها.
عاد عبد الحميد إلى بلدته جرجناز بريف إدلب الجنوبي بعد تحريرها، ليس ليستقر فيها، بل ليعمل بشكل تطوعي مع مجموعة من شبان البلدة على إزالة الألغام التي تركها نظام الأسد. يقول عبد الحميد إن إحساسه بالمسؤولية تجاه سكان المنطقة، الذين يواجهون تهديداً يومياً بسبب الألغام، هو ما يدفعه للمخاطرة بحياته. ويضيف: “الدافع القوي الذي حفزني على العمل في فك الألغام هو حماية المدنيين”، مشيراً إلى أن تضحياته كفرد قد تنقذ حياة كثيرين. وهو يدرك تماماً الخطر الذي يواجهه يومياً، لكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في عمله.
خلف نظام الأسد رغم سقوطه إرثاً قاتلاً في المناطق التي سيطر عليها من مخلفات الحرب والأجسام غير المنفجرة والألغام التي زرعها في جميع المناطق، لاسيما الحدودية التي كانت متاخمة لمناطق سيطرة الفصائل المعارضة سابقاً مثل بلدة جرجناز، وهي الأشد خطورة في الوقت الراهن بعد بدء عودة الأهالي إليها، إذ تسببت الألغام بمقتل وإصابة عشرات الأهالي وكذلك عدداً من العاملين في تفكيكها أو نزعها.

أتلفت المجموعة التي يعمل بها عبد الحميد أكثر من ألف لغم في قرية جرادة في جبل الزاوية بعد سقوط نظام الأسد منذ أكثر من ثلاثة أشهر، ثم تابعوا عملية المسح والكشف عن المتفجرات والألغام في بلدة جرجناز محاولين تحذير المدنيين من الاقتراب من مناطق الخطر لحين تأمينها بشكل كامل من قبلهم.
خضع عبد الحميد، قبل أربعة أشهر من سقوط نظام الأسد، لدورة تدريبية عسكرية مع عناصر آخرين ضمن فصيل فيلق الشام في الجبهة الوطنية في منطقة الغزاوية الفاصلة بين مدينتي عفرين ودارة عزة استمرت عشرة أيام تعلم فيها أنواع الألغام وزراعتها ونزعها. يخبرنا أنه بمجرد ظهور لغم واحد فهذا يشير إلى وجود حقل ألغام في المكان، “نحدد مساحة الحقل بحيث تكون على امتداد 100 متر وعرض 60 متر وعلى هذا المدى يمكننا نبش الألغام من الأرض وقد يصل عددها إلى 100 لغم”. يتقاضى عبد الحميد 48 دولاراً شهرياً مقابل عمله الخطر في نزع الألغام.
بحذر وبخطوات محسوبة يتنقل عبد الحميد ورفاقه أثناء عملهم في تفكيك الألغام. يقول إن تجنب السرعة في العمل أمرٌ ضروري جداً في هذه المرحلة، إذ تجري عملية نبش الألغام يدوياً من خلال مسبار حديد يغرسه في الأرض بمسافة 5 سم بين الضربة والأخرى. “تنزع الألغام بهذه الطريقة وتسحب صواعقها لتصبح آمنة ويتم رميها جانباً. بعد انتهاء العمل نقوم بتحميلها إلى السيارة ونقلها إلى المقر الخاص بنا”.
في كل مرة يقوم عبد الحميد بهذه العملية، يتوقع أن يلقى حتفه. يتذكر زوجته وأطفاله، ولكنه يواصل العمل، لأن هناك من ينتظر منه ومن رفاقه إنهاء مهمتهم في تطهير المنطقة من الألغام. يخبرنا بأن أحد المدربين تعرض لإصابات خطيرة، حيث بُترت يده وقدماه أثناء محاولة تفكيك لغم تلفزيوني موجه.
ورغم خبرته الواسعة، إلا أن التعامل مع هذا النوع من الألغام شديد التعقيد، ما حال دون نجاته دون خسائر. تتطلب عملية تفكيك هذا اللغم حذراً بالغاً، ويجب التخلص منه من مسافة بعيدة باستخدام طلق ناري أو عبوة ناسفة لتجنب الإصابات. وتزداد الصعوبة في الكشف عن الألغام المزروعة منذ سنوات، حيث أصبحت الحاجة إلى كاشفات ألغام وكاسحات إلكترونية ضرورة ملحّة.
التهاون والاستهتار بمخاطر الأجسام غير المنفجرة والألغام من قبل عدد من الأشخاص يقومون بجمع خردة وفوارغ حديدية لأجل بيعها، سببت كوارث قاتلة آخرها حادثة حصلت يوم الخميس 20 شباط في بلدة النيرب شرقي إدلب وثقتها فرق الدفاع المدني إذ وقع انفجار ضخم في أحد المباني السكنية راح ضحيته ثمانية مدنيين من بينهم ثلاثة أطفال وامرأتان وأصيبت طفلة بجروح، وحصل دمار كبير في المنازل المجاورة.
السبب الرئيسي لوقوع الانفجار يعود إلى اقتناء أحد الضحايا ذخائر وألغام ومقذوفات حربية، كان يجمعها ويفرغها ويبيعها كخردة. هذه المهنة كانت مصدر رزقه ورزق عائلته على مدار الأعوام الماضية، رغم التحذيرات المستمرة من أهالي البلدة بشأن خطورة هذا العمل، الذي أودى بحياته وحياة عائلته ومن حوله، وتسبب بأضرار مادية لحقت الحي بأكمله، وفقاً لمصدر مقرب من الضحية.
وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان منذ آذار 2011 وحتى نهاية 2024، مقتل ما لا يقل عن 3521 مدنياً نتيجة انفجار الألغام الأرضية، من بينهم 931 طفلاً و 362 سيدة، بالإضافة إلى سبعة من كوادر الدفاع المدني، وثمانية من الكوادر الطبية، وتسعة من الكوادر الإعلامية. كما وثقت مقتل 45 مدنياً بينهم ستة أطفال وأربع سيدات منذ 27 تشرين أول 2024 حتى 31 كانون أول 2024.
جهود دولية محدودة وغير كافية
“معدل الحوادث بين المدنيين في سوريا مروع”، يقول داميان أوبراين، مدير برنامج منظمة “هالو تراست” ، وهي أكبر منظمة إنسانية متخصصة في الأعمال المتعلقة بالألغام في العالم، حيث تعمل في 30 دولة وإقليم، بما في ذلك سوريا وأفغانستان وأوكرانيا وسريلانكا وغزة، ويضم فريقها أكثر من 10000 موظف على مستوى العالم.
يعمل لصالح هذه المنظمة 50 موظفاً سورياً، ويتوقع أوبراين تضاعف هذا العدد خلال الشهرين المقبلين. ويتركز عمل الفرق حالياً في إدلب وغربي حلب، ومنذ كانون الأول العام الماضي، يتم العمل بشكل شبه حصري في المناطق التي كانت سابقاً على خط المواجهة في سراقب وجسر الشغور.
في عملها، تركّز المنظمة بشكل أساسي على التخلص من الذخائر المتفجرة عبر تدمير القنابل اليدوية والصواريخ والقذائف الموجودة على سطح الأرض بالإضافة إلى إزالة الألغام المدفونة تحت الأرض وتدميرها كما تقدم جلسات توعية بمخاطر المتفجرات لسكان المناطق المتضررة، إلا أن توسيع نطاق عملياتها لتلبية الطلب المتزايد سيستغرق وقتاً.
يقول أوبراين: “في هذه الأثناء، يُقتل ويُصاب العمال غير المهرة وغير المدربين الذين يحاولون القيام بهذا العمل، كما أنهم لا يستطيعون ضمان إزالة جميع المخاطر بالكامل، ما يعني أن الأرض تظل خطيرة، فقطاع الأعمال المتعلقة بالألغام في سوريا يعاني من نقص حاد في الموارد والقدرات”.
في إدلب بدأت المنظمة عمليات التخلص من الذخائر المتفجرة عام 2022 بفريق مكون من 10 أشخاص، وفي العام الذي يليه، بدأ العمل على إزالة الألغام بفريق مماثل. حالياً، تقتصر عمليات إزالة الألغام على المناطق التي كانت على خط المواجهة في سراقب، بينما تعمل فرق التخلص من الذخائر المتفجرة في مناطق أوسع.

يقول أوبراين: “خلال هذه الفترة، قمنا بتدمير أكثر من 1700 جسم متفجر غير منفجر، بما في ذلك الألغام المضادة للأفراد والمركبات والقنابل اليدوية والذخائر العنقودية والصواريخ الموجهة والصواريخ الحرارية” مؤكداً أن منظمته هي الوحيدة في شمال غربي سوريا التي تقوم بإزالة الألغام وهي الجهة الوحيدة حالياً القادرة على التعامل مع كميات كبيرة من الذخائر والأسلحة والمواد المتفجرة المعقدة.
على عكس الجهود الفردية والإمكانيات المحدودة للعاملين بإزالة الألغام من المدنيين أو العسكريين، تستخدم المنظمة آليات ثقيلة مدرعة مثل الجرافات والحفارات لإزالة الألغام، إذ تعد هذه الطريقة الأكثر أماناً وفعالية، كما أن الفرق ملزمة بارتداء معدات الحماية الشخصية، بما في ذلك الملابس الواقية من الرصاص وخوذات الوجه الكاملة.
بين الألغام.. لحظات لا تخلُ من طرافة
العمل في جمع المخلفات الحربية أو الكشف عنها ونزعها وتفكيكها من أخطر المهن، يمارسها في الشمال السوري أشخاص معظمهم يعتمد على خبرات اكتسبوها من تدريبات عسكرية أو من خلال ممارستهم لهذه المهمة بشكل عشوائي وغير منظم، دون الالتزام بإجراءات السلامة أو شروط الحماية أو حتى ارتداء الملابس والخوذ الواقية.
رغم خطورة هذه المهمة، إلا لحظات طريفة تتخللها أحياناً. يروي عبد الحميد أن الأهالي أصبحوا يشكّون في أي قطعة ملقاة على الأرض، حتى وإن كانت من مخلفات الأطعمة المعلبة. وقد مرّ عبد الحميد ورفاقه بعدة مواقف طريفة، كان من أبرزها تطويقهم لعلبة طعام فارغة بدت من الخارج على هيئة لغم أرضي، ليتبين لهم في النهاية أنها مجرد علبة فارغة.
في طريق عودة عبد الحميد ورفاقه مع غروب شمس كل نهار باتجاه مقرهم، يتذكر الأصدقاء لحظات التعب التي مروا بها وأعداد الألغام التي نزعوها والمواقف الصعبة والخطيرة تارة والطريفة تارة أخرى ولا يخلُ الحديث من المزاح والضحك. يصلون أخيراً إلى المقر، ينزلون فوارغ الألغام من السيارة، و يعودون لممارسة حياتهم الطبيعية. يعدون الطعام ويشربون الشاي ويدخنون السجائر على وقع أحاديث مغامراتهم اليومية في حقول الموت.