يتوزع أكثر من خمسين مركزاً لتجارة الحديد المستعمل والخردة في منطقة الشيخ خضر بحلب، إضافة لورشات تصنيع الحديد المنزلي والتجاري ومعمل أوكسجين. وشكّل الحديد المستعمل مصدراً رئيساً تعتمد عليه ورشات البناء، قبل سقوط حكومة الأسد، في إنشاءاتها، نظراً لانخفاض سعره مقارنة بسعر طن الحديد المستورد والذي وصل إلى ألف ومئتي دولار للطن الواحد.
يقول زكريا المجدمي، يعمل هو وأخوته في تجارة الحديد المستعمل منذ ثلاثة عقود ونيف، إن تجارتهم تعرّضت للكساد، إذ “أثّر هبوط سعر صرف الدولار بداية العام الحالي، بشكل مباشر، على البضائع الموجودة في المخازن”، وقدّر خسارة التجار بنحو “50% من قيمة الحديد في ظل ضعف السيولة النقدية لدى المشترين من صغار التجار والمواطنين”.
وتراجع، بحسب المجدمي، سعر طن الحديد المستعمل من 500 دولار إلى 300 دولار، وهو ما يقارب سعر طن الحديد الجديد الذي فقد نصف سعره، إذ وصل إلى 600 دولار تقريباً، بعد أن كان 1200 دولاراً. وقدّر المجدمي أن “بيع سعر طن الحديد (الطوناج) اليوم لا يتجاوز 150 دولاراً، بسبب الكساد”، معتبراً أن هذا السعر لا يتوافق مع “التقييم الحقيقي لثمن الحديد، ولكنه يباع فقط لتغطية تكلفة أجور العمال والمصروف المعيشي لا أكثر”.
تجارة الحديد المستعمل مرّت بمراحل، من حيث مصدر الحديد و الإتاوات المفروضة والقرارات التي رافقته، إذ اعتمدت هذه التجار قبل عام 2011 على مخلفات الحديد من معامل الصلب وحديد البيتون المستعمل وبقايا المركبات المتهالكة والخردة، إضافة لآلات المعامل القديمة، كان يطلب لشرائها فواتير موثقة تثبت ملكية أصحابها.
خلال سنوات الثورة السورية وحتى سقوط حكومة الأسد في الثامن من كانون الأول 2024، ارتبطت تجارة الحديد المستعمل بالفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، وباتت هي المتحكم في عمليات البيع والشراء للخردة والحديد المستعمل، وفرضت على تجميع هذه المواد إتاوات ورسوم.
أبوعلي كركوتلي، أحد كبار تجار الخردة في سوق الشيخ خضر، تحدث عن تفاصيل وآلية عمل الفرقة الرابعة بقوله “بعد توقيع عقد بيع وشراء الحديد المستعمل، والتأكد من أن البضائع لصاحب العلاقة وأنها خالية من أي شبهة، نُبلغ الفرقة الرابعة للحصول على موافقة وترفيق، وتنقل إلى قبان خاص بالفرقة الرابعة، إذ يدفع التاجر 1,2 مليون ليرة عن كل طن كأجور ترفيق”.
وأضاف كركوتلي أن الفرقة الرابعة كانت “تفرض طوقاً أمنياً مشدداً على مراكز الحديد في الشيخ خضر لمراقبة حركة الحديد وكمياته من خلال مقر لها في المنطقة، وعناصر جوالين يتجاوز عددهم عشرين عنصراً”. كما ألزمت الفرقة الرابعة مراكز الحديد ببيع (الطوناج) إلى مكاتبها مباشرة، وبمبلغ 150 دولاراً للطن الواحد، لتقوم هي ببيعه إلى معامل الصهر بـ 250 دولاراً.
وتنوّعت في هذه الفترة مصادر الحديد المستعمل، إذ اعتبر تعفيش المنازل التي دمّرها قصف قوات الأسد، وما نتج عن الزلزال، أحد أهم المصادر، وهو ما يمكن أن تراه في معظم الأبنية والمنازل في حلب الشرقية التي هجّر سكّانها نهاية عام 2016.
يقول من تحدثنا معهم من تجّار أن أشخاصاً يتبعون للفرقة الرابعة و “الشبيحة”، كانوا يجمعون الحديد المستعمل بعمليات “تعفيش وسرقة”، وصلت حدّ تكسير الأسقف للحصول على حديدها، وتجميعها في ما أطلقوا عليه اسم “البورات”.
يشرح تاجر، نخفي اسمه لأسباب أمنية، أن “البورات” وهي عبارة عن مراكز أهلية لمندوبين أو مستثمرين يتبعون للفرقة الرابعة، تستخدم لتجميع الحديد المستخرج من البيوت المهدمة شكلت الرافد الأهم لمراكز الحديد المستعمل في الشيخ خضر، واصفاً إياها بـ “منجم آخر للحديد”.
ويضيف أن تجاراً في المنطقة كانوا يشترون هذا الحديد، من البورات أو أشخاص آخرين، رغم معرفتهم بمصدره، أحياناً يكون هذا الشراء بالإجبار من الفرقة الرابعة وخوفاً من تعرّضهم للمساءلة في حال رفضهم ذلك، أو طمعاً في أسعار الحديد المستعمل الرخيص نسبياً مقارنة بسعره في السوق.
فهد أبو جاسم، وجد، حين عودته من رحلة تهجيره القسري في تركيا منزله في حي طريق الباب بحلب وقد تحول إلى “بورة” لتجميع الحديد والنحاس والبلاستيك المستعمل. يقول الجاسم إن شخصاً كان يعمل لصالح “عمر خربوطلي”، وصفه بـ “أحد الأشخاص التعاونين مع الفرقة الرابعة” استحوذ على منزله وحوله إلى “بورة”، ثم هرب من المكان تاركاً كل شيء خلفه.
وجد الجاسم في فكرة تحويل المنزل إلى مركز لشراء وبيع الحديد المستعمل فرصة عمل، إذ بات يشتري بنفسه الحديد المستعمل من البائعين الجوالين والنباشين، بأسعار لا تتجاوز ألفي ليرة سورية لكل كيلوغرام وبيعها للحدادين والزبائن بسعر يتراوح بين 3 إلى 4 آلاف ليرة سورية.
يقول الجاسم إن الحدادين يفضلون استعمال الحديد المستعمل اليوم في تصنيع (الأبواب والدرابزونات وغيرها) بسبب تكلفتها المنخفضة، قياساً بالحديد المصنّع. ويقول أبو عبدو كريدي صاحب محل حدادة في قاضي عسكر “إن سعر طن الحديد المستعمل يصل إلى 300 دولارا، ما يجعله حلاً ناجعاً ورخيصاً لترميم منازل العائدين إلى بيوتهم”.
بعد سقوط حكومة الأسد، أصدرت حكومة تصريف الأعمال، في الثامن من كانون الثاني 2025، قراراً بالتوقف عن شراء المعادن الخردة “الطوناج”، بأشكالها وأنواعها كافة، تحت طائلة المسؤولية ومصادرة الخردة وتعرض صاحبها للمساءلة، ولمدة عشرة أيام، حرصاً على “اقتصاد الدولة”، وتفادياً للعبث بـ “البنى التحتية والتعدي على القطعات العسكرية وحفاظاً على مقدرات البلد”.
كذلك رفعت مؤسسة الكهرباء، سعر الكهرباء الصناعية، وهي العنصر الأهم في عمليات التحويل كافة، ما زاد من مشكلات مراكز الحديد المستعمل وتوقف إعادة تشكيله. يقول أبو سالم كيالي، صاحب معمل صهر وإعادة تشكيل الحديد(درفلة)، إن “العامل الرئيس بتوقفنا عن العمل هو سعر الكهرباء المرتفع والذي يترك هامشاً ربحياً ضئيلاً، إذ ارتفع سعر الكيلو واط الساعي من 18 سنتاً إبان حكومة الأسد إلى 25 سنتاً بعد سقوط النظام”.
ويشرح كيالي أن مرحلة الصهر والدرفلة، التي تعتمد على الكهرباء، من أهم مراحل تحويل الطوناج والحديد المستعمل إلى حديد جديد، إذ تمرّ بعدة مراحل تبدأ بالطوناج، ثم تصهر وتحول إلى (بيليت) وهي عبارة عن سبائك حديدية بقياسات مختلفة، ثم يعاد تصنيعها في معامل الدرفلة إلى زوايا، ومبسط، وأسياخ الحديد التي تستعمل في البناء.
يطالب من تحدثنا معهم من أصحاب الفعاليات الصناعية وزارة الكهرباء بـ “تخفيض أجور استجرار الكهرباء إلى أسعار معقولة، أسوةً بدول الجوار مثل تركيا والأردن ومصر التي لا يتجاوز سعر الكيلو واط الساعي فيها 8 سنتات”. هذه المطالب، قوبلت، بحسب كيالي، بوعود من غرفة الصناعة بـ “خفض سعر الكهرباء الصناعية إلى 12 سنتاً، وملاحقة المعامل التي تستجر الكهرباء بطريقة غير مشروعة، الأمر الذي يؤثر سلباً على قدرة المعامل الأخرى على المنافسة في السوق”.
بعيداً عن هبوط سعر صرف الدولار وانخفاض سعر الحديد الجديد وارتفاع ثمن الكهرباء، يضيف تجار حديد مستعمل في حلب سبباً آخر لكساد تجارتهم يتعلق بـ “حبس السيولة النقدية في البنوك السورية، والتي يسمح للمودع فيها بسحب مبلغ 200 ألف ليرة سورية فقط كل يوم، في الوقت الذي تتجاوز فيه أرصدة تجار 200 ألف دولار أو أكثر”.
قوننة تجارة الحديد المستعمل والخردة ومساعدة أصحاب المعامل، قد يكون جزء من حلّ لتأمين الحديد اللازم لترميم وإعادة بناء المنازل بأسعار مناسبة، في ظل هشاشة الوضع الاقتصادي للعائدين وغياب الدعم الدولي والمحلي.