فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

أيادٍ متعبة ونظرات لا ترحم.. حكايات عمال نظافة في إدلب

جواهر ياسين

كل صباح يرتدي قبعته ويبدأ يومه الطويل بين أكوام القمامة، يبذل جهداً في التنظيف غير مكترث لنظرات الشفقة التي تلاحقه.. يقول: “أنا عامل نظافة، أنظف قمامة الناس، وأسعى لأقدم كل ما لدي”..

في أحد شوارع مدينة معرة مصرين شمالي إدلب، اعتاد أبو مصطفى البالغ من العمر 54 عامًا أن يبدأ نهاره بالعمل من الساعة الثامنة صباحاً حتى الخامسة مساءً بتنظيف الشارع الممتد على مساحة 2 كيلو متر مربع من قطاع طريق المازوت.

يلتقط أبو مصطفى أنفاسه بعد خمس ساعات من العمل الشاق، وقد أنهى كنس أكثر من نصف المساحة المخصصة له. يستند إلى عصا مكنسته ممسكاً المجحف في يده الأخرى، رفيقيه الدائمين في يوم عمله. يتأمل الشارع بعين الرضا وقد غمره شعور بالإنجاز وقد أصبح المكان نظيفاً.

ينغّص عليه هذا المشهد ألم في أسفل ظهره بدأ يشتد أخيراً كلما زادت ساعات الوقوف والعمل تحت درجات الحرارة المنخفضة. “أعود كل يوم وكأن عظامي مكسّرة”، يتمتم أبو مصطفى، مسترجعاً معاناته بين لهيب الصيف وصقيع الشتاء. آلام الظهر ترافقه حتى أثناء الراحة، ما يجعل النهوض وكأنه تحدٍ جديد. حياته ليست فقط عملاً شاقاً، بل ضغوطاً نفسية ومادية يومية تتراكم مع كل يوم ويصعب عليها كنسها.

كلمات أبي مصطفى تختصر واقع عمل عمال النظافة في إدلب وريفها، فهو واحد من بين 1043 عامل نظافة يتبعون لشركة مسؤولة عن أعمال النظافة في المدينة وريفها، يكافحون يومياً لساعات طويلة في ظروف مناخية قاسية للحفاظ على نظافة الشوارع وتأمين لقمة العيش.

تبدو الشوارع نظيفة بفضل جهود أبي مصطفى وباقي عمال النظافة، لكن خلف هذا المشهد البسيط حكايات مثقلة بالكدّ والتعب والتعرض للإساءة اللفظية بسبب طبيعة عمله. ابنه الصغير، الذي لم يستوعب بعد معنى العمل، يحمل في قلبه عتباً على والده. لقب “ابن الزبال” الذي كان يطلقه عليه رفاقه في الروضة وأطفال الحي كان يشعره بالدونية، وقد دفعه للتخلي عن السير معهم إلى الروضة القريبة.

هذه النظرة جعلت والده ينقله لروضة بعيدة عن الحي، مخصصاً ثلث راتبه الذي لا يتجاوز 115 دولاراً لتغطية أجرة المواصلات والقسط الشهري فيها، تاركاً بقية الراتب لتأمين احتياجات أسرته. يبرر ذلك بقوله “أنا مستعد أن أدفع ثمن إساءة أطفال الحي لابني ووصفهم له بـ ابن الزبال، وأشتري راحته وثقته بي، ولو كان ذلك على حساب تعبي”.

تغيرات كثيرة شهدتها مدينة إدلب خلال السنوات الماضية، إذ أدى نزوح وتهجير ملايين السوريين من مختلف المحافظات إليها إلى تضخم سكاني غير مسبوق. فبينما كان عدد سكان إدلب يُقدّر بحوالي مليوني نسمة وفق إحصائيات الأحوال المدنية لعام 2010  ارتفع هذا الرقم ليصل إلى نحو 4.5 مليون نسمة، وفق أحدث تقرير صادر عن منسقو استجابة سوريا  لعام 2024 يشكل النازحون نصفهم. أما إجمالي عدد السكان في شمال غربي سوريا، فقد زاد عن 6.5 مليون نسمة.

تزايد أعداد السكان في محافظة إدلب فرض ضغوطاً كبيرة على الخدمات الأساسية، ومن بينها خدمات النظافة، الأمر الذي أدى إلى تضاعف عدد العاملين في هذا القطاع خلال السنوات الأخيرة وخلق فرص عمل جديدة.

عامل نظافة في مدينة إدلب، تشرين الثاني 2024- المصدر: أرشيف فوكس حلب
عامل نظافة في مدينة إدلب، تشرين الثاني 2024- المصدر: أرشيف فوكس حلب

أبو مصطفى، الذي يعمل في مجال النظافة منذ أكثر من عشرين عاماً رغم حصوله على إجازة في العلوم، يذكر لنا أن عدد عمال النظافة في مجلس بلدية إدلب كان محدوداً في البداية، وكانوا موظفين برواتب شهرية، إلا أن صعوبة الحصول على وظيفة تناسب اختصاصه دفعت به إلى قبول وظيفة عامل بلدية حينها، ليستمر في هذا العمل حتى اليوم.

يتذكر أبو مصطفى الأيام الأولى للثورة وخروج المنطقة عن سيطرة النظام. آنذاك، عمل أبي مصطفى أكثر من سبع سنوات بشكل تطوعي ولم يكن هناك جهة تدعم العمال سوى بأجر بسيط لايتجاوز خمسين دولار شهرياً.

في عام 2022، تأسست في مدينة إدلب  “إي كلين” شركة خدمية عملت في مناطق حكومة الإنقاذ سابقاً، والآن توسع نشاط عملها في معظم المحافظات السورية، كجزء من الجهود الرامية لحماية البيئة والحفاظ على الصحة العامة، كما تعرّف عن نفسها.

تعمل هذه الشركة على إدارة النفايات وإعادة تدويرها إلى جانب العناية بالمساحات الخضراء من حدائق ودوارات وغيرها، وتشمل أعمال المؤسسة جميع المدن والبلدات والقرى في إدلب،  وتخدّم عدداً من المخيمات عند الحاجة أو الطلب من وزارة التنمية، قبل سقوط حكومة الأسد. يعمل في الشركة عمال تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 60 عاماً، بينهم عدد من العمال السابقين في البلديات والمجالس المحلية، ما يوفر لهم مصدر رزق في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة.

يقول فياض الحسين، مدير العلاقات العامة للمؤسسة “إن المعيار الأساسي للتوظيف في المؤسسة يعتمد على قدرة العامل على أداء المهام المطلوبة وإنجازها بكفاءة، مع الالتزام بألا يقل عمر المتقدم عن الثامنة عشر، لضمان جاهزيته البدنية والنفسية للعمل في هذا القطاع الحيوي”. رغم توفيرها فرص عمل للعديد من العاملين، إلا أن الرواتب التي تقدمها هذه المؤسسة تبقى متواضعة بالقياس مع حجم الوقت والجهد الذي يبذله العمال يومياً، فهي تبدأ من 105 دولار وتتدرج حسب العمل والوضع العائلي، وفق الحسين.

ذكر تقرير منسقو استجابة سوريا أن نسبة العوائل الواقعة تحت حد الفقر للسكان  في الشمال السوري وصل إلى قرابة 90 ٪ وفق مؤشرات الحدود الاقتصادية خلال شهر تشرين الأول من العام الماضي بناء على سعر الصرف وكمية الاحتياجات وارتفاع الأسعار.

يتقاضى أبو مصطفى وزملاؤه من عمال النظافة رواتب تتراوح بين 105 إلى 150 دولاراً شهرياً، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية احتياجات أسرهم الأساسية، و يغطي وفقاً للتقرير نحو ربع النفقات الشهرية للأسرة، ما يترك فجوة مالية واسعة بين الدخل والمصاريف المطلوبة.

إلى جانب تدني الأجور وصعوبة تأمين متطلبات الحياة، يواجه عمال النظافة تحديات اجتماعية قاسية، تتمثل في نظرة المجتمع السلبية والتنمّر الذي يطالهم وعائلاتهم، ما يزيد من الضغوط النفسية التي يعيشونها. تتداخل هذه التحديات مع الأوضاع المعيشية والصحية المتردية، لتجعل الحياة أكثر صعوبة. ورغم كل ذلك، يتمسّك العمال بالصبر والتحمل، مستمرين في كفاحهم اليومي بلا توقف.

عامل نظافة في مدينة إدلب، تشرين الثاني 2024- المصدر: أرشيف فوكس حلب
عامل نظافة في مدينة إدلب، تشرين الثاني 2024- المصدر: أرشيف فوكس حلب

في لحظة استرجاع ذكرى محفورة في ذهنه، قال أبو مصطفى : “عندما ذهبت لأطلب يد زوجتي، بدأت الحديث بفخر عن أصلي وفصلي، وأخبرتهم أني أحمل شهادة في العلوم. كان والدها يهز رأسه ويبتسم ابتسامة عريضة تعكس الرضا. ولكن ما إن صارحتهم أن مهنتي عامل نظافة في الحارة الجنوبية حتى تغيرت ملامحه واصطبغت ابتسامته بلون أصفر شاحب، كأنه يعلن عن خيبة أمل لم يستطع إخفاءها”.

الحارة الجنوبية التي يشير إليها أبو مصطفى هي حارته نفسها، بشوارعها الضيقة المليئة بالحفر، مضيفاً أن أم مصطفى “كانت مختلفة عن والدها، ولم ترَ في عملي ما يعيب، بل أصرت على والدها بأن ما أفعله يستحق الفخر”.

“الوظيفة بتستر بس ما بتغني”

صعوبة الحياة المعيشة وقلة فرص العمل دفعت  أبو سليم، البالغ من العمر ثلاثة وأربعين عاماً في مدينة إدلب إلى التقديم لوظيفة عامل نظافة في شركة “أي كلين”، متحدياً  النظرة المجتمعية لهذه المهنة. “أنا أعتبرها خياراً أفضل بكثير من العمل الحر لما توفره من راتب ثابت في نهاية الشهر ويوم عطلة، يمنحني استقراراً افتقدته لسنوات طويلة” يقول أبو سليم.

كان أبو سليم عامل مياومة بدخل بسيط ومتقطع لا يكفي لتلبية احتياجاته الأساسية، خاصة بعد أن ترك مهنته السابقة وهي تصليح الدراجات الهوائية، التي باتت غير مربحة ومتعبة، على حد قوله.

قبل حصوله على وظيفة في مؤسسة “إي كلين” الخدمية لم يستطع أبو سليم تحمل مسؤولياته الأسرية في ظل ارتفاع الأسعار المستمر واستغلال التجار للتضخم السكاني في إدلب وارتفاع أجرة العقارات والمنازل، ما جعل أبو سليم وكثر غيره من عمال المياومة  عاجزين عن تأمين أجرة منازلهم واحتياجاتهم المعيشية البسيطة، وتسبب بمشاكل عائلية انتهت بانفصاله عن زوجته.

للمفارقة، بعد وقت قصير، قُبل أبو سليم بمنصب سائق سيارة القمامة التي تجوب شوارع في مدينة إدلب، و تحديداً حي الجلاء الذي يتفرع إلى حارات سكنية و تجارية. استثمر ميزة الأعمال الإضافية خارج أوقات الدوام الرسمي، وهي متابعة الأعمال نفسها بعد انتهاء الدوام ليزيد من أجرته قليلاً، إذ يتقاضى أجراً وقدره مئة وخمسة وعشرين دولاراً. يقول “أنا اليوم أكثر ثقة بنفسي بعد أن فقدتها، وأصبحت قادراً على إعالة أسرتي، وأعدت زوجتي إليّ بعد انفصالنا وسوف أعوضها عن الأيام الصعبة التي عاشتها معي بسبب قلة عملي وتراكم الديون علينا”.

يدوام عمال النظافة طيلة أيام الأسبوع عدا يوم الجمعة، وفي حال وجود أعمال إضافية خارج أوقات الدوام الرسمي يتم احتسابها كساعات عمل مأجورة، ويحق للعاملين إجازة صحية وفق تقرير طبي وإجازات إدارية.

اضطر أبو سليم منذ فترة إلى تقديم إجازة مرضية لمدة ثلاثة أيام بسبب اشتداد الألم في يده اليمنى إثر حادث تعرض له أثناء قيادته مركبة نقل القمامة. يقول “لقد كانت فرصة للراحة من العمل، لكنني مضطر للعودة من أجل الحفاظ على الوظيفة، فأنا لم أحصل عليها بسهولة” مضيفاً “الوظيفة ما بتغني.. بس بتستر”.

أب، وأحد عشر ولداً

لا يعتمد أبو يحيى، 46 عاماً، وهو موظف آخر في مؤسسة النظافة يقيم في مخيم على طريق قرية بيرة كفتين في ريف إدلب، على راتبه فقط لإعالة أسرته المكونة من زوجته وأحد عشر طفلاً، بل يساعده ثلاثة من أطفاله في تأمين مصروف الأسرة اليومي.

يعمل يحيى أكبر أولاده ويبلغ من العمر 16 عاماً في بيع المناديل الورقية على الطرقات العامة في شوارع مدينة معرة مصرين بريف إدلب الشمالي، بعد أن تسرب من المدرسة لمساعدة والده، يشاركه المسؤولية شقيقه أحمد الذي يصغره بعامين، والذي اختص بمسح زجاج السيارات على إشارات المرور مقابل ليرات قليلة.

عامل نظافة في مدينة إدلب، تشرين الثاني 2024- المصدر: أرشيف فوكس حلب
عامل نظافة في مدينة إدلب، تشرين الثاني 2024- المصدر: أرشيف فوكس حلب

يقول والده “ربما ملابسه المهترئة وملامح التعب على وجهه ويديه تستعطف عدداً من المارة وأصحاب السيارات، لكنه أحياناً يتعرض للطرد والنهر من الأهالي ويسمع عبارات قاسية. وهذا يحز في قلبي. أتمنى أن أوفر له ولإخوته حياة أفضل وملابس جديدة ولقمة عيش كافية لكن لا خلاص من فقرنا إلا بالعمل”. ورغم كثرة عدد أولاده وكثرة مسؤولياته يرى أبو يحيى أن أطفاله سند له في المستقبل عندما يكبرون ويعملون، ويقدمون له ولأمه المساعدة والعون.

يتجول يحيى في الشارع ليبيع علب المناديل الورقية بملابس رقيقة تناسب حرارة الصيف أكثر من برودة الشتاء الحالية. تكشف ملابسه عن لون جلده المسمر من أثر أشعة الشمس الحارقة في الصيف الماضي والتي تركت بقعاً داكنة على رقبته ويديه. يقضي يومه في اعتراض المارة ليقنعهم بشراء بضاعته، علّه يجمع مبلغاً قليلاً في آخر النهار.

تتشارك مع الشقيقين في العمل أيضاً أختهم يمنى، التي تعمل مع ورش عمل جماعية في الحقول عند قطاف المواسم الزراعية وتعشيب البساتين، فقد أمضت الأشهر الأخيرة بالعمل في ورشة قطاف الزيتون. لاتوحي ملابس يمنى بأنها طفلة في الثالثة عشرة من عمرها، فهي عادة ما ترتدي عباءة طويلة سوداء اللون فضفاضة، تلف حول خصرها شالاً قديماً لتتمكن من التحرك بسهولة أثناء العمل، بينما تغطي رأسها بقبعة مستديرة كالتي يرتديها العمال.

لا ينتهِ المشهد بعمالة الأطفال عند هذه الأسرة المكافحة فإصابة الطفلة سارة الأخت التوأم ليمنى بسرطان الرئة حديثاً زاد من معاناة العائلة، فهي تصارع  الموت كل يوم. “الخبر نزل كالصاعقة” يقول الأب وقد حمّل نفسه مسؤولية الحياة البائسة التي تعيشها العائلة. مع ذلك، فهو كل صباح يرتدي قبعته ويبدأ يومه الطويل بين أكوام القمامة، يبذل جهداً في التنظيف غير مكترث لنظرات الشفقة التي تلاحقه مقابل حصوله على راتب شهري يصل إلى 110 دولار. يقول بحسرة: “أنا زبّال، أنظف قمامة الناس وأسعى لأقدم كل ما لدي”.

تختلف الشخصيات وتتشابه الظروف، فبينما ينهي أبو مصطفى يومه الطويل بكنس وتنظيف الشارع، ويقود أبو سليم شاحنته في شوارع إدلب، ويجمع أبو يحيى قواه لمواجهة يوم جديد وسط فقر وضغط معيشي، تبقى حكاياتهم شاهدة على معاناة لا تنتهِ وكفاح لا يتوقف. ورغم آلامهم الجسدية والنفسية فإن الشوارع النظيفة هي ثمرة جهودهم وفي زوايا تلك الشوارع ووسط القمامة تكمن قصص كفاحهم اليومية.