فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

 الدانا.. الطريق الزراعي الذي صار موطناً للمولات ووجهة للزوار

سلام زيدان

مبان بأشكال ومساحات مختلفة، طابقية وعلى الأرض، تتوزع على طرفي الطريق الذي توسّع عرضاً، يصطلح سوريون على تسميتها المولات

تغيّرت سمات الطريق الزراعي في مدينة الدانا بريف إدلب الشمالي، إذ لم يعد يحمل صفات اسمه “الزراعي”، التي كانت حتى وقت قريب منذ ثلاث سنوات، تحافظ على دلالتها بطريق ترابي يعبر الحقول والبساتين الممتدة من الدانا إلى سرمدا، دون إضاءات أو لوحات طرقية أو مبان طابقية. حقول من الأشجار والمزروعات يتخللها منازل متناثرة هنا وهناك، أكبر آمال من يملكون أراض فيه أن يعبّد ليصلوا إلى حقولهم بيسر وسهولة.

بعد أن تقطع، اليوم، مركز مدينة الدانا وبمسافة تزيد عن كيلو مترين، حتى دوار الزراعي، مبان بأشكال ومساحات مختلفة، طابقية وعلى الأرض، تتوزع على طرفي الطريق الذي توسّع عرضاً، يصطلح سوريون على تسميتها المولات، قسم منها يحقق ما يحمله الاسم من دلالة على مركز تجاري يضم بضائع متنوعة ومقاه ومطاعم ومواقف للسيارات وألعاب للأطفال، بينما تغيب عن قسم آخر هذه الدلالات ليحقق قسماً منها فيما يبدو أنه متجر كبير بأقسام مختلفة.

الطريق المعتم، بات معبّداً تتراصف على جنبيه أعمدة كهربائية تضيء المكان، وحبال كهربائية تومض في وجه روّاده لتشير إلى مجمّعات من المتاجر الكثيرة، وتعكس بإضاءتها على أبنية حديثة، بينما يظهر لك الازدحام على مرّ الساعات تحوّل الطريق إلى قِبلة الباحثين عن شراء احتياجاتهم أو الساعين للفرجة، ومتنفس مجاني يجد الأطفال في ألعابه المتناثرة مكاناَ لإفراغ طاقاتهم ودهشتهم.

الثامن من كانون الأول الماضي كان نقطة تحوّل في تاريخ السوريين واستعادتهم لبلادهم من حكم نظام الأسد، وإن كانت محافظات حلب ودمشق وحمص وحماه.. وساحاتها ومعالمها قد استقبلت آلافاً من التوّاقين لرؤيتها بعد سنين من البعد والتهجير والحرمان، حظيت إدلب بزوّار من مختلف هذه المحافظات، في رحلة عكسية عناوينها الرئيسة “مدينة الثورة، شكل آخر للمدينة لم يكن رائجاً في أدبيات صحف ومواقع نظام الأسد، مدينة بكهرباء، وليس آخراً مدينة المولات”.

الطريق الزراعي كان وجهة لزائري إدلب من أبنائها الذين كانوا يسكنون في مناطق نظام الأسد وحرموا من عودتهم، أو من أبناء محافظات أخرى، وشارع المولات كان له حظ أكبر في جذب هؤلاء لشراء البضائع والترويح عن النفس، بأسعار وجدوها مناسبة، وبأنواع غابت عن محلّاتهم ومتاجرهم، وبدافع من الفضول عزّزته وسائل التواصل الاجتماعي وعدوى الزائرين من جهة، وكرّسته مئات المحلات التي وجدوا فيها “كل شيء” على حدّ قول من التقيناهم. 

رقيّة الحسناوي، سيدة ثلاثينية قصدت مول الحمرا في مدينة الدانا قادمة من مدينة دمشق، رفقة أخواتها، لشراء ملابس لهن ولعائلاتهن، تحدّثت عن “بضائع غائبة عن أسواق دمشق، ماركات تركية وأوروبية، وبأسعار مخفضة مقارنة بمثيلاتها من البضائع المحلية، حتى على صعيد الجودة”.

الصورة من أحد المولات التجارية على الطريق بين الدانا وسرمدا في شمالي مدينة إدلب . شباط 2025- تصوير: سحر زعتور
داخل أحد المولات التجارية على الطريق بين الدانا وسرمدا شمالي إدلب . شباط 2025- تصوير: سحر زعتور

لـ رؤى العلي، من مدينة السلمية بريف حماه وجهة أخرى، إذ قصدت رفقة زوجها سوق السيارات لشراء سيارة بثمن لا يتجاوز عشرين بالمائة من سعرها في مناطق نظام الأسد سابقاً، لكن طريقها إلى سوق السيارات لا بدّ أن يمرّ من المولات، وشراء ما يلزم من هناك، حالها مثل حال مرح الخلف، التي وصلت إلى الطريق الزراعي من اللاذقية، وتركته حاملة معها مشاهد من الهندسة العمرانية والصخب والبضائع المتنوعة يمحو ما حُمّلت ذاكرتها سابقاً عن مدينة إدلب التي تعجّ بمظاهر السلاح وانعدام الحياة.

يتخطّى عدد المولات في إدلب عشرة مولات، إضافة للمتاجر الكبيرة والأسواق، ويحتضن الطريق الزراعي في الدانا العدد الأكبر منها، فكيفما التفتّ تجد مولاً أو متجراً كبيراً أو شركة.

ما إن تمرّ في الطريق، حتى يطالعك بناء طابقي، افتتح قبل سنتين ونيف، باسم مول الحمرا، يضم نحو 200 محلّ وصالة، تتوزع محال الألبسة والأحذية والحقائب والإكسسوارات ومواد التجميل والأدوات المنزلية ومعارض السلع الغذائية وبيع المنتجات الاستهلاكية والتموينية في طابقيه الأول والثاني، بينما يتركز بيع الأدوات الكهربائية في الطابق الثالث الذي تشغل المقاهي وألعاب الأطفال حيزاً منه، أمّا الطابق الرابع فتشغله المطاعم والمقاهي، إضافة لمصلّى للرجال وآخر للنساء، يربط بين هذه الطوابق مصاعد وسلالم كهربائية، إضافة لسلالم تقليدية.

ليس ببعيد عن مول الحمرا، يتوزع 40 محلّاً ضمن بناء طولي يحمل اسم مول رويال، تختلف بضائعه بين محلّ وآخر، بينما تختص مولات أخرى (متاجر) بمواد مخصصة، مثل داماس الذي لا يحتوي سوى على مواد غذائية، والصيني المختص بالأدوات المنزلية والكهربائية.

تشهد هذه المولات والمتاجر إقبالاً جيداً، تضاعف في الشهرين الأخيرين، قدّره أصحاب محلات تحدثنا إليهم بضعفين إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل الثامن من كانون الأول، ونسبة البيع بزيادة وصلت إلى 80%.

يؤكد محمد نقر، صاحب صالة كشكش للأدوات الكهربائية، زيادة عدد الزبائن والطلب على بضائعه في الآونة الأخيرة، وقدّرها بثلاثة أضعاف ما كانت عليه، ويعزو السبب إلى انخفاض الأسعار مقارنة بمناطق نظام الأسد سابقاً، وتنوع البضائع ومصادرها وماركاتها، وخدمة التوصيل المجاني التي أوجدتها هذه المحلّات لجذب الزبائن، كذلك الكفالة التي تمنحها المحلّات لمنتجاتها، خاصة قبل فرض الرسوم الجمركية الجديدة من قبل حكومة تصريف الأعمال في شباط الماضي.

الصورة من أحد المولات التجارية على الطريق بين الدانا وسرمدا في شمالي مدينة إدلب . شباط 2025- تصوير: سحر زعتور
داخل أحد المولات التجارية على الطريق بين الدانا وسرمدا شمالي إدلب – تصوير: سحر زعتور

يضرب كشكش مثالاً عن اختلاف الأسعار في مولات إدلب عنها في باقي المحافظات، يقول “سعر أفضل مكنسة كهربائية في معرضه 75 دولاراً مع كفالة لمدة خمس سنوات، هي ذاتها كانت تباع في دمشق على سبيل المثال بـ 250 دولاراً”.

يقدّر أبو صالح، مالك صالة SK4 للألبسة الجاهزة في مول الحمرا، زيادة نسبة البيع في صالته بنحو 30% خلال الشهرين الأخيرين، يقول إن السبب هو “جودة ورخص الألبسة في مولات إدلب مقارنة بمحافظات أخرى من جهة والعروض التي رافقت توجه زبائن من محافظات أخرى إليها، كطريقة جذب لهم”.

محمود ناصر حاج ناصر، صاحب صالة أمازون للمواد الغذائية في مول الحميدية، قدّر ارتفاع مبيعاته بنحو 70% نتيجة الإقبال على بضائعه من زبائن جدد ومن محافظات مختلفة، وأضاف أنه فوجئ بالفارق السعري الذي يصل أحياناً إلى الضعف بين ثمن منتجات في إدلب ومثيلاتها في محافظات أخرى.

على مدخل مول الحمرا، كان محمد الحموي يحمل غسالة أتوماتيكية قال إنه اشتراها بـ 250 دولاراً، وإنه بعد حساب تكلفة الطريق وفّر نحو 200 دولار من ثمنها، إذ تباع في مدينته بـ 500 دولار، والأمر ينسحب على معظم الأدوات الكهربائية الأخرى، على حدّ قوله.

يضيف الحموي أن ما دفعه للتوجّه إلى مولات إدلب هو ما سمعه عن فارق السعر وتنوّع البضائع ما يضعك أمام خيارات لم تكن متاحة في حماه سابقاً. وهو ما دفع أيضاً رئيفة الراغب لتجهيز ابنتها العروس منها، تقول “لم يعد هناك حاجة لزيارة أكثر من سوق لشراء جهاز العروس، من الأدوات الكهربائية والملابس وحتى الذهب كله متوفر هنا”.

يتوقع أصحاب محلّات تحدثنا معهم تراجع الإقبال خلال الفترة القادمة، بسبب الرسوم الجمركية التي رفعت الأسعار، إضافة لوصول البضائع إلى مختلف المحافظات وتوقع افتتاح مشاريع مماثلة فيها، يقول صاحب ملبوسات الترك في رويال مول إن “قانون الجمارك الذي صدر أخيراً تسبب برفع سعر أي قطعة لضعف ثمنها عما قبل ذلك، بعد الضرائب أصبحت الأسعار متقاربة مع أسعار مناطق سيطرة نظام الأسد سابقاً”.

يقدّر أبو صالح، أنه وبسبب رفع الجمارك، ارتفعت أسعار أنواع من الألبسة إلى الضعف وأحياناً أكثر من ذلك، إذ يدفع التاجر اليوم 250 دولاراً عوضاً عن 25 دولار كان يدفعها سابقاً عن كل طرد ملابس بوزن  60 كيلو غراماً.

زوّار مولات الطريق الزراعي الذين تحدثنا معهم قالوا إن إقبال أبناء محافظات أخرى على هذه المولات دفع أصحابها إلى زيادة السّعر، وهو ما ترك أثره عليهم، وقدّروا هذه الزيادة بين 20 إلى 30% على المواد الغذائية، وتضاعف سعر مواد أخرى مثل الألبسة والأدوات المنزلية والكهربائية، الأمر الذي نفاه التّجار بقولهم إن الأمر يعود إلى الرسوم الجمركية فقط، وإنهم اعتمدوا نظام العروض لتخفيض الأسعار لا زيادتها.

الصورة من أحد المولات التجارية على الطريق بين الدانا وسرمدا في شمالي مدينة إدلب . شباط 2025- تصوير: سحر زعتور
داخل أحد المولات التجارية على الطريق بين الدانا وسرمدا شمالي إدلب – تصوير: سحر زعتور

أمام الأسعار الجديدة، يجد سكّان إدلب لا زائريها أنفسهم أمام زيارة المولات للفرجة والترفيه عن أطفالهم. يقول من تحدثنا معهم إن هذه المولات مخصصة “لطبقة معينة”، وإن الحديث عن رخص الأسعار أمر مبالغ فيه، حتى في مناطق سيطرة نظام الأسد سابقاً هناك طبقة محددة تستطيع الشراء وأخرى تكتفي بالتحديق والمشاهدة، المشي داخل المولات والتنقل بين المحلات دون أن تستطيع شراء قطعة واحدة.

غالية العيسى مهجرة تسكن مخيمات أطمة على الحدود السورية التركية، قالت إنها اكتفت بالمشاهدة واستمتعت بمناظر البضائع، وإنها كلّما اقتربت من الزجاج لرؤية الأسعار المعلّقة عليها تحسست بقايا الليرات القليلة في جيبها، ونظرت إلى زوجها الذي يخبرها ساخراً “منشتري من محل الحجة وضحة بالمخيم بتضل أرحم من تجار المول”.

الرحلة إلى المول باتت طقساً للنزهة ليس إلّا عند كثر، إذ تصطحب رؤى محمد، من سكان مدينة الدانا، وجاراتها في عطلة كل أسبوع أطفالهن إلى الطريق الزراعي، تقول “هناك فسحة للعب الأطفال ضمن حدود المول، أيضاً مقاعد للجلوس، وعربات لبيع الذرة وأطعمة الأطفال، إضافة للمقاهي والمطاعم لمن يملك ثمن ذلك”.

لا تجد كرسياً فارغاً لكثرة الازدحام في فسح المولات، تقول أم عبدو، من مدينة الأتارب، “بصراحة منجي أنا وجاراتي منغير جو من البيوت منتفرج ومنستمتع بالمناظر الحلوة، منشوف اشياء كلها حلوة بالمول، نحن بحاجة لنروّح عن حالنا بنظرنا للأشياء المريحة للعين إلي بتعطينا راحة نفسية حتى لو ما اشترينا وكمان بيلعبو لولاد بالملاهي بدون ما ندفع أي مبلغ”.

لأجل ذلك تختار العائلات مولاً عن غيره، فـ رويال مول يمتاز عن غيره من مولي الحمرا والحميدية على سبيل المثال، بمتسع أكبر للأطفال، “مراجيح وزحليقات وبيوت بلاستيكية صغيرة ملونة وأحصنة وغيرها من الألعاب”، وهو ما يدفع عائلات، خاصة من أبناء المخيمات الملاصقة، وكأنها حياة أخرى على بعد مئات الأمتار، إلى الذهاب إلى المولات لمنح أطفالهم حق اللعب في حدائق بألعاب تغيب عن المخيمات وتحرمهم الظروف المادية لذويهم من دخول المأجورة منها، والتي قد يصل أقل أجر لعبة فيها إلى خمسين ليرة تركية (نحو دولار ونصف الدولار)، بحسب ماجد أبو عبدو، أحد سكان المخيمات في الدانا.

يرسم الطريق الزراعي ملامح السكان اليوم، بين قادر على الشراء ومكتف بالمشاهدة، بين أن تكون الألعاب لتهدئة أطفال عائلات تتسوق أوملاذاً مجانياً حين تنعدم وسائل الترفيه واللعب، بين سياحة عكسية وخيار وحيد،  وأخيراً بين أبنية طابقية بمحلات زجاجية وأضواء ملونة تحيط بها كيفما التفتّ مخيمات لا يجد سكّانها أمامهم سوى طريق معبّد يقودهم إلى مكان لا يمتلكون فيه سوى حق التحديق، وفي أحسن الأحوال شراء “عرنوس من الذرة” تضاعف سعره ثلاث مرات عما كان عليه قبل أسابيع قليلة.