فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

دير جمال.. قرية تبحث عن الحياة.. وعن كل شيء تقريباً!

وئام عبد القادر

قبل شهرين فقط كانت فكرة العبور على الطريق الدولي والذهاب إلى قرية دير جمال ضرباً من المستحيل، واليوم يروي هذا الطريق ما مر على القرية في غياب أهلها

الساعة الثانية عشرة ظهرًا من يوم الجمعة، العاشر من كانون الثاني، انطلقت رحلة عودتي مع زوجي وطفليّ إلى قريتي دير جمال في ريف حلب الشمالي. استغرق الطريق من مدينة أعزاز إلى القرية قرابة عشرين دقيقة فقط، ولكن خلف هذه الدقائق القليلة، كانت تختبئ ثماني سنوات من الغياب القسري منذ خروجنا من القرية عام 2016 عندما سيطرت عليها “وحدات حماية الشعب  والمرأة  وجيش الثوار”، المنضوية في “قوات سوريا الديمقراطية”.

تقع دير جمال على الطريق الدولي الذي يربط مدينة حلب بمدينة عفرين، وتبعد عن مدينة حلب حوالي ثلاثين كيلومترًا. تتبع القرية إداريًا لمجلس البلدة، وكان يقطنها نحو اثنين و عشرين ألف نسمة وفق آخر إحصائية للمجلس سنة 2016، ويشرف المجلس على خمس قرى هي، تنب، كشتعار، عجار، كفر انطون، مراش.

الزيارة الأولى

قبل شهرين فقط، كانت فكرة العبور على الطريق الدولي والذهاب إلى القرية ضربًا من المستحيل. رغم ذلك، لم أنسَ ملامح الطريق المؤدي إليها. لكن اليوم كل شيء على هذا الطريق يروي قصص حرب قاسية مرت على القرية في غياب أهلها. منازل مدمرة، مآذن منهارة، طرقات محفرة، محطات وقود خاوية، وآليات عسكرية متروكة على جانبي الطريق، بعضها معطوب وآخر مدمر تمامًا.

الصورة من قرية دير جمال في ريف حلب الشمالي. شباط 2025
الصورة من قرية دير جمال في ريف حلب الشمالي. شباط 2025

لا يختلف مشهد الدمار غربي الطريق عن شرقه سوى بوجود لافتات تحمل أسماء القرى التي تحولت إلى مدن أشباح. منغ ومرعناز كانتا أيضًا قريتان شاهدتان على دمار خلّفه نظام الأسد والقوى التي سيطرت عليهما فيما بعد منها وحدات الحماية الكردية.

فور وصولي إلى قرية دير جمال، استقبلتني جدتي بابتسامتها الحنونة، كانت قد سبقتنا جميعًا إلى منزلها مع جدي منذ أسبوع. بيت جدي كان شاهدًا حيًا على كل شيء. تغيرت ملامح المنزل، لم تعد كما كانت وكأنه أصيب بشيخوخة مبكرة. عرائش العنب لم يبقَ منها سوى هيكلها الحديدي، وأشجار الياسمين اختفت وكأنها لم تكن. هنا بابٌ أُغلق وآخر فُتح هناك خلال فترة غيابهم وسيطرة “وحدات حماية الشعب  والمرأة  وجيش الثوار”، المنضوية في “قوات سوريا الديمقراطية” وقوات نظام الأسد على المنطقة، تحولت منازل المدنيين المهجرين ومنها منزل جدي إلى مقرات عسكرية وإدارية، تاركة خلفها ذاكرة مثقلة بالوجع والحنين.

بعد ثماني سنوات من النزوح في مخيمات وتجمعات سكنية شمالي سوريا، تواجه الأسر العائدة إلى قرية دير جمال اليوم تحديات كبيرة، منها دمار المنازل وعدم جاهزيتها للسكن وتدمير البنية التحتية وغياب الخدمات الأساسية من شبكات الكهرباء والمياه والإنترنت والصرف الصحي، فضلاً عن تدمير جزئي أو كلي للمدارس والمركز الصحي الوحيد في القرية.

تشاركت قوى عديدة السيطرة على دير جمال والقرى التابعة والمجاورة لها في ريف حلب الشمالي، فبعد حملة قصف عنيفة على القرية نهاية عام 2015 من قبل طائرات نظام الأسد وروسيا، أحكمت “وحدات حماية الشعب  والمرأة  وجيش الثوار”، المنضوية في “قوات سوريا الديمقراطية” سيطرتها على القرية في الثامن من شباط 2016، بموجب اتفاق مع فصائل المعارضة السورية التي انسحبت منها، وهّجر سكانها ودمّرت وسرقت أحياء سكنية داخلها بالكامل.

استخدمت القرية والقرى المحيطة بها كمركز عسكري ومدني لـ قوات سوريا الديمقراطية، القوة الوحيدة المسيطرة عليها آنذاك، قبل أن تدخلها قوات نظام الأسد والميليشيات التابعة لها وتشاركها السيطرة على البلدة، وتقيم روسيا قاعدة عسكرية لها في مدينة تل رفعت المجاورة في آب 2017.

مطلع 2018  شنت فصائل الجيش الوطني عملية عسكرية تحت مسمّى “غصن الزيتون” بدعم تركي، سيطرت خلالها على منطقة عفرين بالكامل، ما أدى إلى انسحاب قسد إلى تل رفعت وقرى سد الشهباء التابعة لمدينة مارع شمالي حلب، والقرى التي سيطرت عليها في 2016، والتي تحوّلت إلى مكان يؤوي العائلات النازحة من منطقة عفرين بسبب العملية العسكرية. لم تكن نسبة هؤلاء تتجاوز خمسة بالمئة من سكان القرية، وفقًا لتقديرات معتصم، أحد شبان القرية.

ليلة في القرية

بعد شهر ونصف الشهر من انسحاب قوات الحماية الكردية من ريف حلب الشمالي، قررت مع عائلتي أن نزور قريتنا ونقضي يوماً كاملًا في دار جدي. وضّبْتُ الحقائب وتأكدت من وجود جهاز الرذاذ الذي يستخدمه ابني حسن، تسعة أعوام، لنوبات الربو التي تصيبه منذ صغره.

اعتقدت لوهلة أن قلة الخدمات لن تؤثر علينا في زيارتنا المؤقتة، ولكن سرعان ما بدأت أواجه أول مشكلة مع حلول الليل، إذ تعرض حسن لنوبة ربو مفاجئة، حاولت استخدام الكهرباء من الطاقة الشمسية المتاحة لتشغيل جهاز الرذاذ، إلا أنها لم تكن كافية. مع تدهور حالة طفلي الصحية وصعوبة التنفس لديه، وعجزي عن تأمين كهرباء لتشغيل الجهاز الذي نفد شحن بطاريته قررت العودة إلى منزلي في مدينة أعزاز.

استقلينا السيارة أنا وعائلتي عند الساعة الحادية عشرة ليلًا وعدنا إلى منزلنا لإجراء جلسات الرذاذ الضرورية لحالته. أخبرتني جدتي أنه لو كان المركز الصحي الوحيد في القرية مجهزاً لما اضطررت للعودة ليلاً إلى أعزاز، ولكن المركز خارج الخدمة منذ سنوات.

تتالى الحوادث اليومية التي تحتاج إلى مراكز طبية للعلاج في القرية إذ أدى انفجار دراجة نارية مفخخة داخل القرية في الأول من كانون الثاني الماضي إلى إصابة طفل يبلغ من العمر اثني عشر عاماً، في منطقة البطن، وأسعفه المدنيون بوساطة سيارة خاصة إلى أقرب نقطة طبية في مدينة أعزاز،التي  تبعد عن القرية نحو عشرين كيلو متراً.

خدمات محدودة

البنية التحتية للكهرباء شبه مدمرة نتيجة القصف الذي تعرضت له المنطقة سابقاً، وتحتاج عملية ترميم الشبكة إلى معدات كثيرة وشبكة جديدة كي تتم التغذية بالكامل، وفق ما قاله محمد خالد كنجو، رئيس المجلس المحلي للقرية.

سابقًا اعتمدت قوات الحماية خلال فترة سيطرتها على استخدام مولدات كهربائية لتغذية القرية عن طريق الأمبيرات، وقدّر كنجو استهلاك المولدات الكلي في اليوم الواحد بنحو برميلي مازوت بتكلفة 340 دولار أمريكي وهو مبلغ يحتاج دعماً حكومياً للاستمرار.

وكان المجلس المحلي قد عثر على كمية من المازوت تركته قوات الحماية الكردية بعد انسحابها من المنطقة، واستطاع تشغيل الكهرباء لمدة خمسة عشر يوماً، لكنها توقفت مع انتهاء الكمية. يقول كنجو إن ضعف الإمكانيات المادية المتاحة وعدم تدخل أي جهة حكومية أو غير حكومية في إدارة المنطقة تسبب بتوقف عملية ضخ الكهرباء نهائيًا، وذلك بعد أن عمل المجلس المحلي للقرية على تأمين خدمات المياه والنظافة والأفران منذ الأيام الأولى لاستعادة السيطرة على القرية وفق الإمكانيات المتاحة.

الصورة من قرية دير جمال في ريف حلب الشمالي. شباط 2025
الصورة من قرية دير جمال في ريف حلب الشمالي. شباط 2025

تعمل الأفران في المنطقة بشكل يومي وتغطي حاجة القرية والقرى الخمس الأخرى التابعة لها إدراياً، إضافة إلى قرية أبين أيضاً، وأخيراً دعمت منظمة شفق 70% من تكلفة مادة الطحين فيما تكفل المجلس المحلي بالنسبة المتبقية. وتباع الربطة التي تزن واحد كيلو غرام اليوم  بثلاثة آلاف ليرة سورية، أي بنحو ثماني ليرات تركية.

بالنسبة للمياه، أعيد تشغيل محطات ضخ المياه، مطلع شهر ديسمبر الماضي، بتبرعات شخصية من بعض أهالي القرية، إذ تحتاج عملية ضخ المياه إلى تشغيل مولدات الكهرباء، تستهلك كل مولدة عشرين لترًا من المازوت في الساعة، أي أن تكلفة تشغيلها 12 ساعة لتصبح المحولات قادرة على ضخ المياه للقرية تحتاج إلى أكثر من مئتي لتر من المازوت يومياً.

الوضع الخدمي المتدني شكل تحديًا بالنسبة للأهالي العائدين إلى القرية، ورغم افتقارها بالوقت الحالي لأدنى مقومات الحياة من  كهرباء ومراكز صحية وخدمات إنترنت إلا أن العديد من سكانها النازحين قرروا العودة إلى منازلهم بعد سنوات قضوها في ظروف قاسية داخل الخيام.

العودة للديار

ودّعت أم هشام 49 عاماً، وأطفالها الثلاثة  خيمتها المهترئة في مخيم شمارخ قرب مدينة أعزاز، وعادت مع أول أيام التحرير إلى منزلها في قرية دير جمال، رغم حاجة المنزل للصيانة والترميم، تقول إنه “أفضل من المخيم الذي عاشت به نحو تسع سنوات، وجدران منزلها المثقوبة من عدة جهات تبقى أفضل من قماش الخيمة”.

لم تفكر أم هشام كثيرًا بعدم توفر الكهرباء والإنترنت فهي خدمات اعتادت على شحها  في مخيمها أيضاً، ولا تقارن بالأيام الباردة شتاءً والحارّة صيفًا التي عاشتها وأطفالها في الخيمة، ولا برائحة أكياس النايلون المحترقة في المدفأة، لذلك  وضبت أغراضها القليلة وملابس أطفالها وعادت إلى منزلها فور استعادة السيطرة على القرية.

عوائل كثيرةٍ من أهالي قرية دير جمال أمثال أم هشام وأطفالها عادوا إليها فور تحريرها، مطلع كانون الأول الفائت، راضين بالواقع الخدمي المتردي والمتهالك للقرية، للخلاص من بؤس النزوح، محاولين التأقلم من جديد والبحث عن حلول و بدائل مؤقتة إلى حين تشغيل شبكات الكهرباء والاتصال وتحسين الواقع التعليمي وإعادة تأهيل المركز الصحي.

التعليم مشكلة أخرى تترصد العائدين إلى دير جمال، إذ أسفر خروج الكوادر التعليمية من القرية مع استعادة السيطرة عليها وعدم تعيين كوادر جديدة، حتى اللحظة، من قبل  حكومة تصريف الأعمال، عطّل العملية التعليمية، إذ يتطلب الأمر دفع رواتب شهرية لهذه الكوادر وهذا ما يعجز عنه المجلس المحلي للقرية، بحسب محمد كنجو.

ذهاب وإياب

رنا العبد، سيدة أخرى من عوائل دير جمال النازحة، تقيم في مخيم شمارخ الذي يضم عوائل كثيرة من القرية منذ نزوحهم، العودة إلى القرية بهذا الوقت جعلها تذهب وترجع من وإلى قريتها عدة مرات لمتابعة تعليم بناتها الأربع في المخيم فضلاً عن ترميم وتجهيز منزلها للسكن. تقول رنا السيدة الأربعينية “مع انتهاء الفصل الأول والامتحانات النصفية الحالية سوف أغادر المخيم بشكل كامل وأعود إلى منزلي في دير جمال”.

الذهاب والعودة مرات عدة كلف رنا مبالغ مالية كبيرة خارج قدرتها والتي تصل لـ 400 ليرة تركية في كل مرة، بسبب عدم توفر مواصلات عامة بين مناطق ريف حلب الشمالي المحررة حديثًا وارتفاع أجرة السيارات الخاصة. ما جعلها تسكن مع نصف عائلتها في القرية ويبقى النصف الآخر في أعزاز لمتابعة دراستهم الجامعية.

تضيف “فجأة لم نعد قادرين على تقبل الخيام ونتساءل بين بعضنا البعض كيف تمكّنا من العيش فيها أكثر من ثماني سنوات، العودة إلى القرية فتح أملًا جديدًا لنا بانتهاء مرحلة من عمرنا قضيناها تحت الخيام القماشية”.

الصورة من قرية دير جمال في ريف حلب الشمالي. شباط 2025
الصورة من قرية دير جمال في ريف حلب الشمالي. شباط 2025

منزل رنا لا يختلف عن منازل معظم أهالي القرية، ويحتاج إلى ترميم الأجزاء المهدمة منه وتصليح الكسوة الداخلية وتركيب أبواب ونوافد وخزانات مياه وحنفيات وغيرها من الأشياء إما المدمرة أو المهترئة أو المسروقة. بصوتها المرتجف تكمل حديثها عن رغبتها بالعيش في منزلها رغم سوء وضعه الحالي.

تسألني كل من أم هشام ورنا بحكم معرفتهما بي وبطبيعة عملي في الإعلام عن إمكانية تدخل المنظمات الإنسانية في إعادة ترميم وتجهيز المنازل في القرية كما يتم إشاعته بين أهالي القرى المدمرة التي عجز أهلها عن العودة إليها بسبب حاجتها إلى إعادة إعمار كاملة. لم يكن لدي إجابة مطمئنة للنساء اللواتي ينتظرن أي تأكيد عن استجابة أي جهة بعد مسألة ترميم وإصلاح المنازل فتهربت من الإجابة وغيرت الحديث.

أنفاق وخنادق

تركت القوى المسيطرة سابقًا على القرية خلفها إرثًا من الأنفاق ما تزال معالمها واضحة، ففي كل حارة يمكن أن ترى أكوام الأتربة والحفر. أخبرني عدد من سكان القرية الذين لم يغادروها أثناء سيطرة قوات قسد عليها عن أصوات الحفر التي كانوا يسمعونها كل ليلة دون معرفة مصدر تلك الأصوات، وبعد تحرير القرية تفاجأ السكان بحجم وكمية الأنفاق المحفورة تحت القرية.

الأنفاق الممتدة على مساحات واسعة تحت قرية دير جمال كانت تستخدم كملاجئ وقاعات اجتماع ومستودعات لتخزين الأسلحة والمواد الغذائية، وبعد التحرير استغرقت عملية تأمين هذه الأنفاق قرابة أسبوعين، حسب أبو أحمد، عسكري تابع لقوات الجيش الوطني، فضّل عدم ذكر اسمه الحقيقي لأسباب أمنية.

تكررت زيارتي إلى قريتي بعد تلك الليلة، وفي كل مرة كنت أزورها أحرص على التنقل سيرًا على الأقدام  في شوارعها لأستعيد ذكرياتي بها، تلك الذاكرة المرتبطة بالأحداث والمواقف وصوت الرصاص الحي على المتظاهرين، مشيت في شارع الثانوية العامة وكأني أمشي به لأول مرة بمزيج من مشاعر الفرح والحزن معًا، فحلم العودة صار حقيقة.