فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

ندرة الوقود وكثرة الألغام.. الزراعة في إدلب معركة أخرى

أميمة محمد

دون سابق إنذار انقطع المازوت المحسن عن محطات وقود الشمال السوري فزادت أجور حراثة الأراضي على فلاحين حرموا من أراضيهم لسنوات

يقف السبعيني أبو حسن من قرية داديخ بريف إدلب الشرقي عند تخوم أرضه، يطيل النظر متأملاً ما فعلته سنوات الحرب والنزوح بمصدر رزقه الوحيد. “الأرض تيبست وامتلأت بالأعشاب الصفراء” يقول متحسراً بينما يفاوض صاحب الجرار الزراعي على أجور الحراثة التي زادت كثيراً بسبب انقطاع المازوت المحلي، فاضطر أصحاب الآليات لرفع الأسعار بما يتناسب مع سعر المازوت الأوروبي الأغلى ثمناً.

أبو حسن، واحد من مئات المزارعين في أرياف إدلب وحلب وحماة عليهم المغامرة بحراثة أراضيهم الزراعية وزراعتها بأجور عالية، بعد انقطاع المازوت المحلي المكرر منذ بدء معركة ردع العدوان نهاية تشرين الثاني من العام الماضي، وذلك بعد توقف الإمدادات من مواد الفيول الخام من جانب المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد).

سابقاً اعتمد الأهالي في مناطق شمال غربي سوريا على مصدرين رئيسين للحصول على المازوت سواء للتدفئة أو المواصلات أو تشغيل الآليات الزراعية والصناعية وغيرها. المستورد عبر معبر باب الهوى، وهو المازوت الأوروبي ذو الجودة العالية والمواصفات العالمية، والمحلي الذي يتم تكريره في حراقات نفط بدائية في منطقة ترحين التابعة لمدينة الباب، شمال شرقي حلب.

المازوت المحلي، الذي يُطلق عليه اسم “المحسّن”، يخضع لعمليات تكرير محدودة تُحسّن جودته بشكل طفيف، لكنه يبقى الخيار الأكثر شيوعاً بين الأهالي بسبب تكلفته المنخفضة مقارنةً بنظيره المستورد. يستخدم السكان هذا الوقود في مجالات متعددة، مثل التدفئة المنزلية وتشغيل المركبات والآلات الزراعية، والأفران.

مخاطرة لإحياء الأراضي

يواصل مزارعون كثر من أهالي ريف إدلب العودة إلى أراضيهم، محاولين استعادة بعض ما دمرته سنوات الحرب. فبعد تحرير المنطقة من سيطرة قوات نظام الأسد، عاد أمثال أبو حسن إلى حقولهم لحراثتها وزراعتها رغم العقبات الكبيرة التي تواجههم، بدءاً من ارتفاع تكاليف الحراثة وصولاً إلى صعوبة العثور على جرارات زراعية يقبل أصحابها المغامرة بالعمل في مناطق تعج بالألغام التي خلّفتها قوات النظام قبل انسحابها.

تسببت الألغام بمقتل وإصابة عشرات الأهالي العائدين إلى أراضيهم وما تزال تشكل تهديداً يومياً وتحصد ضحايا جدد بشكل متكرر. ورغم الجهود المتواصلة لفرق الدفاع المدني السوري في نزعها وتحذير السكان من مخاطرها يصرّ المزارعون على المضي قدماً لاستعادة مصدر رزقهم الوحيد.

حرث أبو حسن سبعين دونماً من أرضه وبذرها مناصفة بين محصولي القمح وحبة البركة، مقابل 600 دولار دفعها أجرة الحراثة، متخوفاً في الوقت نفسه من أن يكون قد تأخر عن موسم الزراعة إذ يزرع القمح وحبة البركة في بداية شهر كانون الأول.

تأخر أبو حسن ومزارعون في بذار الأرض قرابة شهر زاد من مخاوفهم من عدم نجاح المحصول أو إلحاق خسائر أخرى في الموسم ناهيك عن التكاليف التي دفعوها كأجرة حراثة وثمن البذار، فحتى من كان يعتمد على الأشجار المثمرة كمصدر دخل سوف يلجأ لزراعتها بمحاصيل موسمية لأن معظم أشجار المنطقة مقطوعة.

وحتى لايفوت أبو حسن موسم الزراعة لهذا العام، اضطر لدفع ضعف المبلغ المعتاد لحراثة أرضه تحفيزاً لصاحب الجرار الزراعي  ليوافق على العمل في ظروف خطرة. فالأرض التي تُركت لقرابة خمس سنوات دون عناية تحتاج لحراثة متكررة (أكثر من وجه) لإعادة تأهيلها للزراعة.

ينصح المهندس الزراعي خالد الطويل، المزارعين الذين قطعت أشجارهم المثمرة أو تعرضت للحرق أو القلع بزرعها مجدداً بالغراس الصغيرة، وزراعة الأرض من حولها بمحاصيل موسمية مناسبة لهذا الوقت من العام، مثل الكمون واليانسون والبرسيم والعصفر واستثمار الأرض بهذه المحاصيل لمدة عام أو عامين ريثما تنمو الشجيرات، فتزرع عندها بالبقوليات لتقوية التربة.

مخاطرة صاحب الجرار بحياته إضافة لانقطاع المازوت المحلي، واعتماد أصحاب الجرارات على المازوت الأوروبي المستورد باهظ الثمن مقارنة بـ”المازوت المحسن” زاد من أعباء المزارعين الذين يعانون أصلاً من ضعف الإمكانيات وندرة الموارد.

انقطاع المازوت المحسّن لم يؤثر على أجور الحراثة فحسب، فأجور التنقل بين أماكن السكن الحالية في مخيمات الشمال السوري أثقلت كاهل المزارع وحملته أعباء مالية إضافية. يقول أبو حسن “في كل مرة أذهب فيها من مكان إقامتي الحالي في أخترين شرقي أعزاز إلى أرضي، أضطر لدفع مبلغ 100 دولار أجرة نقل”. ويضيف أن عدم استقراره في قريته الأصلية داديخ يعود إلى الدمار الكبير الذي خلفه نظام الأسد في القرية وجميع المدن والبلدات التي انسحب منها في ريف إدلب الجنوبي.

كانت قرية داديخ التابعة لناحية سراقب في ريف إدلب الشرقي خط جبهة فاصل بين قوات النظام والفصائل المعارضة. سقطت القرية تحت سيطرة النظام في أوائل عام 2020 ما أدى إلى تهجير معظم سكانها. واليوم، مع عودة بعض الأهالي، تهدد ارتفاع التكاليف مستقبل الزراعة فيها.

لم يكن أبو حسن ومزارعون آخرون يتوقعون عودتهم لأراضيهم بعد انعدام المؤشرات لذلك، فباعوا معداتهم الزراعية بعد نزوحهم، يقول أبو حسن: “معظم آليات الزراعة التي كنت أملكها بعتها بعد نزوحنا بفترة قصيرة، بما في ذلك الجرار، ظناً مني أن العودة لن تكون قريبة”.

“نحرث ودمنا على كفنا”

 داديخ قرية أبو حسن كان لها نصيب كبير من الألغام التي زرعتها قوات النظام سابقاً خوفاً من تسلل عناصر الفصائل المعارضة إليها أثناء سيطرتهم على المنطقة. وبالرغم من ذلك خاطر أبو حسن رفقة ابنه بحياتهما لزراعتها، يقول “بجهود فردية قمنا بتمشيط أرضنا من الألغام والمتفجرات، سيراً على الأقدام ودون أدوات، لأن موسم الزراعة لم يعد يحتمل تأخيراً أكثر من ذلك”.

يهز رأسه ويأخذ نفساً عميقاً ثم يتابع: “كنا محظوظين ولم نجد ألغاماً مزروعة في أرضنا. ساعدنا على ذلك فلاح يحرث أراضي لأهالي القرية”، يشير إلى يده المرتجفة قائلاً “نحرث الأرض ودمنا على كفنا”.

قلة عدد الفرق الهندسية المختصة بنزع الألغام  في ريف إدلب جعل عدد من الأهالي يخاطرون بأنفسهم للبحث عنها وفكها ربما بطرق بدائية كما فعل أبو حسن وابنه، فالأراضي تحتاج جميعها للتمشيط لضمان عدم مقتل المزارعين بها.

يؤكد عصام، صاحب جرار زراعي يعمل حالياً في حراثة الأراضي الزراعية بريف إدلب، أن ارتفاع أجرة الحراثة يعود إلى انقطاع المازوت المحسن وارتفاع  سعر المازوت الأوروبي منذ أكثر من شهرين مشيراً إلى أن أجرة الحراثة تختلف بين منطقة وأخرى في قرى وبلدات ريف إدلب، حسب موقع الأرض وخطورتها. فالأرض القريبة أو المتاخمة لمناطق التّماس سابقاً أجرة حراثتها أكبر من غيرها، وتتراوح  بين 4 إلى 9 دولارات للدونم الواحد، بسبب كثرة الألغام المزروعة هناك.

وسجلت الفترة الأخيرة منذ بدء عودة الأهالي إلى مناطقهم مقتل 32 مدنياً بينهم 8 أطفال وامرأة، وإصابة 48 مدنياً بينهم 19 طفلاً بجروح منها بليغة في انفجار مخلفات الحرب والألغام في المناطق السورية، وثقتها فرق الدفاع المدني السوري ” الخوذ البيضاء” في الفترة الممتدة من 27 تشرين الثاني حتى يوم الأحد 5 كانون الثاني. يقول أبو حسن “قتل أربعة أشخاص في قريتنا وأصيب آخرون وإلى اليوم تستنزف الألغام الأهالي”.

كل القطاعات متأثرة

اعتماد المزارعين على المازوت المستورد في حراثة أراضيهم فترة انقطاع المازوت المحلي ضاعف من التكلفة بالإضافة لأعطال الآليات وعدم وجود مراكز صيانة قريبة من المنطقة كما يخبرنا الفلاح أبو محمد. ووفق نشرة الأسعار الصادرة عن الشركة العربية للبترول، بلغ سعر لتر المازوت الأوروبي 0.95 دولار بينما لم يعد يتوفر المازوت المحلي المحسن الذي كان سعر اللتر الواحد منه 22 ليرة تركية.

يقول أبو محمد وهو مزراع خمسيني من مدينة كفرنبل “إن انقطاع المازوت المحلي أثر على عدة قطاعات منها الزراعة والنقل والمواصلات وسببت عائقاً مادياً أمام معظم الأهالي لاسيما المزارعين النازحين الذين لم يبق لديهم مصدر رزق سوى زراعة أراضيهم بالمحاصيل الموسمية بعد أن قطعت عناصر النظام معظم أشجار التين والزيتون”. ويقدر أبو محمد خسارة الأراضي الزراعية للأشجار المزروعة في أرضه بنسبة 90 بالمئة.

كذلك أثر انقطاع المازوت المحلي على الورش الصغيرة والمصانع وقطاع المواصلات وأصحاب الآليات الثقيلة وأصحاب المهن التي تحتاج إلى مولدات تعمل على المازوت فزادت التكاليف المالية عليهم.

يخبرنا أبو محمد أنه كان يتقاضى أجرة حراثة دونم الأرض الزراعية دولارين فقط  قبل نزوح الناس من مناطقهم في ريف إدلب الجنوبي عندما كان المازوت المحسن يغزو المنطقة بسعر لا يتجاوز 15 ليرة تركية، وحتى عندما ارتفع سعره لحدود 22 ليرة تركية قبل انقطاعه بفترة قصيرة بقيت الأجرة نفسها.

يقول “اليوم بعد انقطاعه بشكل كامل من الأسواق ومحطات الوقود أصبحنا مضطرين للتعامل مع المازوت الأوروبي وازدادت أجرة الحراثة أكثر من الضعف، بمعدل أربعة دولارات  للدونم الواحد، مشيراً إلى أن هذه الأجرة تتضاعف أيضاً وقد تصل إلى ثمانية دولارات في حال احتاجت الأرض إلى الحراثة مرة أخرى”.

توقعات واستفسارات مهملة

فسر يامن العلي، وهو اسم مستعار لتاجر محروقات في منطقة كفرلوسين الحدودية، أسباب ارتفاع سعر المحروقات بنقص الكميات الواردة من مادة الفيول الخام إلى منطقة حراقات ترحين شمالي مدينة الباب بسبب المعارك العسكرية بين الجيش الوطني و”قسد” على ضفاف نهر الفرات شرقي حلب.

وفي ظل هذه الظروف لم يعد أمام الأهالي سوى الاعتماد على المازوت المستورد لاستخدامه  للآليات الزراعية وحتى المواصلات أو المولدات الكهربائية متحملين مبالغ إضافية تصل إلى نصف دولار تقريباً لكل لتر بين النوعين.

يقول العلي “إن الفارق الكبير بين سعر نوعي المازوت تسبب بضغوط اقتصادية كبيرة على الزبائن، وأصبح عبئاً ثقيلاً على كاهل السكان، خاصة المزارعين وأصحاب المولدات الكهربائية الذين يعتمدون بشكل مكثف على استهلاك الوقود. فالفارق في السعر يتجاوز 75 دولاراً للبرميل الواحد، مما يجعل التكلفة باهظة ويُفاقم معاناة الناس في تلبية احتياجاتهم اليومية”.

يتدوال الأهالي أخباراً غير موثوقة عن إمكانية عودة المازوت المحسن، لكن أبو محمد ومزارعون كثر يجزمون أنها مجرد شائعات، خاصة أن عمل الحراقات كان حلاً إسعافياً لمناطق شمال غربي سوريا واليوم يتوفر مازوت ذو جودة عالية لكن سعره مرتفع.

تواصلت “فوكس حلب” مع مكتب العلاقات الإعلامية بتاريخ 15 كانون الأول لتوجيه أسئلة للجهات المعنية في الحكومة، واحتمالية عودة توفر المازوت المحلي مجدداً، ثم كررنا الأسئلة بتاريخ 21 كانون الثاني مع إضافة سؤال حول إمكانية تغطية محطة بانياس لاحتياجات المنطقة وإن كان هناك حلول معينة، وأسئلة أخرى، لكننا لم نتلقَ رداً حتى اللحظة على الرغم من أن مشكلة ارتفاع الأسعار هذه تشغل المواطنين والمهجرين الذين لم يتبقَ لديهم سوى أرض بلا أشجار وبيوت بلا أسقف.